في محاضرته القيمة الموسومة (بنية المجتمع العراقي:محاولة في تفكيك التناقضات ) التي القاها في كاليري الكوفة بلندن،مساء يوم 20 ايلول من العام الماضي ،ابحر الاستاذ الدكتور سيار الجميل بمن كان حاضراً معه، وبنا نحن الذين تلقينا هذه المحاضرة (عن بعد ) عبر موج صاخب في بحر من المتضادات والنقائض التي قلما نهض بأعبائها مجتمع انساني ،لما نهض بها المجتمع العراقي عبر مئات القرون قدم خلالها من المنجزات ما لم يجاريه فيها احد سواه..والحق انني كنت وانا اركب مع المحاضر مركبه الصعب مشفقاً ومرتاباً بنفس الوقت،وانا اطالع الموضوع من شرفات عنوانه،اشفقت على نفسي ان اتورط بقراءة شائكة لموضوع ملتبس،وقد احتوتني الريبة في معالجة مثل هذا الموضوع ،عبر هذه المساحة المعرفية المحدودة ،وخلال ما تتيحه محاضرة كهذه من الوقت ،لولا ان حصافة المنهج وحذق المعالجة ومهنية العرض،قد أعادت لي الأمان والطمأنينة فكنت كمن يركب صخب الموج ،ويتأسى عن مخاطره ،بمتانة المركب وحصانته ،ودهاء البحار وحرفيته. من المؤكد انني لا أنوي الاستطراد ،او السير قدما بالقارئ للولوج به ،بما تضمنته المحاضرة من عروض وتوصيفات شيقة وتحليلات حاذقة لظواهر وبنى سلوكية اجتماعية على درجة من التعقيد والتشابك بما يجعلها من اصناف الظواهر والبنى النادرة ،وربما الشاذة.كما ان لهذه المقالة كما يوحي عنوانها اهدافاً غير تقديم عرض للمحاضرة او التعريف بها ،على اهمية ذلك وهو ما اتمنى ان انجزه لاحقاً في مقالة اخرى غير هذه.غير ان ذلك لا يمنعني من التنويه بان قراءتي للمحاضرة قد وضعتي في موارد لم اكن سأردها لولا هذه القراءة بخاصة وانني في مواضع كثيرة كنت اجد امامي مساحات غير مشغولة او هكذا قد تراءى لي في الاقل،وهو ما اثار بي من الفضول ما دفعني الى مثل هذه المغامرة.وعلى الجانب الاخر فقد كانت هناك من الطروحات و التعميمات ما يتطلب المداخلة والنقاش او التساؤل،وهو ما ضمنته جانباً من هذه المقالة.ان التقسيم الذي اقترحه الباحث في صدر محاضرته ،لتاريخ (طويل) و(عريق) لمجتمع يتميز كما وصفه بثقل الموروث الدال على العمق التاريخي اولاً وتنوع الثقافة وهو بتقديري دالة اجرائية وعملية ،على خصوبة عقلية نادرة ،وقدرة فذة على العطاء والخلق ثانياً وتعدد الاجناس الذي يعني ،لكي ينتج الخواص السابقة،شخصية انسانية ذات قدرات فريدة على (تمثل) المختلف و التعايش معه ثالثاً.اقول ان تقسيم تاريخ مجتمع كهذا ،الى شقين او (قسمين) على حد تعبير الباحث ،الاول سياسي يمثل (منتهى البشاعات ) والثاني اجتماعي يمثل (اروع الحضارات) ينطوي على قدر ما من(الاختزالية) والتعسف في التمييز او (التفريق) بين مسارات النضج الحضاري والصيرورة لاي من المجتمعات البشرية بخاصة وان القسم السياسي كما وصفه الباحث هو في الواقع شق من مسار ثقافي وفكري عام لاينفصم عن الاجتماعي ،وهو لايجنح الى العنف(أدوات العسكر) الا بعد اخفاق الوسائل السلمية (أدوات السياسة) في تسوية الارادات المتضادة (الصراع( .
وثمة ثغرة قد رصدتها ،وسولت لي نفسي (الامارة ) ان ادلف من خلالها فأدلوا بدلوي مع الاستاذ الدكتور سيار الجميل بعد ان استدرجني بثلاثيته الاجتماعية(مدن -ريف -بادية) الى ما لم يكن بظني ان ازج به نفسي ،وهو قد ضارع بها ثنائية المغفور له الدكتور علي الوردي الاجتماعية(بدو – حضر) المعروفة والتي كانت من وجهة نظره مصدراً اساسياً من مصادر الصراع الاجتماعي واضطراب منظومة السلوك في المجتمع العراقي بين قيم(البداوة ) وادوارها وبين محدثات (الحاضرة ) واستحقاقاتها .ولعل ما يثير التساؤل هو هذا الانتقال الصامت للباحث ،الى الثلاثية دون يشير الى التغييرات الجوهرية التي فرضتها العقودالفاصلة بين ثنائية الوردي وثلاثيته وما حدث من تطور في طرائق المواصلات والاتصالات وتنامي الخدمات البلدية والصحية والتعليمية وغير هذه وتلك من العوامل التي لم تكن قد تيسرت ،خلال عقود النصف الاول من القرن الماضي ،والتي فرضت ظهور الريف كبيئة (مادية / اجتماعية) متميزة ووسيطة بين امتدادت البادية وهدوئها من ناحية ،ومحدودية رقعة المدينة وصخبها من ناحية ثانية.
واحسب ان الثلاثيات او الثنائيات الاجتماعية اياً كانت قيمتها العملية في تفسير السلوك الاجتماعي لا يمكن عدها بمثابة مسلمات ،او حتمية ايكولوجية يستشرف من خلالها الباحث نماذج جاهزة للتصدير او الانتقال ،من هذه الرقعة ال تلك دون (متغيرات وسيطة ) تعمل على افراز شروط وظروف (مستجدة) تكون لها الاولوية في تشكيل المواقف والقيم الضابطة لمنظومات السلوك الاجتماعي في هذا المجتمع او ذاك .من هنا يمكن القول ان الفجوات الحضارية بين مكونات البيئة المادية / الاجتماعية ثنائية كانت (بدو-حضر) او ثلاثية(مدينة – ريف – بادية ) لايمكن عدها واقعاً وجودياً ثابتاً ومطلقاً تخضع له دون قيد او شرط منظومات السلوك الاجتماعي بخاصة ما كان منها مشتركاً بين هذه البيئات الحضرية ولعلنا على وفق هذه الافتراضات سنكون بحاجة للبحث عن عوامل جوهرية قابلة للتشكل بطريقة او باخرى ،تحتكر الفعل المؤثر لمفرزات البيئات الحضرية اوتداعياتها وما يمكن ان يترتب عليها ،من نماذج سلوكية اجتماعية عامة سلباً أو ايجاباً.
لعل من شان المنظور السابق ان صح ولو جزئياً ان يفتح اعيننا على مشاهد في المسرح الاجتماعي العراقي طالما اخطأتها عيون الباحثين ،او انها في الاقل لم تحسن التدقيق بها ،وردها الى عواملها الواقعية .ومن المخيف حقاً ان تعد تباينات النسيج الاجتماعي وتناقضاته ،وما يرشح عنها من منظومات سلوكية مضطربة وكأنها قدر العراقيين وحدهم ،وواحدة من سماتهم الاجتماعية الازلية،ولعل مثل هذه السقطات ان نحن تغافلنا عنها كباحثين في العلوم السلوكية ستعني فيما تعنيه اننا ندير ظهورنا لكل قوانين الصراع المعروفة وقوانين الحراك والتغير الاجتماعي وهذا ما لا يصح ان نقع به .واحسب ان ليس بيننا من يجهل،ان البداوة هي في واقع الحال واحدة من مراحل التصير الانساني وليس هناك في تأريخ البشرية ما يفيد بان ثمة حضارة(زراعية كانت او صناعية او معلوماتية ) قد بزغت من العدم،او انها ولدت من رحم الغيب.ولعلنا نعرف جيداً ان اكثر امم العالم المعاصر تحضراً واستقراراً،قد ولدت عبر مخاضات دامية،لم يشهدها العراقيون في اشد حقب تاريخهم دموية،وينبؤنا تاريخ اوربا بكل حواضرها انها ظلت وعبر قرون طويلة قبل عصر التنوير مسرحاً لبداوة لا تدانيها في فجاجتها وفضائعها ببداوة الامم الاخرى الاشد تخلفاً وظلامية.
ان الانسياق وراء المسلمات الاجتماعية فضلاً عن انه سيكلفنا الكثير فانه في نفس الوقت سيحرمنا من متعة التأمل المعمق،في وقائع تعد من وجهة نظر اجتماعية ظواهر ملتبسة ومثل هذه الظواهر لا تسعفها الملاحظة ،ولايغني عنها شيئاً العرض التوصيفي لنشازاتها مهما كان حاذقاً ودقيقاً ولعل الالية المثلى للتعامل مع هكذا ظواهر يتطلب البحث في ظروف توالدها غير الشرعي،وتقصي عوامل تضخمها بالطريقة التي اصبحت عليها.وبهذه النظرة غير المنفعلة وبعيداً عن المسلمات الاجتماعية والتوصيفات الجاهزة ،ينبغي التعامل مع ملابسات السلوك السائد في مجتمعنا العراقي ولعل البحث على وفق هكذا منهج سيتطلب فسحة ارحب مما نحن فيه بمثل هذه المقالة المبتسرة .غير ان بوسعي ان الفت نظر من يعنيهم الامر ،الى بعض الملاحظات التي سأعدها ملاحظات تمهيدية ،عسى ان تفضي الى جهد اكبر للتعامل مع اشكاليات المجتمع العراقي على وفق المنهج الذي اشرت له قبل قليل.
سأفترض ابتداء ان منظومة السلوك الاجتماعي المضطربة اياً كانت حاضنتها الاجتماعية والثقافة التي تعج بها ،هي على المستوى السيسولوجي حصيلة خليط غير منسجم ،من قيم وتقاليد وعادات وادوار اخذت تلاوينها من ثنائيات اجتماعية شديدة التباين ومتناقضة ومن ثلاثيات ادمجت تعسيفاً تحت ظروف تحكمها شروط شاذة فرضت سيطرة الاكثر تخلفاً على المتخلف وهيمنة الاطراف(بادية /ريف) بمكوناتها السلوكية التقليدية الراسخة والمتشددة على المركز (مدينة ) ذي المكونات السلوكية(الانتقالية) الهشة ،وعلى الطرف الاخر من المعادلة تقف عوامل اخرى ذات طبيعة سايكولوجية فرضتها عوامل العزل والتهميش والاحباط والخوف وفي جميع الاحوال فان مثل هذه التحولات لا تأتي من فراغ بل ان لها دائماً من العوامل،ما يدفع بها الى المقدمة ولعل من بين اهم هذه العوامل،هي ما كان منها ذو طبيعة سياسية ويرتبط بطبيعة انظمة الحكم و الادارة واحسب ان بوسعنا مقاربة واقع المجتمع العراقي ،وملامسة اوجاعه ،اذا نحن احكمنا العمل بهذا النموذج.ولعل قليلاً من التمهل في معاينة مظاهر التناقضات التي يحفل بها واقعنا الاجتماعي المضطرب والملتبس ،والتي اطنب بوصفها الدكتور الجميل في محاضرته الشيقة ومعايرتها بثنائية المغفور له الوردي او ثلاثية الدكتور الجميل اطال الله عمره ستظهر لنا بجلاء ان ما يعانيه المجتمع هو ليس حصيلة(ثنائية ) او(ثلاثية) اجتماعية متنافرة،تحولت )قدرياً الى صدام اجتماعي كارثي كالذي نشهده اليوم وما شهدناه بالامس بل ان هذا الاحتدام في الرؤى و المصالح و التفضيلات هو في الواقع يمثل نكوصاً ثقافياً وتصدعاً اجتماعياً مرده منظومة من العوامل الثقافية والاجتماعية / الاقتصادية والسياسية افضت بنا عبر تصيرات عشوائية وغير متوازنة الى مجتمع (مسخ ) يضطرب بين ثقافة تقليدية قبلية (مصدرها الريف و البادية) تحجب عنه فرص الاندماج الانساني ومدنية (استوردت) ادواتها (المادية) من الخارج المرفوض (ثقافياً) واذا كان لنا ان نبحث هذه الوقائع من زوايا (انثروبولوجية) فسنجد جوانب هامة من معاناتنا قد تعزا لا الى الثنائيات او الثلاثيات بذاتها وبمكوناتها المجردة ،بل وبشكل اكثر دقة الى القصور في معالجة هذه المكونات والتعامل معها وتأمين الشروط الطبيعية للتحول بها ليس بطريقة تقافزية انقلابية ،بل بعملية نمو انتقالي يؤمن مسارات لينة ويمهد لكي تأخذ عملية التغيير الاجتماعي اتجاهاتها كخيارات حضارية تتوازى مع ما يتحقق للمجتمع من فرص التقدم و الرخاء المادي،ومثل هذا التحول قد سارت عليه جميع الامم التي تحظى اليوم،بقدر من الاستقرار الاجتماعي والسياسي ونحن جميعاً نعرف ان ما حدث في العراق عبر ما يقرب من نصف قرن ،قد سار باتجاهات معاكسة وقد عانى وما زال يعاني تلكؤاً في برامج التنمية وانتفاء عاملي الشمولية والعدالة،في توزيع مواردها بما يكفل ،الحد الادنى من التوازن (الافقي) الجغرافي و العمودي (النوعي) هذا فضلاً عن غياب الستراتيجية الوطنية ،التي تضمن تحولاً متوازناً نحو التقانات الحديثة في مجالات الخدمات و الصناعة ومجالات النشاط الاقتصادي الاخرى .
ضياء الجصاني
رابطة الرافدين لحقوق الانسان
الصباح البغدادية
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …