للعرب منظومة اخلاقية معينة فيها ما هو حسن من القيم والاساليب وفيها ما هو سيىء من العادات والتقاليد البالية.. ولقد كانت للعرب بحكم موقعهم الجغرافي من العالم مواريثهم من العلاقات الطبيعية مع مجتمعات اخرى ولكن بالوقت نفسه، كانت لهم انعزاليتهم بحكم تنوع بيئاتهم الجغرافية في هذا الوجود. وعليه نجد أن ابناء السواحل هم اكثر انفتاحا على الاخرين من ابناء الدواخل وكان ابناء الشواطىء والموانىء اكثر يسرا من ابناء اعماق البوادي أو الجبال.. وللعرب تفكيرهم ازاء طبيعة العلاقة بالاخرين مهما كانت غايتها واهدافها، وكثيرا ما يؤمنون بالمطلقات والتعميمات والخيالات والاساطير من دون التدقيق والاخذ بالنسبيات والواقعية من الامور.. وكثيرا ما يغالون في الاخطاء من دون اية تفكير جاد ويتوهمون بأن ثمة خطايا بل وينذهلون عندما تبدو امامهم حقائق لم يألفوها في مجتمعاتهم وخصوصا المغلقة على نفسها.. ويصل الامر من العلاقات بين الافراد الى الجماعات الى المجتمعات الى الشعوب والدول.. وكثيرا ما اسيىء ـ مثلا ـ فهم العلاقات الدولية بالكامل لأن العرب بالذات يفسرونها على امزجتهم واهوائهم من دون اية اعتبارات اخرى يحجبونها او انها فعلا قد حجبت عن اذهانهم بحكم تربياتهم القاصرة وضيق افقهم وضعفه! ان اهم طريقة لفهم طبيعة العلاقة الانسانية بين اثنين من البشر وبحكم الصداقة التي يتعارف عليها الخلق وتتبادلها كل الكائنات الحية بما فيها مجتمعات قديمة.. هو الكامن في الحريات الشخصية التي تعد مقدّسة لا يمكن لأي انسان او اي مجتمع ان يتدخل في شأنها خصوصا اذا كانت بحدود القانون المدني والاعراف البشرية.. فهل يدرك العرب اذن طبيعة الحريات الشخصية واهميتها البالغة التي لا يكتفون بتقييدها ضمن اطر الموروثات الدينية وهي لعمري اخلاقية عالية المستوى لا اعتراض عليها، بل يريدونها ضمن اطواق تقاليد اجتماعية يكون اغلبها بائسا ورديئا وقاهرا.. والاكثر بشاعة عندما تغدو العلاقات الانسانية مراقبة من قبل اجهزة وجواسيس بحكم شراسة الانظمة السياسية والدكتاتورية عند العرب وكان اكثرها بشاعة في العراق على عهد المخلوع صدام حسين بحيث كانت اجهزته تحصي على البشر ليس علاقاتهم الاسرية بل حتى انفاسهم في شهيقهم وزفيرهم.. ولا يعتقد المرء بأن سقوط صدام المفاجىء قد اسقط ميراثا تجسسيا ذكيا كاملا، فان تمرسا على مدى اربعة عقود منذ تشكيل جهاز حنين حتى 9 ابريل 2003 قد ترك ارثا واساليب وتقاليد عند الالاف المؤلفة من اولئك الذين امتهنوا هذه المهنة القذرة.. وانهم سيبقون يمارسونها ضد الاخرين بحكم ترسّبات ما بقي من ارث مخابراتي في تحطيم العلاقات الانسانية.. وهذا ما نراه ليس في العراق وحده بل في دول عربية اخرى مع اختلاف الوسائل والادوات.. ولابد ان نعرف ايضا بأن ممارسة تلك التدخلات والسيطرة على المعلومات واحتكار العلاقات وتوظيفها ضد اصحابها لم تقف عند حدود معينة في الدواخل، بل لها امتداداتها في الخارج ايضا!هل يدرك العرب معنى الصداقة؟ للاسف الشديد لم يدرك العرب ذلك لا بالمفهوم الفلسفي الوجودي ولا بالمفهوم الشخصي العادي في الحياة ولا بالمفهوم الادبي والشعري والرومانسي العاطفي ولا بالمفهوم النفعي البتهامي القائم على مصالح متبادلة ولا بالمفهوم السياسي المتنقل من الديبلوماسية الى المصالح الدائمة والمؤقتة.. وعليه اقول بأن العرب قد فشلوا فشلا ذريعا في حياتهم الحديثة، وخصوصا في بناء طبيعة علاقاتهم الاجتماعية والشخصية وفي اهدافهم وغاياتهم الوطنية والقومية وفي مصالحهم السياسية العليا والدولية! فتجارب تاريخية عربية عديدة تؤكد حدوث خيانات سياسية مصدرها سوء في العلاقات الشخصية او حدوث اختراقات وتدخلات ومؤامرات وشراء ذمم وخيانات.. الخ ونحن نسمع ونرى ان اي علاقة بريئة بين اثنين من الاصدقاء يتهمونها بشتى التهم من دون فهم ما يكمن وراءها من تجاذب طبيعي بين انسانين متشابهين ومتعاطفين! وان اي علاقة صداقة بين رجل وامرأة يفسرونها مهما كانت الاسباب والتبريرات والتسويغات انها علاقة جنسية ليس غيرها من دون اي فهم ان الصداقة بين الجنسين ربما تتلاقى فيها افكار، وربما تتبادل فيها عواطف، وربما تتبادل فيها هموم، وربما تتبادل فيها اشعار.. وربما اخيرا تختتم بالزواج.. الخ ان الانطلاق لتفسير العلاقة بين الجنسين من مهجع الكبت الذي استمر في المجتمعات العربية قرونا طويلة قد جعل المجتمع مريضا في رؤيته بعدم وجود تكافؤ في العلاقة وهذا ما يفسر موجات عاتية ضد المرأة وضد حرياتها وضد حقوقها او حتى ضد الرجل في مجتمعات اخرى.. بل ويصل الامر الى تطبيق احكام جائرة او ممارسة تعذيب قسري او توظيف اساليب للتشهير.. وكأن لا اخلاقيات اخرى تحكم المجتمعات العربية الا بمعزل عن الصداقات.. ولهذا، فان العالم يتهم العرب دوما بالتوحش اليوم كما كان ابن خلدون قد اتهمهم قبل مئات السنين، فهم لا يفهمون الصداقة والزمالة وحتى الحديث العابر بين الجنسين الا من خلال الكبت الجنسي الذي يعانون منه، ويصل الامر الى منع المصافحة ومنع سماع الصوت.. بل ويصل الامر الى ان العلاقة اليوم بين الشرقيين والغربيين او ان العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين يفسرونها تفسيرا لا اخلاقيا لا غير بحيث ان الاخلاق ( ومعناه عندهم : عدم ممارسة الجنس ) هي التي تحكم مجتمعاتنا الاسلامية التي تختلف عن الغرب والغربيين الذين يوصفون بعديمي الاخلاق كونهم يمارسون الاباحية والجنس والبوهيمية والحيونة! لا خلاف في ذلك اذا منحت الحريات الشخصية للانسان في مجتمعاتنا.. ان العقلية العربية السائدة التي تسّير حياتنا هي التي تسيطر بهذا الفهم على كل المنظومة بحيث وصل الامر الى تفسير صداقات حقيقية بين ادباء وشعراء وفنانين وتشكيليين ومفكرين وفلاسفة من الجنسين باوصاف لا تليق بهم ابدا، علما بأن الوهم يسيطر على اولئك المتخلفين الذين لا يرون وهم صم بكم عمي الا من خلال زاوية في الموقع الخطأ وهم في الحقيقة مرتهنون لما ذكرنا الى الترسبات البالية. ان العلاقات بين البشر لدى العرب القدماء كانت افضل بكثير مما هي اليوم عند الاحفاد في القرنين العشرين والواحد والعشرين.. عندما نقرأ كيف كانت العلاقات بعيدا عن الرق والعبودية وامتهان النسوة جاريات وحريم رغما عن ارادتهن.. عندما ندرك كيف يستخدم حتى الغلمان والولدان استخدامات بائسة من دون ارادتهم.. عندما كانت تؤكل حقوق طبقات اجتماعية وتسحق سحقا كاملا تحت عجلة ليس النبلاء والاقطاع حسب، بل حتى تحت سياط رجال امتهنوا لهم الدين امتهانا مازوشيا وصولا الى قهر اي تجمعات بشرية تنادي لتحقيق مطالب انسانية عادلة لها او علاقات نظيفة بين الجنسين حتى سياسية تحت مظلة خيرية.. فتخّون وتسجن وتمارس ضدها كل البشاعات!الحريات الشخصية العربية مقيّدة ومنتهكة!! قبل ان يتكلم العرب بحرياتهم السياسية والفكرية والعقائدية، وقبل ان يثرثروا بالديمقراطية والانتخابات وكأنهم مجتمعات راقية، عليهم ان يحسنوا تربية الاطفال والشباب العربي تربويات مدنية نظيفة قائمة على اسس احترام الاخر، ولابد ان يعالجوا انتهاكات ما يفعل بهم وبحرياتهم الشخصية والتدخل السافر في اراداتهم تحت مسميات شّتى وتقاليد عفنة شتى وتصرفات شائنة شتى.. صحيح ان الاخرين ليسوا ملائكة ولكن المتحضرون من البشر في هذا الوجود المعاصر لهم تقاليدهم الرائعة في احترام حريات الاخرين الشخصية ولا يمكن ابدا لأي انسان ان يتدخل بأي شأن لا يخصّه! العرب سواء يخاصمونك ام لا يخاصمونك فهم يتدخلون في امورك وشؤونك ولا تتخلص من كلامهم وتعليقاتهم واغتياباتهم وبذاءاتهم.. يتدخلون في قراراتك وحياتك واسلوبك في الحياة حتى في ملبسك وما تأكل وما تشعر وما تتصرف.. يتدخلون حتى في مشيتك في الشارع وتاكلك مع عائلتك عيونهم الوقحة ونظراتهم السمجة التي تخفي كبتا عميقا.. هناك شوارع عربية لا تتخلص المرأة من التحّرشات والتعليقات البذيئة من افواه المتسكعين! يتدخلون ويا للاسف الشديد حتى في صحوك ونومك عندما تضج الصراخات في البيوت والزعيق في الشوارع وصناعة الضوضاء من المايكروفونات التي تمنعك من ممارسة حقك المشروع في الراحة ببيتك من الفجر الباكر حتى ساعات الليل المتأخرة.. يتدخلون في ما يعجبك ان تلبسه او تقلعه.. كلها باسم التقاليد الاصيلة! هل نرى ذلك في مجتمعات اخرى غربية وشرقية؟ هل يفتقد الانسان حريته الشخصية في حياته كما يفتقدها في عالمنا العربي وجميع جنباته.. فكيف لا يفتقد حريته في علاقاته الشخصية وهي من اسمى ما يعتز به الانسان في هذا الوجود!؟ هل يتخلص حتى السياح من نقمة المتحجرين وبلادة سخرياتهم؟ هل باستطاعة الانسان ان يمارس ما يرغب فيه ليس خوفا من قانون الدولة بل تروعه اعراف المجتمعات البليدة؟ في دول عربية طبقّت قوانين وتعليمات غاية في التوحش والاعتداء على حريات الانسان الفردية وبنفس الوقت طبقّت قوانين غاية في الشفافية ولكنها عادة ما اصطدمت باعراف جامدة للمجتمع غاية في القسوة وغدت الدولة طيّعة لممارسات المجتمع خوفا منه او تزلفا اليه! هل هناك سياقات موحّدة في هذا العالم كله للحياة، ولكن لا يمكن للانسان ان يحيا من دون ضوابط، ولكن المجتمعات الليبرالية الحقيقية تتيح ضوابطها وتضمن مصالحها وحياتها من خلال توفير اكبر قدر من الحريات الشخصية! ان القوانين الرسمية مثلا – تحظر تماما على اي انسان الاطلاع على بريد انسان آخر تحت اي ظرف قسري، والا يعتبر ذلك انتهاكا للحريات الشخصية.. فكيف يضمن الانسان في مجتمعاتنا بريده الشخصي عندما نجد البعض يخرق ذلك بكل توحش وصلافة وكأن الامر بسيطا الى هذا الحد..؟؟الحريات الدينية مطلوبة في مجتمعاتنا لقد كتبت لي احدى الصديقات وهي سيدة فاضلة تعيش في اوربا منذ ثلاثين سنة انها تعّرضت لأسوأ حالات الاهانة في مجتمعها العربي ودفعت ولم تزل تدفع ضريبة قهرية كونها تزوجت من رجل على غير دينها ثم انفصلا.. ولكن هذه ( الخطيئة ) تلاحقها حتى اليوم من دون اي احترام لحريتها الشخصية في الاختيار لأول مرة ومن دون مراعاة وضعها اليوم وهي طليقة! وعليه، لابد ان نعترف ان هناك اقليات دينية عربية اصيلة في مجتمعاتنا العربية تعيش اليوم قهرا حقيقيا بسبب الهجمة الدينية من قبل بعض القوى الاصولية التي تؤلب الرأي العام المحلي والاجتماعي ضد الاقليات الدينية خصوصا باسم الشعارات الدينية.. وهذا يحدث لأول مرة في تاريخنا الاجتماعي وفي بيئاتنا العربية كاملة عندما كان التعايش والصداقة والاندماج سائدا في كل مفاصل المجتمع العربي على امتداد مئات السنين. ان الحريات الشخصية لابد ان يضمنها المجتمع قبل الدولة وتصبح القوانين بمثابة اعراف قيمية لا يمكن خرقها بسهولة.. ومن عادات مجتمعاتنا العربية القديمة واعرافها ان لا يتلصص احد على اسرار ومشاهد بيت احد اذ يعتبر ذلك خرقا لاسمى واطهر ما يحترز الانسان عليه من الحرية داخل بيته.. ولكن الامر اختلف عند نهايات القرن العشرين، واصبح التجسس والتخابر والتنّصت والتلصص والغدر والايذاء والاعتداء.. من اساليب البعض الشائعة وهي جنايات ترتكب بحق نخبنا ومبدعينا وسياسيينا خصوصا عندما يقوم بها اناس متضلعون من رجال امن ومخابرات وصحافة وموظفي اجهزة شبه رسمية وعصابات مارقة.. باسم البحث عن العلاقات المشبوهة وغير المشبوهة كي يمارسوا ليس وظيفة يرتزقوا منها، بل وسيلة تنعش رغباتهم المريضة! وعليه، فان الحياة العربية المعاصرة تعيش ازمة اخلاقية في علاقاتها العامة بعيدا عن الاخرين الذين يعتبرهم العرب اناس بلا اخلاق! لقد توضحت الهجمة الشرسة ضد الحريات الانسانية في مجتمعاتنا بغلبة الاهواء والتعصبات والامراض والترسبات وكل بلايا التخلف.ما العمل؟ ان ضمان الحريات الشخصية لكل انسان في اي مجتمع واي منظومة هو من الاسس الواجب توفيرها في ظل اي تغيير نوعي في حياة المجتمع العربي المعاصر.. فربما كانت هناك جاليات عربية تعيش في الغرب مثلا، ولكنها تمارس خطايا وانتهاكات بشعة تحت مسميات شتى من دون اي استفادة من قوانين واعراف وتقاليد من يضيفهم او من اراد ان يجعل منهم بشرا سوّيا ويمنحهم حتى جنسيتهم.. ان ضمان تأسيس مفردات راقية في التعامل بين العرب انفسهم بحاجة الى عشرات السنين كي يتخلص العرب من الافات المريضة المسيطرة على عقلياتهم ومن النزعات العقيمة الكامنة في عقولهم ومن غرائب التقاليد وعجائب المكبوتات التي تربوا عليها منذ صغرهم.. ان اصدار قوانين جديدة وتغيير قوانين قديمة، هي من انجع الوسائل واهم المرتكزات التي يمكن توظيفها لاحترام المشاعر وعدم اختراق حياة الاخرين والامتناع عن التدخل السافر في الحريات الشخصية للاخرين.. على الحكومات العربية اليوم ان تباشر مشروعات في التغيير وان تزرع نبتا طيبا وبذورا جديدة لدى النشىء العربي منذ صغره على احترام الحريات الشخصية وتقديسها.. فليس من الاهمية بمكان ان يحفظ صغارنا الايات القرآنية الكريمة على ظهر قلب وخصوصا كيف يمكنه ان يكون في آخرته من دون ان يعرف قيمة ما يمكن ان يتصّرف به في حياته الدنيا.. ان نسبة من الفتيات العربيا يذهبن ضحايا مأساوية بعد قتلهن لأسباب غسل العار.. فهل امر الدين بذلك استنادا الى الشبهات.. هذا فعلا من التوحش لا الانسانية!! واصبحت مجتمعات عربية متحضرة منذ القدم تلاحق في شواعها النسوة السافرات ويتم الاعتداء عليهن وعلى كل القيم.. وعلى الحريات الشخصية من دون اي وازع انساني يسعى للموازنة الحقيقية بين قيم الماضي وقيم الحاضر! ان على العرب ان يطلّعوا على تجارب الشعوب الاخرى في كيفية التعامل وبناء العلاقات وكسب الصداقات.. وهنا لابد لي ان اتوقف عند مفهوم الصداقة كجزء من طبيعة الحريات الشخصية لنعرف ما هي؟مفهوم الصداقة الحقيقية الصداقة بين الجنسين لابد ان نفهمها نزيهة ونبيلة تقوم على الثقة والاحترام ومتكافئة في ظل حقوق الحريات الشخصية والاخلاق البيتية.. لا ان يصادق الولد البنت خفية ويمارسوا كل ما هو خاطىء ويخرجوا على الناس حاملين معهما اسرارهما واخطاءهما وما يجر ما يسمى اليوم مثلا بزيجات ( الفرند )! الصداقة لابد ان يفهمها الكبار قبل الصغار والكهول قبل الشباب على انها علاقة انسانية راقية ليس بالضرورة ان تكون وراء منفعة تافهة او وراء نزوة عابرة او وراء مخادعة فارغة او وراء طيش احمق او وراء كبت عاطفي.. وكثيرا ما تفّسر لدى العرب على كونها ( خطيئة جنسية ) من دون ان يعلموا بأن الصداقات هي ليست بالضرورة كذلك.. هي تلاقي هوايات، هي تشابه رغبات، هي حوارات، هي ثقافة، هي مجالسة، هي بث شكوى وهموم، هي مساجلات ادب، هي مجاذبات افكار، هي تبادل اشعار، هي مشاركة فعاليات، هي اسفار، هي تبادل مشاعر حول الطبيعة والمعرفة هي مشاركة موسيقية وجدانية، هي باختصار شراكة نظيفة وبريئة لا يمكنها ان تتعّدى حدودها الى حيث التردّي.. الخ اننا نقف على ما تركه ادباء وشعراء وعلماء وفلاسفة على اسفار رائعة من الكتابات والمساجلات والرسائل والمكاتبات.. تفصح كلها عن صداقات غاية في الروعة مثل هذا النوع جمعت العديد من الرجال والنساء معا ولم تكن تحت اغطية فضائحية او تحت غايات بليدة محددة بلقاءات تمارس فيها الخطيئة في خمس دقائق وتنتهي القصة.. بل العكس هو الصحيح في ان نجد رسائل سيمون دي بوفوار العاطفية الى صديقها وعلم زوجها جان بول سارتر بتلك الرسائل لأن سارتر يدرك بأن الصداقة الشخصية ليس بالضرورة ستنزل شرفه الرفيع من عليائه وتمرغه في التراب وانه شرف سوف لا يسلم من الاذى.. فيقوم سارتر بأخذ الثأر من صديق دي بوفوار اذ يريق على جوانبه الدم! حتى وان كانت زوجته دي بوفوار ساحرة جميلة وليست قبيحة دميمة كما كانت.. فالصداقة التي جمعتهما كانت فوق كل ما يتخيله اي عربي الذي لا يرى في الصداقة الا اطلاق ما بين ساقيه!! ( وعذرا على التشبيه! ) وما حدث عندما كتب العقاد رسائله الى الاديبة مي.. هل كان يريد ان يمارس معها شيئا معينا حتى وان رغبت مي بذلك علما بأنها كانت تفتتح مجلسها للرجال من اصدقائها المتنوعين الذين قد توقع بينهن الغيرة ولكن ليس كما يتخيل بعض المتخلفين بأن الانسه مي كانت مجرد سلعة!! وهكذا بالنسبة لتولستوي الذي احب صديقات له او جميل الذي احب بثينة او ابن زيدون الذي عشق ولادة او ابو نؤاس في قصائده او ولي الدين يكن الذي سمى ابنته بفكتوريا تيمنا باسم صديقته او جان جينيه في عبثياته الشخصية او محمد شكري في تسكعاته وممارساته في شوارع طنجة ليلا.. الخ وأخيرا ان اعادة التفكير بهذا الموضوع الذي اراه حيويا جدا بحيث يشكّل قاعدة اساسية لكي يمارس الانسان حرياته الشخصية فكرا وفعلا سيتعلم كيف يمارس من بعد ذلك حرياته الاجتماعية وحرياته السياسية.. وستكون لي حتما رجعة اليه ثانية لنكمل بعض مستلزمات ما يحتاجه الجيل الجديد الذي ينطلق اليوم نحو افاق القرن الواحد والعشرين وقد اصبح العالم كله قرية كونية صغيرة.. الانسان فيها بحاجة الى اصدقاء له يساعد احدهم الاخر واذا لم تتوفر حريات شخصية في حياتنا العربية.. فلا مستقبل سياسي ديمقراطي للعرب ابدا!
الحريات الشخصية قبل غيرها!
هل يفهم العرب معنى الصداقة والعلاقات الانسانية؟
د. سيار الجميل
مدخل من اجل الفهم
للعرب منظومة اخلاقية معينة فيها ما هو حسن من القيم والاساليب وفيها ما هو سيىء من العادات والتقاليد البالية.. ولقد كانت للعرب بحكم موقعهم الجغرافي من العالم مواريثهم من العلاقات الطبيعية مع مجتمعات اخرى ولكن بالوقت نفسه، كانت لهم انعزاليتهم بحكم تنوع بيئاتهم الجغرافية في هذا الوجود. وعليه نجد أن ابناء السواحل هم اكثر انفتاحا على الاخرين من ابناء الدواخل وكان ابناء الشواطىء والموانىء اكثر يسرا من ابناء اعماق البوادي أو الجبال.. وللعرب تفكيرهم ازاء طبيعة العلاقة بالاخرين مهما كانت غايتها واهدافها، وكثيرا ما يؤمنون بالمطلقات والتعميمات والخيالات والاساطير من دون التدقيق والاخذ بالنسبيات والواقعية من الامور.. وكثيرا ما يغالون في الاخطاء من دون اية تفكير جاد ويتوهمون بأن ثمة خطايا بل وينذهلون عندما تبدو امامهم حقائق لم يألفوها في مجتمعاتهم وخصوصا المغلقة على نفسها.. ويصل الامر من العلاقات بين الافراد الى الجماعات الى المجتمعات الى الشعوب والدول.. وكثيرا ما اسيىء ـ مثلا ـ فهم العلاقات الدولية بالكامل لأن العرب بالذات يفسرونها على امزجتهم واهوائهم من دون اية اعتبارات اخرى يحجبونها او انها فعلا قد حجبت عن اذهانهم بحكم تربياتهم القاصرة وضيق افقهم وضعفه!
ان اهم طريقة لفهم طبيعة العلاقة الانسانية بين اثنين من البشر وبحكم الصداقة التي يتعارف عليها الخلق وتتبادلها كل الكائنات الحية بما فيها مجتمعات قديمة.. هو الكامن في الحريات الشخصية التي تعد مقدّسة لا يمكن لأي انسان او اي مجتمع ان يتدخل في شأنها خصوصا اذا كانت بحدود القانون المدني والاعراف البشرية.. فهل يدرك العرب اذن طبيعة الحريات الشخصية واهميتها البالغة التي لا يكتفون بتقييدها ضمن اطر الموروثات الدينية وهي لعمري اخلاقية عالية المستوى لا اعتراض عليها، بل يريدونها ضمن اطواق تقاليد اجتماعية يكون اغلبها بائسا ورديئا وقاهرا.. والاكثر بشاعة عندما تغدو العلاقات الانسانية مراقبة من قبل اجهزة وجواسيس بحكم شراسة الانظمة السياسية والدكتاتورية عند العرب وكان اكثرها بشاعة في العراق على عهد المخلوع صدام حسين بحيث كانت اجهزته تحصي على البشر ليس علاقاتهم الاسرية بل حتى انفاسهم في شهيقهم وزفيرهم.. ولا يعتقد المرء بأن سقوط صدام المفاجىء قد اسقط ميراثا تجسسيا ذكيا كاملا، فان تمرسا على مدى اربعة عقود منذ تشكيل جهاز حنين حتى 9 ابريل 2003 قد ترك ارثا واساليب وتقاليد عند الالاف المؤلفة من اولئك الذين امتهنوا هذه المهنة القذرة.. وانهم سيبقون يمارسونها ضد الاخرين بحكم ترسّبات ما بقي من ارث مخابراتي في تحطيم العلاقات الانسانية.. وهذا ما نراه ليس في العراق وحده بل في دول عربية اخرى مع اختلاف الوسائل والادوات.. ولابد ان نعرف ايضا بأن ممارسة تلك التدخلات والسيطرة على المعلومات واحتكار العلاقات وتوظيفها ضد اصحابها لم تقف عند حدود معينة في الدواخل، بل لها امتداداتها في الخارج ايضا!
هل يدرك العرب معنى الصداقة؟
للاسف الشديد لم يدرك العرب ذلك لا بالمفهوم الفلسفي الوجودي ولا بالمفهوم الشخصي العادي في الحياة ولا بالمفهوم الادبي والشعري والرومانسي العاطفي ولا بالمفهوم النفعي البتهامي القائم على مصالح متبادلة ولا بالمفهوم السياسي المتنقل من الديبلوماسية الى المصالح الدائمة والمؤقتة.. وعليه اقول بأن العرب قد فشلوا فشلا ذريعا في حياتهم الحديثة، وخصوصا في بناء طبيعة علاقاتهم الاجتماعية والشخصية وفي اهدافهم وغاياتهم الوطنية والقومية وفي مصالحهم السياسية العليا والدولية! فتجارب تاريخية عربية عديدة تؤكد حدوث خيانات سياسية مصدرها سوء في العلاقات الشخصية او حدوث اختراقات وتدخلات ومؤامرات وشراء ذمم وخيانات.. الخ ونحن نسمع ونرى ان اي علاقة بريئة بين اثنين من الاصدقاء يتهمونها بشتى التهم من دون فهم ما يكمن وراءها من تجاذب طبيعي بين انسانين متشابهين ومتعاطفين! وان اي علاقة صداقة بين رجل وامرأة يفسرونها مهما كانت الاسباب والتبريرات والتسويغات انها علاقة جنسية ليس غيرها من دون اي فهم ان الصداقة بين الجنسين ربما تتلاقى فيها افكار، وربما تتبادل فيها عواطف، وربما تتبادل فيها هموم، وربما تتبادل فيها اشعار.. وربما اخيرا تختتم بالزواج.. الخ
ان الانطلاق لتفسير العلاقة بين الجنسين من مهجع الكبت الذي استمر في المجتمعات العربية قرونا طويلة قد جعل المجتمع مريضا في رؤيته بعدم وجود تكافؤ في العلاقة وهذا ما يفسر موجات عاتية ضد المرأة وضد حرياتها وضد حقوقها او حتى ضد الرجل في مجتمعات اخرى.. بل ويصل الامر الى تطبيق احكام جائرة او ممارسة تعذيب قسري او توظيف اساليب للتشهير.. وكأن لا اخلاقيات اخرى تحكم المجتمعات العربية الا بمعزل عن الصداقات.. ولهذا، فان العالم يتهم العرب دوما بالتوحش اليوم كما كان ابن خلدون قد اتهمهم قبل مئات السنين، فهم لا يفهمون الصداقة والزمالة وحتى الحديث العابر بين الجنسين الا من خلال الكبت الجنسي الذي يعانون منه، ويصل الامر الى منع المصافحة ومنع سماع الصوت.. بل ويصل الامر الى ان العلاقة اليوم بين الشرقيين والغربيين او ان العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين يفسرونها تفسيرا لا اخلاقيا لا غير بحيث ان الاخلاق ( ومعناه عندهم : عدم ممارسة الجنس ) هي التي تحكم مجتمعاتنا الاسلامية التي تختلف عن الغرب والغربيين الذين يوصفون بعديمي الاخلاق كونهم يمارسون الاباحية والجنس والبوهيمية والحيونة! لا خلاف في ذلك اذا منحت الحريات الشخصية للانسان في مجتمعاتنا..
ان العقلية العربية السائدة التي تسّير حياتنا هي التي تسيطر بهذا الفهم على كل المنظومة بحيث وصل الامر الى تفسير صداقات حقيقية بين ادباء وشعراء وفنانين وتشكيليين ومفكرين وفلاسفة من الجنسين باوصاف لا تليق بهم ابدا، علما بأن الوهم يسيطر على اولئك المتخلفين الذين لا يرون وهم صم بكم عمي الا من خلال زاوية في الموقع الخطأ وهم في الحقيقة مرتهنون لما ذكرنا الى الترسبات البالية. ان العلاقات بين البشر لدى العرب القدماء كانت افضل بكثير مما هي اليوم عند الاحفاد في القرنين العشرين والواحد والعشرين.. عندما نقرأ كيف كانت العلاقات بعيدا عن الرق والعبودية وامتهان النسوة جاريات وحريم رغما عن ارادتهن.. عندما ندرك كيف يستخدم حتى الغلمان والولدان استخدامات بائسة من دون ارادتهم.. عندما كانت تؤكل حقوق طبقات اجتماعية وتسحق سحقا كاملا تحت عجلة ليس النبلاء والاقطاع حسب، بل حتى تحت سياط رجال امتهنوا لهم الدين امتهانا مازوشيا وصولا الى قهر اي تجمعات بشرية تنادي لتحقيق مطالب انسانية عادلة لها او علاقات نظيفة بين الجنسين حتى سياسية تحت مظلة خيرية.. فتخّون وتسجن وتمارس ضدها كل البشاعات!
الحريات الشخصية العربية مقيّدة ومنتهكة!!
قبل ان يتكلم العرب بحرياتهم السياسية والفكرية والعقائدية، وقبل ان يثرثروا بالديمقراطية والانتخابات وكأنهم مجتمعات راقية، عليهم ان يحسنوا تربية الاطفال والشباب العربي تربويات مدنية نظيفة قائمة على اسس احترام الاخر، ولابد ان يعالجوا انتهاكات ما يفعل بهم وبحرياتهم الشخصية والتدخل السافر في اراداتهم تحت مسميات شّتى وتقاليد عفنة شتى وتصرفات شائنة شتى.. صحيح ان الاخرين ليسوا ملائكة ولكن المتحضرون من البشر في هذا الوجود المعاصر لهم تقاليدهم الرائعة في احترام حريات الاخرين الشخصية ولا يمكن ابدا لأي انسان ان يتدخل بأي شأن لا يخصّه! العرب سواء يخاصمونك ام لا يخاصمونك فهم يتدخلون في امورك وشؤونك ولا تتخلص من كلامهم وتعليقاتهم واغتياباتهم وبذاءاتهم.. يتدخلون في قراراتك وحياتك واسلوبك في الحياة حتى في ملبسك وما تأكل وما تشعر وما تتصرف.. يتدخلون حتى في مشيتك في الشارع وتاكلك مع عائلتك عيونهم الوقحة ونظراتهم السمجة التي تخفي كبتا عميقا.. هناك شوارع عربية لا تتخلص المرأة من التحّرشات والتعليقات البذيئة من افواه المتسكعين!
يتدخلون ويا للاسف الشديد حتى في صحوك ونومك عندما تضج الصراخات في البيوت والزعيق في الشوارع وصناعة الضوضاء من المايكروفونات التي تمنعك من ممارسة حقك المشروع في الراحة ببيتك من الفجر الباكر حتى ساعات الليل المتأخرة.. يتدخلون في ما يعجبك ان تلبسه او تقلعه.. كلها باسم التقاليد الاصيلة! هل نرى ذلك في مجتمعات اخرى غربية وشرقية؟ هل يفتقد الانسان حريته الشخصية في حياته كما يفتقدها في عالمنا العربي وجميع جنباته.. فكيف لا يفتقد حريته في علاقاته الشخصية وهي من اسمى ما يعتز به الانسان في هذا الوجود!؟
هل يتخلص حتى السياح من نقمة المتحجرين وبلادة سخرياتهم؟ هل باستطاعة الانسان ان يمارس ما يرغب فيه ليس خوفا من قانون الدولة بل تروعه اعراف المجتمعات البليدة؟ في دول عربية طبقّت قوانين وتعليمات غاية في التوحش والاعتداء على حريات الانسان الفردية وبنفس الوقت طبقّت قوانين غاية في الشفافية ولكنها عادة ما اصطدمت باعراف جامدة للمجتمع غاية في القسوة وغدت الدولة طيّعة لممارسات المجتمع خوفا منه او تزلفا اليه! هل هناك سياقات موحّدة في هذا العالم كله للحياة، ولكن لا يمكن للانسان ان يحيا من دون ضوابط، ولكن المجتمعات الليبرالية الحقيقية تتيح ضوابطها وتضمن مصالحها وحياتها من خلال توفير اكبر قدر من الحريات الشخصية! ان القوانين الرسمية مثلا – تحظر تماما على اي انسان الاطلاع على بريد انسان آخر تحت اي ظرف قسري، والا يعتبر ذلك انتهاكا للحريات الشخصية.. فكيف يضمن الانسان في مجتمعاتنا بريده الشخصي عندما نجد البعض يخرق ذلك بكل توحش وصلافة وكأن الامر بسيطا الى هذا الحد..؟؟
الحريات الدينية مطلوبة في مجتمعاتنا
لقد كتبت لي احدى الصديقات وهي سيدة فاضلة تعيش في اوربا منذ ثلاثين سنة انها تعّرضت لأسوأ حالات الاهانة في مجتمعها العربي ودفعت ولم تزل تدفع ضريبة قهرية كونها تزوجت من رجل على غير دينها ثم انفصلا.. ولكن هذه ( الخطيئة ) تلاحقها حتى اليوم من دون اي احترام لحريتها الشخصية في الاختيار لأول مرة ومن دون مراعاة وضعها اليوم وهي طليقة! وعليه، لابد ان نعترف ان هناك اقليات دينية عربية اصيلة في مجتمعاتنا العربية تعيش اليوم قهرا حقيقيا بسبب الهجمة الدينية من قبل بعض القوى الاصولية التي تؤلب الرأي العام المحلي والاجتماعي ضد الاقليات الدينية خصوصا باسم الشعارات الدينية.. وهذا يحدث لأول مرة في تاريخنا الاجتماعي وفي بيئاتنا العربية كاملة عندما كان التعايش والصداقة والاندماج سائدا في كل مفاصل المجتمع العربي على امتداد مئات السنين.
ان الحريات الشخصية لابد ان يضمنها المجتمع قبل الدولة وتصبح القوانين بمثابة اعراف قيمية لا يمكن خرقها بسهولة.. ومن عادات مجتمعاتنا العربية القديمة واعرافها ان لا يتلصص احد على اسرار ومشاهد بيت احد اذ يعتبر ذلك خرقا لاسمى واطهر ما يحترز الانسان عليه من الحرية داخل بيته.. ولكن الامر اختلف عند نهايات القرن العشرين، واصبح التجسس والتخابر والتنّصت والتلصص والغدر والايذاء والاعتداء.. من اساليب البعض الشائعة وهي جنايات ترتكب بحق نخبنا ومبدعينا وسياسيينا خصوصا عندما يقوم بها اناس متضلعون من رجال امن ومخابرات وصحافة وموظفي اجهزة شبه رسمية وعصابات مارقة.. باسم البحث عن العلاقات المشبوهة وغير المشبوهة كي يمارسوا ليس وظيفة يرتزقوا منها، بل وسيلة تنعش رغباتهم المريضة! وعليه، فان الحياة العربية المعاصرة تعيش ازمة اخلاقية في علاقاتها العامة بعيدا عن الاخرين الذين يعتبرهم العرب اناس بلا اخلاق! لقد توضحت الهجمة الشرسة ضد الحريات الانسانية في مجتمعاتنا بغلبة الاهواء والتعصبات والامراض والترسبات وكل بلايا التخلف.
ما العمل؟
ان ضمان الحريات الشخصية لكل انسان في اي مجتمع واي منظومة هو من الاسس الواجب توفيرها في ظل اي تغيير نوعي في حياة المجتمع العربي المعاصر.. فربما كانت هناك جاليات عربية تعيش في الغرب مثلا، ولكنها تمارس خطايا وانتهاكات بشعة تحت مسميات شتى من دون اي استفادة من قوانين واعراف وتقاليد من يضيفهم او من اراد ان يجعل منهم بشرا سوّيا ويمنحهم حتى جنسيتهم.. ان ضمان تأسيس مفردات راقية في التعامل بين العرب انفسهم بحاجة الى عشرات السنين كي يتخلص العرب من الافات المريضة المسيطرة على عقلياتهم ومن النزعات العقيمة الكامنة في عقولهم ومن غرائب التقاليد وعجائب المكبوتات التي تربوا عليها منذ صغرهم.. ان اصدار قوانين جديدة وتغيير قوانين قديمة، هي من انجع الوسائل واهم المرتكزات التي يمكن توظيفها لاحترام المشاعر وعدم اختراق حياة الاخرين والامتناع عن التدخل السافر في الحريات الشخصية للاخرين.. على الحكومات العربية اليوم ان تباشر مشروعات في التغيير وان تزرع نبتا طيبا وبذورا جديدة لدى النشىء العربي منذ صغره على احترام الحريات الشخصية وتقديسها.. فليس من الاهمية بمكان ان يحفظ صغارنا الايات القرآنية الكريمة على ظهر قلب وخصوصا كيف يمكنه ان يكون في آخرته من دون ان يعرف قيمة ما يمكن ان يتصّرف به في حياته الدنيا.. ان نسبة من الفتيات العربيا يذهبن ضحايا مأساوية بعد قتلهن لأسباب غسل العار.. فهل امر الدين بذلك استنادا الى الشبهات.. هذا فعلا من التوحش لا الانسانية!! واصبحت مجتمعات عربية متحضرة منذ القدم تلاحق في شواعها النسوة السافرات ويتم الاعتداء عليهن وعلى كل القيم.. وعلى الحريات الشخصية من دون اي وازع انساني يسعى للموازنة الحقيقية بين قيم الماضي وقيم الحاضر! ان على العرب ان يطلّعوا على تجارب الشعوب الاخرى في كيفية التعامل وبناء العلاقات وكسب الصداقات.. وهنا لابد لي ان اتوقف عند مفهوم الصداقة كجزء من طبيعة الحريات الشخصية لنعرف ما هي؟
مفهوم الصداقة الحقيقية
الصداقة بين الجنسين لابد ان نفهمها نزيهة ونبيلة تقوم على الثقة والاحترام ومتكافئة في ظل حقوق الحريات الشخصية والاخلاق البيتية.. لا ان يصادق الولد البنت خفية ويمارسوا كل ما هو خاطىء ويخرجوا على الناس حاملين معهما اسرارهما واخطاءهما وما يجر ما يسمى اليوم مثلا بزيجات ( الفرند )! الصداقة لابد ان يفهمها الكبار قبل الصغار والكهول قبل الشباب على انها علاقة انسانية راقية ليس بالضرورة ان تكون وراء منفعة تافهة او وراء نزوة عابرة او وراء مخادعة فارغة او وراء طيش احمق او وراء كبت عاطفي.. وكثيرا ما تفّسر لدى العرب على كونها ( خطيئة جنسية ) من دون ان يعلموا بأن الصداقات هي ليست بالضرورة كذلك.. هي تلاقي هوايات، هي تشابه رغبات، هي حوارات، هي ثقافة، هي مجالسة، هي بث شكوى وهموم، هي مساجلات ادب، هي مجاذبات افكار، هي تبادل اشعار، هي مشاركة فعاليات، هي اسفار، هي تبادل مشاعر حول الطبيعة والمعرفة هي مشاركة موسيقية وجدانية، هي باختصار شراكة نظيفة وبريئة لا يمكنها ان تتعّدى حدودها الى حيث التردّي.. الخ
اننا نقف على ما تركه ادباء وشعراء وعلماء وفلاسفة على اسفار رائعة من الكتابات والمساجلات والرسائل والمكاتبات.. تفصح كلها عن صداقات غاية في الروعة مثل هذا النوع جمعت العديد من الرجال والنساء معا ولم تكن تحت اغطية فضائحية او تحت غايات بليدة محددة بلقاءات تمارس فيها الخطيئة في خمس دقائق وتنتهي القصة.. بل العكس هو الصحيح في ان نجد رسائل سيمون دي بوفوار العاطفية الى صديقها وعلم زوجها جان بول سارتر بتلك الرسائل لأن سارتر يدرك بأن الصداقة الشخصية ليس بالضرورة ستنزل شرفه الرفيع من عليائه وتمرغه في التراب وانه شرف سوف لا يسلم من الاذى.. فيقوم سارتر بأخذ الثأر من صديق دي بوفوار اذ يريق على جوانبه الدم! حتى وان كانت زوجته دي بوفوار ساحرة جميلة وليست قبيحة دميمة كما كانت.. فالصداقة التي جمعتهما كانت فوق كل ما يتخيله اي عربي الذي لا يرى في الصداقة الا اطلاق ما بين ساقيه!! ( وعذرا على التشبيه! ) وما حدث عندما كتب العقاد رسائله الى الاديبة مي.. هل كان يريد ان يمارس معها شيئا معينا حتى وان رغبت مي بذلك علما بأنها كانت تفتتح مجلسها للرجال من اصدقائها المتنوعين الذين قد توقع بينهن الغيرة ولكن ليس كما يتخيل بعض المتخلفين بأن الانسه مي كانت مجرد سلعة!! وهكذا بالنسبة لتولستوي الذي احب صديقات له او جميل الذي احب بثينة او ابن زيدون الذي عشق ولادة او ابو نؤاس في قصائده او ولي الدين يكن الذي سمى ابنته بفكتوريا تيمنا باسم صديقته او جان جينيه في عبثياته الشخصية او محمد شكري في تسكعاته وممارساته في شوارع طنجة ليلا.. الخ
وأخيرا
ان اعادة التفكير بهذا الموضوع الذي اراه حيويا جدا بحيث يشكّل قاعدة اساسية لكي يمارس الانسان حرياته الشخصية فكرا وفعلا سيتعلم كيف يمارس من بعد ذلك حرياته الاجتماعية وحرياته السياسية.. وستكون لي حتما رجعة اليه ثانية لنكمل بعض مستلزمات ما يحتاجه الجيل الجديد الذي ينطلق اليوم نحو افاق القرن الواحد والعشرين وقد اصبح العالم كله قرية كونية صغيرة.. الانسان فيها بحاجة الى اصدقاء له يساعد احدهم الاخر واذا لم تتوفر حريات شخصية في حياتنا العربية.. فلا مستقبل سياسي ديمقراطي للعرب ابدا!
ايلاف الجمعة 23 يناير 2004
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …