دعوني اتساءل : هل غدونا هكذا بلا ارادة ولا عقل ولا ثوابت حتى يرسم الاخرون لنا مصيرنا ؟ هل باتت مجتمعاتنا متنافرة ومتمزقة الى الدرجة التي تجعلنا نرقص طربا لخرائط جديدة لمنطقتنا في هذا العالم ؟ هل اصبحنا من الغباء بمكان حتى نعتمد مشروعات غيرنا كي نبني مستقبلنا من خلال تبنّي مصالحهم واستراتيجياتهم ؟ هل فكّرنا قليلا بما ستحدثه اية تغييرات جذرية في بلداننا ؟ الى متى نبقى اسرى واقع متهتك لا نقبل اصلاحه بانفسنا حتى تفرض علينا خرائط جديدة تحّطم وجودنا جميعا وتغرق مستقبلنا بالدماء ؟ هل غدونا بلا تاريخ ولا معرفة ولا حضارة حتى يتلاعب الاخرون بمصائرنا ؟
كلما يتقدّم بنا الزمن ، كلما تزداد اهمية منطقتنا بكل دولها ومجتمعاتها وثرواتها .. وكلما تمضي الحياة نحو المستقبل ، كلما يزداد هياج العديد من الكتّاب الغربيين الذين ينطلقون من زاوية نظر سقيمة واحدة ليغرقوا العالم بالهذيان والمعلومات الخاطئة .. بل واصبح الشرق الاوسط كله من حوافي بحر مرمرة حتى حدود الهند لعبة بايدي ( خبراء ) لا يعرفون ابدا طبيعة تواريخ عالمنا ولا خصوصيات بلداننا ولا تعقيدات مجتمعاتنا ولا نسيج ثقافاتنا .. بل ووصل الامر ان يكون مستقبلنا عرضة على طاولة الروائيين الخياليين والجنرالات الفاشلين الامريكيين الذين ليس لهم الا تقديم وصفات سريعة وخرائط مجنونة الى الجهات العليا الامريكية من اجل ضمان المصالح الامريكية واستراتيجية السيطرة على المناطق الحيوية في العالم اولا ، وتأمين وسائل الطاقة البترولية ثانيا ، والحفاظ على الامن القومي ثالثا ..
بل وان ظاهرة الارهاب المقيتة التي ساهموا هم انفسهم في خلقها وبلورتها .. اليوم يريدون القضاء عليها حتى وان اغرق الشرق الاوسط كله ببحر من الدماء .. ان الحلول التي يأتي بها بعض الامريكيين الذين تمرّسوا على الهذيان وكتابة روايات الخيال العلمي انما هي مثيرة للقرف والاستهزاء .. اذ اعتقد ان مشكلات الشرق الاوسط التي تكاثرت وتعقّدت بفعل التدخلات الخارجية لا يمكن ان تحل من قبل تصّورات اناس لا عمل لهم الا رسم خرائط جديدة او الدفع بمقترحات بليدة او بوضع خطط غير واقعية ..
انني لا اقول بأن منطقتنا خالية من المشكلات الحدودية الصعبة ، ولكن طبيعة تداخل مجتمعاتها التي توارثناها عبر القرون ومنذ العصور الوسطى لا تلائمها هندسة دول بمقاييس دينية او طائفية ، او رسم حدود مثالية تفصل بين هذه المجتمعات المعّقدة التي لا قبل للاخرين في فهم نسيجها القومي وتنوعها الديني وفسيفسائها الطائفي .. لابد ان تأخذ كل الشعوب والمجتمعات حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية كاملة .. ولكن ليس على حساب أي تغيير امريكي لخرائط الشرق الاوسط .. ان الشعوب الاصيلة هي التي تصنع تاريخها وتناضل من اجل وجودها من دون ان تعتمد على خريطة كسيحة يرسمها جنرال امريكي متقاعد فاشل متبنيا عموميات مثالية تتصادم مع كل خصوصيات الواقع ! انها خرائط امريكية ستشعل الشرق الاوسط كله في حروب لا تبقي ولا تذر وستتوالد صراعات حادة ومرعبة تمتد على امتداد القرن الواحد والعشرين .
ثمة مسائل اساسية لابد ان يدركها الجميع :
اولا : ان الحدود في الشرق الاوسط لا يمكن اعادة رسمها بسهولة ، فهي ليست مجرد خطوط على الورق يرسمها روائيون يعيشون لما وراء البحار .. انها تاريخ طويل من المطالبات والصراعات والمعاهدات والحروب التي بنيت دعاماتها على ما كان يدعى سابقا بالتخوم القديمة Marchs وخصوصا بين ايران وتركيا وقوقاسيا وافغانستان واليمن ..
ثانيا : ليس من السهولة بناء دول جديدة حسب المقاييس الدينية والطائفية والعرقية في منطقتنا .. فمثل هذه التمايزات نجدها في اغلب دول العالم ، فكيف يمكن بناء شرق اوسط جديد على اسس تقسيمات دينية او طائفية في مجتمعات متنوعة ومختلطة اصلا ؟؟
ثالثا : لا تنحصر المشكلة في بناء شرق اوسط جديد على الطريقة الامريكية ، بل ان المعضلة تكمن في دواخلنا الاجتماعية ، فليس هناك أي منطقة خالصة تماما من الاقليات والاثنيات والطوائف الذين ستكون مصائرها في محنة تاريخية وسيكون اصحابها عرضة للاضطهاد والابادة الجماعية .
رابعا : ان مجرد الترويج لمثل هذه المقترحات الهزيلة والافكار الوهمية سيجعل الناس في مجتمعاتنا على ابواب افتراق حقيقي مع اوطانها .. وسيعيشون قلقا ووهما لا يتحقق ابدا وسيزيد ذلك من تفكك الشرق الاوسط ، ولا يمكن عند ذاك اعادة تركيبه ابدا لا كما كان ولا كما يريده خبراء امريكا الجدد .
خامسا : ان الحاجة باتت ماسة الى اصلاحات جذرية في كل بلدان المنطقة ، والى خطط تحديثية في تفكيرنا وسياساتنا ورؤيتنا الى المستقبل .. تراعى فيها حقوق المجتمعات واصلاح المؤسسات .. والقطيعة مع كل ما يثير الكراهية والاحقاد اتقاء لتحولات جنونية تغرق المنطقة في بحار من الدماء !
سادسا: لابد ان يترسخ ثمة وعي ـ حتى عند المعجبين بالخرائط الجديدة ـ أن المهندسين الامريكان الجدد ليس لديهم أي المام ومعرفة بتواريخ بلداننا ولا بجغرافياتها وان حدودنا ليست كلها من صنع الاوربيين ، فهي موجودة ومتوارثة منذ ازمان ايران القاجارية وتركيا العثمانية ومصر الخديوية وتونس الحسينية وجزائر الدايات ومغرب العلويين واليمن الامامية ..
سابعا : ان انظمة الحكم الذاتي والفيدراليات ربما تكون العلاج الواقي لشعوب عدة عانت من القهر والاضطهاد مثل الاكراد والبلوش والاذريين والارمن والتركمانوالعربستانيين واللور والآثوريين وغيرهم .. ولكن انتاج دول طائفية ودينية سيجر الى اشعال صراعات وحروب دينية لن يستفيد منها الا الاعداء .
انني اتساءل : هل نجحت في ايصال رسالتي ؟ اتمنى ذلك من صميم القلب .
البيان
2/8/2006
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …