إن ما نسمعه أو نشاهده عن العراق هو قليل جدا قياسا لما يحدث هناك ، فلقد غدا العراق بلاطا للشهداء ، وترابا مضرجا بالدماء مع إرادة قوية للعراقيين على البقاء . هل يصدق المرء أن يفقد العراق ما تجاوز على 655 ألف قتيل في غضون ثلاث سنوات ونصف السنة ( أي : بواقع قتيل كل 3 دقائق و20 قتيلا كل ساعة ) ؟ هل يعقل أن يتساقط هذا الحجم المهول من البشر منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 ؟ هل يمكن للمرء أن يستوعب سقوط هذا العدد الهائل من المدنيين والأبرياء العراقيين نسوة وشيبا وشبانا وأطفالا ؟ وحسب الدراسة التي قام بها فريق علمي أرسلته جامعة جونز هوبكنز الأمريكية إلى العراق ، فان معدل ما سقط من البشر يفوق في نسبته أي حالة أخرى في التاريخ ! إذا لا يمكن للإنسان أن يتخّيل هذا البحر من الدماء ، خصوصا إذا علمنا أن كل ما يحدث في العراق لا يعلن على الملأ ، وثمة تعتيم كامل على مناطق ومدن معينة .. والمشكلة أن منظمات دولية قد تشكّك في مصداقية الأرقام ، مثل منظمة هيومان ووتش رايتس الامريكية ، فضلا عن باحثين ونشطاء ومراقبين .. وربما نشكك ايضا ، ولكن حتى لو اقنعنا انفسنا بنصف هذا العدد او ربعه ، فان النسبة تبقى عالية جدا لا يمكن السكوت عنها ابدا .
وكم نوّد من الحكومة العراقية أن تعلن عن أسماء كل ضحايا العراق وهوياتهم ومناطق قتلهم ، وان تقوم وزارة الصحة العراقية ودوائر منح شهادات الوفيات بإعلان كل المعلومات الشخصية للضحايا مهما كان السبب .. وينبغي معرفة كل من ذهب ضحية هذا العنف الداخلي وإشهار كل المعلومات عن الذين قاموا بأعمال القتل والاعدام والخطف والتفخيخ والتفجير عن بعد والتعذيب وقطع الرؤوس ! وإذا علمنا بأن مستشفى اليرموك ببغداد يصدر 200 شهادة وفاة يوميا ، أي 6000 شهادة وفاة شهريا ، فكيف نتخّيل إذن حجم المأساة في عموم العراق ، علما بأن هناك أربع مستشفيات تقوم بنفس العمل الذي تقوم به اليرموك وحدها ، فهل يمكننا الاقتناع بأن ضحايا العراق لم يتجاوز عددهم كثيرا ؟
ان حجم المأساة التي تلم بأهلنا العراقيين قد فاقت كل التصّورات ، وان هذا النزيف البشري غير المتوقف لابد من إيجاد أية علاجات لإيقافه مهما كانت الأثمان .. ولا يمكن أن يبقى العالم كله صامتا على كل الفصول المأساوية ، ونرفض تسّمية ما يجري حتى الآن بالحرب الأهلية ، لأنها ليست أهلية حقيقية ، وان الأبرياء العزل غير مشتركين في أي ماراثون للحرب ، ولم يتحّول كل العراقيين الى جماعات موت ! قياسا لما تفعله العصابات وما يقترفه المجرمون وما يمارسه شذاذ الآفاق والقتلة والمرتزقة من فرق الموت المجهولة بالمجتمع العراقي .. إنها أعمال تفوق التصورات، فلقد غدا هذا المجتمع الصلب تحت وطأة من لا يرحمه !
ينبغي على كل العالم أن يعترف بكارثة العراقيين ، إذ لا ينبغي أن نكذب على أنفسنا متناسين شعبا عريقا يغدو ضحية بأيدي من له مصالح دولية أو إقليمية أو داخلية . إن مانشرته مجلة لانست الطبية البريطانية من أرقام مذهلة لابد أن يقف إزاءها كل من يريد إسكات هذا الطوفان في العراق .. إن التزام الصمت المطبق لا يفيد أبدا ، وكأن الذين يتساقطون ليلا ونهارا هم أشبه بذباب ! لقد كتب احد الزملاء أن عدد الضحايا من العراقيين في هذه الحرب المتوحشة بلغ حتى الآن ضعف نظرائهم اليابانيين الذين سقطوا جراء تأثير القنابل النووية في هيروشيما وناغازاكي عند نهاية الحرب الثانية .. ولكن العالم كله تعاطف مع اليابانيين في حين لم يتعاطف أحد حتى اليوم مع العراقيين ! وحتّى إن شكك الرئيس جورج بوش بالأرقام المعلنة ومصداقيتها ، فان الأرقام لم تأت من فراغ ، إذ أنها حصيلة جهد فريق عمل خاطر بحياته في أعماق العراق وقابل آلاف الأسر هناك .
استطيع القول ، إن العراقيين فقدوا كثيرا من نفوسهم جراء ما لم يكشف عنه يوميا .. إن الأبرياء يتساقطون في العراق مثل أوراق الشجر ، وهم بشر من الأسوياء العقلاء وليسوا قطيعا من البهائم ! إنني أناشد كل صاحب ضمير حي في هذا الوجود أن يصرخ ضد ما يتعّرض له كل العراقيين ، وان يعمل الجميع من اجل أي علاج داخلي أو عربي او إقليمي أو دولي .. وان تدوي صرخات كل شعوب العالم وان لا يبقى الحال على ما هو عليه مع صمت عربي وإسلامي سياسي وإعلامي مطبق ! إن العراقيين لا يمكنهم البقاء في رهان يستحيل تحقيقه في ظل احتلال بغيض وأحزاب طائفية وحكومة ضعيفة وعصابات قاتلة وجماعات ماكرة وفرق موت خفية .. لا يمكن أن تستمر شطوط الدم وحرب كسيحة لا حسم لها ! لا يمكن الصمت على التهجير القسري والنفير الاجتماعي للهروب وإفراغ مناطق من سكانها الأصليين وهجرة العراقيين إلى دول مجاورة .. لا يمكن أن تستمر هذه الموجات الهوجاء التي تطال العراق من كل مكان وهو أشبه بسفينة تتفكك ولكنها لم تزل تقاوم هذا الإعصار .. لا يمكن للعراق أن يبقى أرضا يبابا بلا شجر .. لا يمكن أن تتقّطع أوصاله الجغرافية بعد تقتيل سكانه وتهجيرهم .. ينبغي على من يرسم له طريقه اليوم باسم العراق الجديد أن يجد الحلول الناجعة لإيقاف هذا الطوفان ، فلا يمكن أن ترسم خريطة طريق للعراق وهو يخوض في بحر من الدماء ويمشي فوق أجساد العراقيين ظلما وعدوانا !
لكل من يسمع صوتي يتهادى في الآفاق .. ارجوه أن يردد معي صداه من اجل وطن جميل جدا وعريق جدا اسمه العراق .. ويكفي العراقيين كل هذه التحديات ، فلقد ازدحمت بلادهم بالشهداء وتشربّ ترابهم بأزكى الدماء .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية 18 اكتوبر 2006
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …