لا يخفي علي أحد أن كلمة إرهاب غامضة المقاصد غير دقيقة المعني. فقد استعملت هذه الكلمة في الغرب منذ قرنين تقريبا وتفيد منذ ذلك الحين كل استعمال للعنف لتغيير النظام السياسي في بلد معين. وقد نفهم من هذا المعني لكلمة إرهاب أن النظام السياسي لا يمكن أن يتغير إلا سلميا بواسطة الآليات الديمقراطية التي يخولها القانون مثلا، باعتبار أن هذا النظام هو تعبير لإرادة الشعب ونتيجة لاختياراته الديمقراطية. ولكن التاريخ قد بين لنا بكل وضوح أنه أحيانا لا بد من استعمال العنف لقلب أوضاع النظام السياسي. فهل نسمي مثلا حركات التحرر من الاستعمار إرهابا، والثورة الصينية إرهابا والمقاومين الفرنسيين ضد الهيمنة النازية إرهابيين، وهلم جرا؟ هناك ميل عند الإستراتيجيين الأمريكيين للإجابة عن هذا التساؤل بالإيجاب بما انهم قد اعتبروا منظمات الصمود والمقاومة ضد الإستعمار بشتي أشكاله منظمات إرهابية كمنظمة ANC لنيلسون مانديللا الذي أصبح بعد تحرير بلاده من النظام العنصري رئيسا لجمهورية إفريقيا الجنوبية في فترة معينة.
ذلك يعني أن تصور الإرهاب ليس واضحا بحيث يمكن استعماله من دون خوف من الانزلاق في متاهات إيديولوجية كما نستعمل مثلا مقولات فلسفية أو مفاهيم علمية. فهو يتغير بتغير الظروف والملابسات السياسية، فإرهابي الأمس هو زعيم اليوم، والمنظمة التي كانت تقول عنها أمريكيا مثلا أنها منظمة أحرار لأنها كانت تقاوم الشيوعيين في أفغانستان مثلا أصبحت اليوم إرهابية لأنها تعرضت إلي مصالحها الحيوية. وآخر ما صدر أمام أعيننا هو أن الإرهاب أصبح وكأنه الميزة الخاصة بالمسلمين. وقد تجند لتمرير هذا التحديد الجديد للإرهاب مثقفون صهيونيون معروفون بعدائهم المعلن للإسلام وللعرب. ونسيت هذه المعقولية الغربية أن الإرهاب في الفهم الخاص بها قد نشأ وترعرع في أحضانها ويعيش الآن ويترعرع في ربوعها، بل تباركه ويباركها ولا نريد تعداد المنظمات الإرهابية الأوروبية فهي كثيرة متكاثرة في أسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وفي أنحاء العالم غير الإسلامي.
وقد ذهب مثقفو الإرهاب إلي أبعد حد عندما وجدوا أن القرآن الكريم هو أصل الإرهاب بما أنه يتضمن آيات في القتل والحرب. ونسوا هؤلاء أن التوراة وكل الكتب الدينية المنزلة قد تحدثت عن الصمود والعنف. لنتمعن في هذه الفقرة من كتاب التوراة وهاهي ترجمتها التقريبية: يقدم لك إلهك ومولاك هذه الأوطان ويبث فيها الرعب حتي إبادتها ويقدم بين أيديك ملوكهم فتمحي أسماءهم من الوجود ولا أحد يقف صامدا أمامك حتي تقتلهم وتبيدهم والأمثلة علي ذلك كثيرة.
ولنتمعن قليلا أيضا في هذه المقولة لمفكر ألماني (1848 Karl Heinzen) ألف كتابا عن القتل هو عبارة عن نصائح متعددة في استعمال تقنيات التقتيل والمذابح والإبادة ضد الآخر أي ضد الشعوب المتوحشة تلك التي لم تدخل الحضارة الغربية: إذا ما أجبرت علي تدمير نصف قارة وعلي نشر حمام دماء لمحو البرابرة، فلا يجب أن يوبخك ضميرك. إن الذي لا يضحي بحياته فرحا من أجل إبادة مليون من المتوحشين لا يعتبر مواطنا جمهوريا (نجد هذه القولة في كتاب:
Jean Claude Brusson, Le siڈcle rebelle, Dictionnaire de la contestation au XXe siڈcle, Larousse, Paris 1999).
ولعله قد آن الأوان لإعادة النظر في كلمة إرهاب وتدقيقها حتي لا تكون أداة إيديولوجية نستعملها حسب ظروفنا وملابسات سياساتنا. وإذا لم نقم بذلك التدقيق والفحص والتوضيح، ونحن نوافق الدكتور سيار الجميل عندما بين أن هذا المصطلح حديث لا وجود له في الأدبيات الكلاسيكية القديمة لدي ثقافات الشعوب قاطبة، ولم يكن يعرف مطلقا بهذا الاسم في النصف الأول من القرن العشرين (جريدة الزمان 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 ص 13) ولكنّ معناه المكتسب قد دلت عليه كتابات عديدة منذ القرن التاسع عشر كما جاء سابقا. وهو علي كل حال ظاهرة معاصرة كما أكد علي ذلك د. سيار الجميل محددا الإرهاب كما يلي: هو عملية أو مجموعة من العمليات مضادة للآخر وتقتص منه عشوائيا بعد أن يتم التخطيط للعمليات أو محاولات تنفيذها وبشكل منظم ودقيق من أجل كبح جماح الآخر ومعاقبته مهما كان الثمن وبوسائل غير مشروعة (نفس المصدر).
هكذا إذًا عندما نتحدث عن الإرهاب فإننا نتحدث عن العنف بمستوياته العديدة… وسيصبح الإرهاب عندئذ هو نشر الخوف والرعب والموت في المواطنين العزل. وبذلك ومن خلال هذا المعني الدقيق، تصبح أمريكا علي رأس الإرهابيين بحصارها للعراق وبتجويعها وتقتيلها للأفغان وإدخال الرعب والقهر والموت في مواطن كثيرة من العالم، وتصبح دولة إسرائيل هي أيضا زعيمة الإرهاب اليومي. ولا أتصور تدقيقا آخر لمفهوم الإرهاب. فكل من يقوم بإدخال الخوف والرعب والرهبة والتهديد والقتل في قلوب المواطنين سواء كان فردا أو جماعة أو دولة أو نظاما فهو إرهابي. وحتي العنف المقنن ذلك الذي يستعمل يوميا لحفظ النظام مثلا فيجب أن لا يدخل الرهبة في قلوب الناس بل بالعكس من ذلك يجب أن يحدث شعورا بالعدل والإنصاف أما إذا أدخل الرهبة والخوف، فإنه سيصبح هو أيضا إرهابا كتسلط الأنظمة الدكتاتورية علي شعوبها مثلا.
فمقاومة الإرهاب تتطلب إذا الاتفاق حول المعني الدقيق للكلمة من ناحية وحول ضبط استعمال العنف بصفة عامة، هذا الاستعمال الذي يجب أن يكون مضبوطا بقوانين تتأقلم مع الكرامة البشرية وتصونها وتدافع عنها بدون تمييز أو تفضيل أو إقصاء. فالهدف الأساسي والأولي للعقل البشري يجب أن يكون التّسالم ولا التّحارب. أما أن نخوض في هذه المسائل بطريقة عدوانية ضد حضارة معينة أو ضد دين معين، فإننا سنسقط في منطق حرب الحضارات وتغذية الإرهاب وتقويته وإشعال فتيلته في أمكنة عديدة من العالم. فالقضاء علي الإرهاب يكون بنشر روح العدالة والمساواة والإنصاف في كل مكان من العالم، أي بنشر العقل الكوني الحواري في نمط تعاملنا مع قضايانا الإنسانية. فللمثقف العربي الآن دور أساسي في الذود عن قيمه الإنسانية والمشاركة الفعالة في الحوارات والمناقشات والمناظرات الفكرية والثقافية لتحويل قيمه إلي قيم مقبولة عالميا لتصبح في ما بعد قيما كونية.
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …