” لا خلاص للعراق ولا مستقبل له الا بالتخّلص من تناقضاته واحترام كل عراقي للعراقي الاخر ”
مجيد خدوري
بعد قرابة ستة اشهر من رحيل طيب الذكر المؤرخ الاستاذ نقولا زيادة في بيروت ، رحل قبل ايام مؤرخ كبير آخر هو الاستاذ مجيد خدوري ، وقد عاش كلاهما عمرا واحدا فالاول ولد عام 1907 ورحل في/7/ 29 2006 ، أما الثاني فولد في 1908 ورحل في/1/ 25 2007 . نعم فوجئنا قبل أيام برحيل كبير مؤرخي تاريخ العراق المعاصر بواشنطن دي سي .. اذ رحل ذلك الرجل القدير الذي لم يبق الا وحده في الساحة بعد ان غادر طيف الرعيل الاول عّنا .. رحل ولم يكمل مئة عام من العمر ، وبعد حياة حافلة بالانتاج والحيوية والمكانة الدولية والاكاديمية ..
اولا : صفات مؤرخ جاد
رحل مجيد خدوري الذي تنوعت حياته المديدة وزخرت ثقافتنا التاريخية بالعديد من اعماله الرصينة .. رحل الرجل المثقف الذي يعد واحدا من بناة المعرفة والعلم والمنهج في العراق المعاصر .. .. رحل المؤرخ الذي عّرف العالم لأول مرة بالعراق المعاصر وتكويناته ورجاله رحل العلامة الشهير خدوري ابن مدينة الموصل ام الربيعين بعد ان كان قد تركها نهائيا قبل سبعين سنة .. يقول كيلغور الذي كتب عن خدوري في الواشنطن بوست : بأن شمال الشرق الاوسط وعند عقدته الجغرافية بالموصل تلتقي كل المسالك للهلال الخصيب في شماله ومنها طريق الحرير نحو الصين .. ان الموصل التاريخية قد انتجت قادة وافكارا ونشطاء امثال مجيد خدوري . وغالبا ما يدور تعليق في العراق ذلك ان الموصليين يميلون الى التفوق والبروز في اي حقل من الاجتهاد
رحل هذا المؤرخ الجاد الذي تخرج على يديه المئات من المختصين والعلماء والباحثين اللامعين في شؤون الشرق الاوسط الذين كانت لهم مناصبهم الدوبلوماسية والاكاديمية سواء في امريكا ام في اصقاع عدة في العالم .. رحل مجيد خدوري بعد ان ترك لنا قرابة 35 كتابا ممتازا وعشرات المقالات العلمية ، منها ما ترجم للعربية ومنها ما ينتظر النشر فيها بعد ترجمته عن الانكليزية .. رحل صاحب أول كرسي لدراسات الشرق الاوسط في جامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة الامريكية منذ قرابة نصف قرن .. رحل الرجل المتواضع والهادئ وقليل السفر والمشهور بنظام حياته وغذائه وانعدام فراغ وقته وصبره وجلده ، بعد ان عاش رحلة حياة مثمرة ومنتجة ونشيطة وبقي حتى لحظاته الاخيرة يتمتع بكل حيويته ويقضي حوائجه بنفسه ، وهو يذهب على قدميه يوميا مسافة ميل عن بيته ليشتري حاجاته !
استطيع القول ان مجيد خدوري غبن كثيرا في الثقافة العربية ، مقارنة بما كان لغيره من اهتمام .. ففي العربية وباستثناء ما نشرته عنه في ( نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ) وما نشره الصديق الدكتور ابراهيم خليل احمد في مقالته عنه ، فان مجيد خدوري يكاد يكون اسمه مجهولا الا لدى نخبة قليلة من المؤرخين المختصين .. علما بأن كتبه وكتاباته قد استفاد منها الكثير من الكتّاب والباحثين من دون ان يعرفوا عنه شيئا .. وهو يعد رائد كتابة تاريخ العراق المعاصر بلا منازع ، وتميّز بمنهجه وأسلوبه ورؤيته ، بل وان افكاره واراءه التي كتبها عن هذا التاريخ تحدد ملامح تفكير هذا الرجل الخبير الذي لم ينس تاريخ المنطقة العربية ورجالها ..
ثانيا : حياته الاولى في العراق
1/ تكوينه في الموصل
ولد الفقيد مجيد خدوري بمدينة الموصل بالعراق في 27 ايلول/ سبتمبر 1908 في اسرة مسيحية من اليعاقبة الارثودكس القدماء ، ودرس في مدارسها وتلقى المبادئ الاولى على ايدي اشهر اساتذة الموصل والتي كانت تشهد نهضة واستنارة .. ولد في السنة التي غيّرت كل مسارات الشرق الاوسط ، بحدوث انقلاب الاتحاديين على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ..، وشهد وهو في العاشرة من العمر احتلال البريطانيين للموصل عام 1918 ، وفي شبابه درس في ثانوية الموصل الشهيرة وكان يتابع ما يصدر في المدينة من صحف وأدبيات شهيرة .. ثم درس في دار المعلمين ببغداد وتخرّج في العام 1928 ، وانطلق الى لبنان ليدرس طالبا في الجامعة الامريكية ببيروت عام 1928 .
2/ مشكلة خلقت معاناته
ورجع بعد اربع سنوات وهو يحمل شهادة البكالوريوس في تدريس التاريخ مع أجمل الذكريات عن بيروت ، فعّين عام 1932 في ثانوية الموصل المركزية التي دّرس فيها قرابة اربع سنوات ، ثم غادر الى بغداد اثر حدوث مشكلة تربوية بينه وبين احد الطلبة المتزمتين ، اذ عندما كان يشرح درسا في التاريخ الاوروبي استطرد ليعقد مقارنة بين النبي ( ص) وبين نابليون بونابرت ، فانبرى أحد الطلبة واسمه علي البزاز ليجادله بقسوة بسبب عقده هذه المقارنة ، ومن ثم يضربه امام الطلبة ، وبالرغم من ان الطالب احيل الى لجنة تحقيقية ونال عقابه ، الا ان هذه الحادثة كانت مفترق طرق في حياة الاستاذ خدوري فاستعفى ونقل خدماته الى بغداد ( وكان الطالب علي البزاز ، وهو من عائلة البزاز المعروفة بالموصل ، قد اكمل دراسته وانهى كلية الشرطة العراقية بتفوق وترقّى في التسلسل الوظيفي حتى غدا مديرا لشرطة البصرة ، واتهم بعد ثورة تموز/ يوليو 1958 ، كونه تصدّى لمظاهرات الشيوعيين فيها ابان الحكم الملكي ، فاعتقل وحّول الى محكمة الشعب بانتظار محاكمته امام المهداوي ، وقد حادثه رئيس المحكمة من وراء القضبان قبل المحاكمة بيوم واحد وأهانه ، فقام برمى بنفسه من الطابق العلوي وانتحر مفضلا الموت على ان يقف امام المهداوي ) .
3/ انشطته الموصلية الاولى
ولم يقف إنتاج مجيد خدوري عند حدود الكتب الاولى ، وإنما له بحوث ومقالات كثيرة نشرت في مجلات عراقية وعربية ودولية ، ولقد نشر اولى مقالاته في مجلة المجلة الموصلية التي صدرت سنة 1938 ، التي كانت ذات مسحة تقدمية يسارية معالجا فيها موضوعات مثل : (النظم القيصرية الحديثة) و (الصلات الدبلوماطيقية بين هارون الرشيد وشارلمان). كما ان له عدة مساجلات نقدية ونقاشات حامية على صفحات مجلة المجلة، مع زميله المؤرخ الموصلي سعيد الديوه جي وغيره من المثقفين والتي تعكس حيوية ثقافة الموصل في فترة ما بين الحربين وفاعلية الموضوعات وحيوية هذين المؤرخين الموصليين وحرصهما على تقديم الحقيقة التاريخية إلى قرا ئهما .
4/ الرجل المتخصّص : دكتوراه شيكاغو واستاذ دار المعلمين العالي
بقي مجيد خدوري في بغداد فترة من الزمن حتى غادرها الى امريكا لينتسب الى جامعة شيكاغو التي نال فيها شهادة الدكتوراه عام 1938 ،عن اطروحته الموسومة: (الانتدابات في عصبة الأمم)، ثم عاد بعدها إلى العراق ليعمل مدرساً لمادة تاريخ الشرق الأدنى الحديث في دار المعلمين العالية ببغداد ، وكانت من اشهر معاهد الشرق الاوسط ، اذ تخّرجت في اروقتها غالبية الادباء والشعراء المبدعين العراقيين .. وكانت لخدوري عدة تآليف تاريخية اثناء وجوده في العراق . وفي العام 1945، كان للراحل نشاط علمي وتربوي ودبلوماسي اذ استقطبته وزارة الخارجية العراقية بسبب كفاءته ، فعمل فيها عام 1945 وغدا عضواً في الوفد العراقي الى المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو سنة 1945 ، كما وكان عضواً في عدة لجان في وزارة التربية العراقية، وخاصة بين سنتي 1939و1947
ثالثا : حياته في امريكا : مجيد خدوري يصبح امريكيا
لقد عاد مجيد خدوري الى الولايات المتحدة عام 1947 ، ليدّرس في جامعة انديانا وجامعة شيكاغو ، وفي عام 1949 أسس أول مركز في الولايات المتحدة الأمريكية يعني بشؤون دراسات الشرق الاوسط . لقد بقي مديرا لبرنامج دراسات الشرق الاوسط حتى تقاعده في العام 1980 .كما وانه قدّم بعض الدروس الاولى عن القانون الاسلامي (= الشريعة ) ، ثمّ اختير مستشارا في بعض نشاطات وزارة الخارجية الأميركية، خاصة بعد أن أصبح مواطناً أميركيا سنة 1954. وقد كان له دور بارز في تأسيس الجامعة في ليبيا وشغل منصب رئاسة الجامعة هناك سنة 1957 . أما عائلته فصغيرة تتكون من زوجته الموصلية المثقفة مجدية خدوري التي توفيت في العام 1972، وقد انجبا كل من فريد وشيرين ( التي اقترنت بالزميل الدكتور ادموند غريب ).. خلال الفترة من 1960و 1980 وقد زار القاهرة، وعمل أستاذاً في الجامعة الأمير كية فيها بين كانون الأول 1972 وكانون الثاني 1973. كما زار بغداد وألقى محاضرات سنة 1976. وفي آذار زار جامعة البصرة وألقى فيها محاضرات في تاريخ العراق المعاصر.
رابعا : أعمال خدوري العلمية
كتب خدوري اكثر من 35 كتابا بالانكليزية والعربية ومئات المقالات في شؤون الشرق الاوسط والعراق المعاصر والشخصيات العربية .. وكتب ايضا عدة اعمال علمية وموثقة ولها اهميتها عن مصر وليبيا وسوريا والعربية السعودية . اسس كذلك الجمعية الشيبانية للقانون الدولي للعلماء والاكاديميين المهتمين والمتفهّمين للشؤون الشرعية والمؤثرين في العالم الاسلامي . وكان استاذا زائرا لعدة معاهد وجامعات بضمنها كولومبيا وهارفرد وفيرجينيا وجورج تاون واكسفورد وغيرها .
1/ كتابه الاول وأعماله الاولى :
اهتم مجيد خدوري بتاريخ العراق المعاصر، وبدأ ينشر اعماله منذ سنوات عمله في العراق فمن جملة اصداراته كتيب صغير عنوانه ” اسباب الاحتلال البريطاني في العراق ” ، طبعه على حسابه الخاص في مطبعة الشعب بالموصل سنة 1933 ، واصل هذا العمل : دراسة حاز فيها صاحبها خدوري على جائزة هوردبلس الاولى في مباحث مسابقة علمية للسنة الدراسية 1930- 1931 في الجامعة الامريكية ببيروت ـ كما كتب في مقدمته ـ ، وانه اضفي عليها بعض تعديلاته ونشرها بناء على مقترح الاستاذ ابراهيم بيثون مرشد جمعية التوفير في الثانوية المركزية بالموصل وكان قد عّين مدرسا فيها ، مخصصا ريع الكتاب للجمعية المذكورة. وفي سنة 1934 نشر في الموصل كتابه (المسألة السورية).وفي العام 1935 ، اصدر خدوري كتابه الثاني الموسوم ” تحرر العراق من الانتداب ” ، ولقد ساعدته وزارة الخارجية العراقية ، اذ استدعته ووفرت له وثائق لاعداد ( الكتاب الابيض ) . وفي سنة 1939 خطط لنشر كتابه: عن (قضية الاسكندرونة) وتأخر طبعه حتى سنة 1953. وفي سنة 1946 اصدر كتابه ” نظام الحكم في العراق ” .
2/ اعماله المتوالية : التنوع والتخصص والنضج
وفي العام 1951 ، نشر كتابه المتميز ” العراق المستقل : دراسة في السياسة العراقية منذ 1932 ” ، ثم نقحه واعاد طبعه بالانكليزية منشورات اكسفورد بعنوان : ” العراق المستقل : دراسة في السياسة العراقية منذ 1932 حتى 1958 ” ، وفي سنة 1960 ، نشر كتابه : ” العراق الجمهوري : دراسة في السياسة العراقية منذ ثورة 1958 . وبعد مضي اكثر من عشر سنوات نشر كتابه ” العراق الاشتراكي : دراسة في السياسة العراقية منذ ثورة 1968 . وفي سنة 1963 أصدر كتابه: (ليبيا الحديثة: دراسة في التطور السياسي). ووضع خدوري كتابين مهمين أولهما عنوانه ” الاتجاهات السياسية في العالم العربي : دور الافكار والمثاليات في السياسة ” وثانيهما بعنوان ” عرب معاصرون : أدوار القادة في السياسة العربية طبع بالإنكليزية في مطبعة جامعة أكسفورد ونشر سنة 1969 .
3/اعماله الاخرى
اما كتبه الاخرى ، فهي عديدة ، منها رأي الاسلام في العدالة ( بالاشتراك مع البروفيسور ر. ك. رمضاني ) وكتاب حرب الخليج : اصول ومضامين الصراع العراقي ـ الايراني ، وكتاب القانون الاسلامي للامم ، وكتاب الحرب والسلام في قانون الاسلام ، وكتاب ” الرسالة الشافعية : المعاملات في مؤسسات العدالة الاسلامية ” وكتاب ” القانون في الشرق الاوسط ” ، وكتاب ” القانون والشخصيات والسياسات في الشرق الاوسط ” ( نشر رفقة جيمس بيسيتوري ) ، وكتاب ” شخصيات عربية في السياسات ” ، وكتاب ” مشاكل الشرق الاوسط الرئيسية في القانون الدولي ” .. واخيرا نشر كتابه : ” الحرب في الخليج 1990- 1991 : الصراع العراقي ـ الكويتي وتداعياته ” ( رفقة زوج ابنته الدكتور ادموند غريب ) ونشرت عدة طبعات منه . لم يكتف الاستاذ خدوري بهذا حسب ، بل وجدته وقد قدم عدة كتب بمقدمات ومدخلات مسهبة ، فضلا عن شراكته لاخرين كتبهم واعمالهم اذ أسهم مع مؤرخين آخرين في إصدار وتحرير بعض الكتب ومن ذلك بحثه عن (دور الجيش في السياسة العراقية) ضمن كتاب س. ن فشر (الجيش في الشرق الأوسط). .
4/أفضل مقالاته الموسوعية
ومن بحوثه التي نشرها في مجلات وموسوعات عالمية ، فمنها : ” مشروع الهلال الخصيب: دراسة في العلاقات الداخلية العربية 1951″ و ” ضباط الجيش ودورهم في سياسة الشرق الأوسط” 1955، و ” النخب العربية ” و ” العلاقات الدولية ” و ” قضايا الشرق الاوسط ابان الحرب الباردة ” .. كما كتب خدوري عدداً من المواد في دائرة المعارف البريطانية ودائرة المعارف الإسلامية ودائرة معارف الدين وقاموس العصور الوسطى ودائرة معارف القانون الدولي وعالج في هذه المواد موضوعات “الجهاد” و “حلف بغداد” و “الهدنة” و ” المصلحة” و ” القانون الدولي الإسلامي” و ” الموصل” و ” ملكية الأراضي في الإسلام” و ” الشافعي.”
خامسا : كيف نفهم كتابات مجيد خدوري ؟
ان هذا الرجل لا يكتب من موقع الادنى الى الاعلى ، بل اشعر به هو الاعلى دوما ويوجه كلامه للادنى .. اكاد احفظ ما كتبه عن تاريخ العراق المعاصر وخصوصا في ابرز ثلاثة كتب عالج العهود الثلاثة : الملكية والجمهورية والاشتراكية .. وبقيت منذ ايام تلمذتي حتى اليوم معجب بما كتبه في كتابيه : الاتجاهات السياسية في العالم العربي وعرب معاصرون .. كان محللا بارعا للافكار وبروح منهجية وحيادية وعميقة .. وكان مشخصا لاليات التفكير عند القادة العرب في القرن العشرين عندما تناول ابرز الزعماء السياسيين في القرن العشرين .. واعجبني فيه تصنيفه لتفكير الزعماء بين الواقعية والمثالية .. كان دقيقا في اطلاق الاحكام التاريخية وله القدرة في فهم الاحداث والوقائع التاريخية بسبب عمق تفكيره وسعة ثقافته وقوة قراءاته .. انه منصف للاسلام وعشق مفاهيم العدالة ومضامين الشريعة كما وحلل بشكل ممتاز الفكر القانوني في الاسلام وراقب تطوراته وقارن بين القانون والسياسات في منطقة الشرق الاوسط التي انهكتها المشكلات الجديدة التي لم تجد اية حلول معاصرة .. انه درس نظرة القانون الاسلامي للامم وتكويناتها .. انه يجد بأن العرب والمسلمين لم ينجحوا ابدا في تطوير آليات جديدة للتعامل مع العصر الجديد وتحدياته .. ووجد في الايديولوجيات والمثاليات سببا في ضياع زمن طويل .. خصوصا وان العرب بقوا يتصارعون من اجل لا شيئ .. ولم ينجحوا في خلق مشروعات في الاصلاح السياسي او في الثورات العسكرية !
ان خدوري يتحّرى في دراسته لصناع القرار او الافكار عن المقاييس الموضوعية للقيم والتأثير من خلال اسقاطات معينة على الواقع لا تمت له بصلة ، وهذه صفات المثاليين .. وبنفس الوقت ، يطبق مقاييس كمية ويتوغل في الكيفيات ليرى صفات الواقعيين ايقدمهم على المثاليين .. كما ويميل الرجل الى المدرسة التعددية في التفسير التاريخي. وهو يرى بأن المثاليين يتوهمون الاوهام حقائق فجنوا على بلادهم ومجتمعاتهم وهم كثر في البلاد العربية .. وهنا يمكنني القول بأن خدوري يختلف اختلافا جذريا عن حنا بطاطو الذي يهتم اساسا بالقرابة والجوار وتأثير ذلك على صنع التاريخ ! واذا كان خدوري له تنظيرات ورؤى وافكار واستنتاجات ، فان بطاطو يتوقف فقط عند عرض الحقائق والتوثيق الصعب .
ان فكر مجيد خدوري فكر متوازن وواضح بين تخصصه في شؤون الشرق الاوسط وبين منهجه معرفيا واكاديميا .. وهو معجب بالفكر الغربي وكل وسائله وفلسفاته التي يعتقد بأنها ضرورة لاستنارة المجتمعات الاخرى .. كان تكوينه الموصلي الاول قويا ، ثم اضفى عليه تكوينه في امريكية بيروت ، وأضفى الى ركائزه العراقية تكوينا عربيا وبدأ يتوغل في فهم الاتجاهات السياسية والفكرية عند العرب .. ربما كان مندفعا في بداياته وخصوصا بعد عودته من بيروت مما سبّب له مشكلات ، لكنه كان يحترم الاسلام والمسلمين ويجّل دور العرب الانساني بعد انفتاحهم على العالم .. ويبدو لي انه يتعاطف قليلا مع الفكر القومي كونه ترّبى في العراق عليه ، بل وان العالم في فترة ما بين الحربين كان يمر بهذا التفكير الذي وصل الى اوج عنفوانه في اوروبا وخصوصا ايطاليا والمانيا .. وكان خدوري قد انتمى ليغدو عضوا في جمعيات قومية لها وجهتها الثقافية اكثر من السياسية مثل نادي القلم البغدادي ببغداد .. كان يعارض الانتداب البريطاني وقد كتب في هذا الموضوع وفّسر للناس اهداف بريطانيا واسباب احتلالها للعراق .. وكان يؤمن بالقانون الدولي والمؤسسات الدستورية وتطور المجتمع على اسس واقعية لا خيالية شعاراتية وهمية .. كان من الاهمية بمكان لو بقي هذا الرجل هو واضرابه من عشرات المثقفين يعملون في العراق ، ولكنهم آثروا الرحيل .. ومن ثم لحقت بهم قوافل لا تعد ولا تحصى من ابرز المختصين والمثقفين والمبدعين .. فخسر العراق في القرن العشرين ثروته الحقيقية ، لنجده يسير في الاتجاه المعاكس ولينتهي مصيرة الى ما نراه اليوم ويا للاسف الشديد !
سادسا : بعض ذكرياتي عن الرجل
نشرت بعض ذكرياتي مع هذا المؤرخ المتمرس في سلسلة فصلات كتابي ” نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ” وكتبت قائلا : يعد مجيد خدوري رائد كتابة تاريخ العراق المعاصر بلا منازع ، اذ اسس لمنهج جديد ورسم لاسلوب راسخ ، بل وان افكاره واراءه التي كتبها عن هذا التاريخ تحدد ملامح تفكير هذا الرجل .. التقيت بالرجل مرتين اولاها في بريطانيا وثانيتها في بيروت ، كنت في اللقاء الاول الذي جرى في كلية سانت انتوني بجامعة اكسفورد وكان يزورها ، وانا طالب دكتوراه في العام 1978 ، كنت اعمل على بعض الوثائق في بودليان الجديدة .. طلبني الاستاذ البرت حوراني على وجه السرعة قائلا ساختارك ان تشاركنا الغداء هذا اليوم ، اذ سيشرفنا الاستاذ خدوري وهو من مدينتك واحرص ان تكون معنا .. شكرته جدا وكنت بعد ساعتين وجها لوجه مع الاستاذ خدوري وكان يناهز السبعين بشعره الاشيب وقامته المنتصبة ونظراته المستقيمة واناقته الكاملة وكان قد فقد زوجته قبل ست سنوات .. بدا لي انه كأي انسان حيوي صافحني بقوة ، وقال : ابني انا اعرف عائلتك الكريمة واستطرد يقول : كنت اقرأ وانا شاب كتابات مستنيرة جدا يكتبها جدك الاستاذ علي الجميل الذي رحل مبكرا عام 1928 .. وعلى المائدة آثرت الصمت وانا اشارك الرجلين الغداء ، اذ كنت استمع لحديثهما الشيق .. كان اكله بسيطا جدا .. التفت الّي وسألني عّما اعمل والموضوع الذي اشتغل عليه ..
خرجنا نحن الاثنين فقط اذ غادرنا حوراني لكثرة ارتباطاته ، فرافقت الراحل خدوري لمدة ساعتين . قلت له : انني اعتقد بأن العراق المعاصر يمتلك تاريخا معقدا جدا مقارنة بغيره من تواريخ دول المنطقة ومجتمعاتها ! نظر الي نظرة مستقيمة وفكّر قليلا ثم سألني : ما الذي تقصده ؟ اجبت : انه تاريخ صعب وثقيل جدا باحداثه وشخوصه ووقائعه واضداده وتناقضاته سواء السياسي منه ام الاجتماعي .. اجاب : اصبت يا بني وانت تقارن هذا التاريخ بغيره من تواريخ المنطقة .. وماذا بعد ؟ قلت : وان العراق محور مركزية الشرق الاوسط .. اجاب : اتمنى عليك ان تفلسف ما قلت مستقبلا ..
في حدائق سانت انتوني
رحنا نتمشى في حدائق كلية سانت انتوني باتجاه بودليان الجديدة .. تحدثنا عن الموصل وسألته عن بيئته الاولى وعن دور مدينة الموصل وحالتها وتناقضاتها وهجرة المبدعين منها منذ عشرات السنين ودورهم الحيوي ببغداد .. وكل من يخرج منها لا يعود اليها من ابنائها نظرا لما فيها من تناقضات وتعقيدات منذ زمن طويل .. تحدثنا عن اقطاب الحكم في العراق ورأيه بالعديد منهم .. كان يرى في نوري السعيد واحدا من اعظم السياسيين الذين مهروا فن الحكم والسياسة بالرغم من كونه عسكري معتّق لكنه ” الوحيد الذي فهم العراق والعراقيين ” ـ على حد قول خدوري ـ .. قال: ان الشعب العراقي مشكلته في تناقضاته وان الزعيم الوحيد الذي اعطاه حبه وولاؤه هو عبد الكريم قاسم .. وان عبد الكريم قاسم كان ضابطا محترفا ، لكنه فشل فشلا ذريعا في ادارة البلاد سياسيا .. حكى لي عن ميشيل عفلق كثيرا اذ يعرفه معرفة شخصية وبينهما كما بدا لي ، صداقة قديمة من نوع ما ربما تعود الى ايام بيروت .. قال : كثيرا ما انتقدت من خلاله سياسة البعثيين العراقيين التي تعرف بشراستها وكان ميشيل يسكت ولا يجيب .. وقال للعلم فان صديقي قسطنطين زريق كان ينتقد بدوره جماعته من القوميين العرب على آليات العنف التي أخذوا يستخدمونها ! وسألته عن مقارناته بين الزعماء وخصوصا في كتابه ( عرب معاصرون ) وسألته بالذات عن الرئيس عبد الناصر ، فقال : اما جمال عبد الناصر ، فقد حكم حتى الهزيمة عام 1967 بخياله واحلامه وكبريائه وعدم استماعه للنصح ولكنه لم يعرف كيف يكون واقعيا ، كان كثير الظن والهواجس وليس له منهج واقع ، ولكنه كان يؤمن ايمانا حقيقيا بالقومية العربية وقد اخلص لها وامتلك كاريزما لم يمتلكها غيره .. سألته عن رأيه في كتاب ضخم وجديد صدر في ذاك العام عن الطبقات الاجتماعية في العراق للمؤرخ حنا بطاطو ، فاجابني قائلا : ان الكتاب فيه اخطاء لا تحصى ، ولكنه كتاب صعب صرف حنا بطاطو قرابة عشرين سنة لينجزه .. في البداية لم يسألني عن الموصل ابدا ، ولكنه بدأ يسترسل ويسألني عنها شيئا فشيئا ، وبدا لي انه يكبت شيئا في صدره فآثرت ان لا استرسل معه ! ومن الاشياء التي اذكرها انه قال بأن اصل عائلته من قوقاسيا وقد استوطنوا الموصل منذ مئتي وخمسين سنة ، ولكنه رجع في نهاية اللقاء وقال بأنه أصلا من المسيحيين القدماء السريان اليعاقبة في الموصل ! وطال حديثنا ايضا المناهج والتباينات بين المدارس التاريخية ببريطانيا وبين المدارس الموجودة في اميركا .. وسألته عن التوثيقات ، فقال : أي مؤرخ يثق فيه الناس يصبح حجة ويؤخذ كلامه بكل جدية ، فليس بحاجة ان يوّثق كل المعلومات كما لو كان شابا يستحصل على العلم . منحني الرجل بعد ان عرفني كل الثقة وحدثّني عن دوره كخبير في شؤون الشرق الاوسط ، واذكر انه قال لو ان العرب تخّلص فكرهم وتفكيرهم من نظرية المؤامرة لوجدوا انفسهم في طريق تاريخي من نوع جديد .. وان العراقيين بالذات لو نجحوا بالتخلص من تناقضاتهم الشديدة لكان لهم شأن في هذا العالم ! ودعته ولم التق معه الا بعد سنوات وكان قادما من بغداد على ما اظن وقد اشترك في مؤتمر اقامته الحكومة العراقية لذكرى مرور سنة على رحيل ميشيل عفلق وكنت في بيروت وقت ذاك اشارك في واحد من المؤتمرات ، وكان لقاءا سريعا عابرا وقد وجدته لم يزل بقامته المستقيمة وصحته العالية وذاكرته الحادة ، اذ عرفني منذ اللحظة الاولى ..
وأخيرا : امنيتي على المؤرخين العرب والمثقفين العراقيين
أتمنى على المؤرخين العرب قاطبة الاهتمام باعمال الاستاذ الراحل مجيد خدوري التي ستبقى علامات شاخصة ومتميزة قدّمها واحد من امهر الرجال المختصين والذي امتاز بمنهجه ورؤيته ودقته وعمق تجربته وخبراته .. كان مؤرخا ومفكرا من طراز نادر ، وهو قوي الحجة له اسلوبه الشيق وقدرته على الاقناع .. واتمنى على وزارة الثقافة في العراق احياء ذكرى هذا العراقي القدير ، وان يتذكره من تبّقى من ابناء مدينته الاصلاء .. ستبقى ذكرى الاستاذ مجيد خدوري حية بيننا ، وستبقى كتبه ومؤلفاته مراجع اساسية لنا جميعا وللعالم وللاجيال من بعدنا ، واعلم القراء الكرام انني سانشر لاحقا معلومات وآراء اخرى حدّثني الرجل بها ، وساضمنها كتابي ” زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ” .. للراحل الذكرى الطيبة مع اصدق التعازي القلبية لاسرته الكريمة .
www.sayyaraljamil.com
ايلاف في 9 فبراير/ شباط 2007