العراق نتاج لعبقرية المكان الذي سماه الاغريق ببلاد وادي الرافدين.. انه ميزوبوتيمياMesopotamia العريقة جدا بين النهرين العظيمين الأزليين: دجلة والفرات حيث بدأ الإنسان في وجوده وتفكيره واستقراره وتنظيمه.. لأنه بؤرة للتجمع والالتقاء البشري عبر التاريخ وكان العراق ملتقى للبشرية برا ونهرا وبحرا ، فهو عقدة الوصل بين الشرق والغرب ، وتنبؤنا مسالكه الاستراتيجية العمودية والافقية بأن الجغرافية البشرية قد رسمت خطوطا عميقة في لوحته الطبيعية من شماله الى جنوبه . ان التكوين الاجتماعي للعراق هو تلاقح عميق وطويل من التمازج السكاني عبر التاريخ . واذا كان ذلك ” التكوين ” هو الفرز الطبيعي لذلك التاريخ الذي شهد جملة هائلة من الايجاب والسلب وانتج تنوعات ثقافية وسلوكية غاية في التعقيد والقوة .
البنيان المرصوص : الخصوصية والتنوعات
انها بنية متراصة لا يمكن ان اجدها في ثقافة (او : تاريخ ثقافة) اخرى الا بصعوبة.. في حين تتوفر كاملة غير منقوصة في الثقافة العراقية.. فهي بنية متراصة من انساق متنوعة ومتعددة لا حدود لها. والنسق لا يقتصر على شكل معين، بل على مضمون واحد او عدة مضامين – كما تقول افكار ميشيل فوكو وهذا ما لم نجده في ثقافات اخرى. هذه الانساق لم تجد نفسها بين يوم وليلة، بل لها امتداداتها في اعماق الزمن البعيد، لكي نجد بقاياها وبعض رواسبها حاضرة اليوم.. وتجسدها عادات وتقاليد لمكونات اجتماعية ربما تتعايش معا في الظاهر، ولكنها تتباين على اشد ما يكون التباين في الباطن.
واذا كان التاريخ الثقافي للعراق قد عرف افقيا في تقسيماته الجغرافية بين الشمال والوسط والجنوب ، فانني قد اكتشفت بأن ثمة ثلاثية عمودية بثلاثية من نوع آخر استطيع ان افصح عنها في فصل آخر ، تلك التي احددّها حسب اطوال دجلة والفرات ، فثمة ثقافة عراقية متنوعة لما هو شرق دجلة ، واخرى ثقافة عراقية لما بين النهرين تمّثل خصوصيات العراق الممتدة من ديار بكر حتى البصرة عبر الموصل وبغداد .. وثمة ثقافة منفتحة لما ينتشر غرب الفرات وهي عربية خالصة وتمتد بين دير الزور والفرات الاعلى نزولا الى غربي الفرات الاوسط وهور الحمار .. ( وسيتم تحليلنا لجغرافية العراق الثقافية في فصل آخر ) .
الخصوصيات سر الجماليات
يعد البعض ثقافتنا العراقية جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العربية الواسعة، فلماذا كل هذه ” الخصوصية ” والتأكيد عليها؟ ويتساءلون: الا يعد ذلك خروجا عن سياق التكوين الثقافي في العراق ويؤسس لشعوبية جديدة؟ وانني اجيبهم – سامحهم الله – لاختزال الوقت بأن عليهم ان يتعرّفوا على معاني الخصوصية والشعوبية ويتأملوا طويلا في الوان الثقافة العراقية التي تعتبر تواريخها وجغرافياتها مستقرا للثقافة العربية كلها منذ ازمان وازمان، ولكن ثمة خصوصيات تمتلكها الثقافة العراقية مع اعتزازنا بالعروبة وبثقافتنا العربية، ولكن لو قورن العراق بغيره لوجدنا ان ثمة ثقافات عديدة تنتشر في العراق منها ما يعود الى آلاف السنين لاقوام لم تزل تزاول ثقافتها في الكنائس والاديرة والبيع التي يعود تاريخها الى القرن الاول لميلاد السيد المسيح.. وهناك ثقافة نهرية لدجلة للصابئة المندائيين التي لم تزل حية ترزق حتى يومنا هذا من دون الاخرين..
وهناك لغة وثقافة كردية عراقية لها تميزها ليس على مستوى تقاليد الناس حسب، بل ثمة مجمع علمي للاكراد ومثله للسريان الاراميين في العاصمة بغداد.. وثمة ثقافة تركمانية لها خصوصيتها وعراقتها وخصبها.. ثمة تقاليد ثقافية عراقية يتميز بها اليهود العراقيون ومازالوا يتشبثون بها حتى وهم في اسرائيل.. ثمة ثقافات مغلقة لدى بعض العراقيين لكل من اليزيدية في الشمال والمعدان في الجنوب.. ثمة تباينات واسعة في ثقافة العراقيين العرب من منطقة الى اخرى ومن مدينة الى اخرى.. الخ كل هذا وذاك لا نجده في اي مجتمع عربي مهما بلغت به التنوعات ولنأخذ لبنان مثلا في المشرق او الجزائر في المغرب.. فمن الضرورة ان تعترف الثقافة العربية نفسها بأن الثقافة العراقية هي المصدر الاول لمواريثها قاطبة منذ آلاف السنين.. وينبغي على العراقيين ان يدركوا ان تنوعات ثقافتهم هي سر جماليات تلك الثقافة.
انعدام الانسجامات وتلازم الانساق
وعليه، فان بنية الثقافة العراقية تختزن في داخلها تنوعات فاعلة تعمل على الارض وهي متعايشة برغم انعدام تجانساتها.. ان الانساق الثقافية العراقية غير متجانسة ابدا، ولكنها مترابطة مع بعضها البعض ترابطا عضويا ولا يمكنها ان تنفصم ابدا، فالنسق – اي نسق – لا يمكنه ان يحيا لوحده من دون ترابطه بالنسق الاخر. دعونا نتوقف قليلا عند الانساق المتباعدة اذ اجد ثمة افتراقات واسعة داخل بنية المجتمع العراقي كانت سببا في انتاج تناقضاته التي لا تنضب ابدا، وهي بحاجة الى سياسات مجّردة من كل ميول او اتجاهات.. من كل ما يتعلّق بتعاطف قبلي او بيئي او جهوي.. لنعترف ان ليس هناك اية انسجامات ثقافية بين ثقافات المدن والريف والبادية ( واذا كان الراحل الكبير علي الوردي قد اعتمد في نظريته العراقية على ثنائية البداوة والحضر متأثرا بابن خلدون قبل اكثر من ستة قرون، فأنني اعتمدت في الابعاد الثلاثية في نظريتي العراقية: المدينة والريف والبادية.. وقد وافقني الراحل الوردي قبل رحيله على ما كتبت).
من طرف آخر، ينبغي ان نعترف ان ليس هناك انسجامات بين ثقافة عرب الشمال عن عرب الجنوب وبين ثقافة ابناء الجزيرة الفراتية عن ابناء الفرات الاعلى عن ابناء الفرات الاوسط عن ابناء الجنوب .. بل لنعترف ، ان اسرار قوة الثقافة العراقية في الوانها ومصادرها وطبيعة تكويناتها ومنتجاتها لاجزاء جغرافية طولية ثقافة شرق دجلة اللواحقية التعددية وثقافة ما بين النهرين الاساسية والمختلطة وثقافة غرب الفرات البدوية.
انسجام الاساليب العراقية
لنعترف بأن ليس هناك انسجامات ثقافية في اسلوب حياة العراقيين بين ثقافة المسيحيين العراقيين الآرامية الكلدانية ام السريانية ام اليعقوبية ام الآثورية.. وثمة ثنائية ثقافية للاكراد السورانيين والاكراد البهدينانيين.. عن ثقافة الكرد الفيليين المتنوعة وثقافة الكرد الكويان .. ثمة ازدواجية بين ثقافة التركمان المدينية والقروية.. وهناك ثقافة الصابئة العراقيين النهرية عن ثقافة اليهود العراقيين القديمة عن ثقافة اليزيديين المغلقة عن ثقافة الشبك المتشابكة بين الثقافات المحلية عن خصوصية ثقافة الارمن الاقلية العراقية ، مع ثقافات متفرعة لكل من الكاكائيين والاسماعيليين والكركرية والبدو والمهاجرين عبر الجبال والبحر والصحراء وغيرهم . لنعترف بالوان الثقافات المحلية والجهوية والهامشية.. لكل مدينة عراقية ثقافتها العريقة والوانها : ثقافة البغداديين الملونة بشتى الالوان وثقافة البصرة الجنوبية التي تمثّل رأس الخليج بكل تموجاتها وثقافة الموصليين بخصوصيتها الجامعة للاطياف القديمة وثقافة محليات الكركوكيين والنجفيين والكربلائيين واهل الحلة واهل الناصرية والسماوة والديوانية وسوق الشيوخ والحي واهل العمارة واهل الكوت وعلي الغربي والشرقي واهل سامراء وتنوعات ديالى وعشائر الدليم وثقافة مدن الفرات الاعلى .. ثقافة اهل الجبل وثقافة اهل الهور (المعدان) وثقافة العشائر وثقافة القبائل وثقافة القرويين وثقافة البادية ومضارب البدو الرحل وثقافة قرى دجلة الاوسط وثقافة عربان ضفاف الانهار وثقافة التركمان وثقافات الاطراف الاخرى ..
هناك ثقافات الطبقات والمهن والاعمال الحرفية والوظائف الرسمية المدنية والعسكرية.. ثقافة باشوية قديمة وثقافة بكوية متوارثة وثقافة التجار الجلبية وثقافة الافندية وثقافة الملالي وثقافة علماء الدين وثقافة المعلمين وتلحق بها للمحامين والاطباء والمهندسين ولكل المهن الاخرى ثقافة خاصة بها. ثمة ثقافة للفقراء والمسحوقين.. اما ان توغلنا في الثقافة الاجتماعية وتغلغلنا في عالم المرأة العراقية لوجدنا ان ثمة ثقافة نسوية عراقية متنوعة هي الاخرى وخصوصا عند الطبقتين العليا والوسطى في المجتمع ناهيكم عن ثقافة المرأة لدى الطبقات الفقيرة.
المصدر
سيار الجميل. بنية الثقافة العراقية..
نقلا عن جريدة الصباح البغدادية ، 5 مايو 2007 .
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …