لعل أخطر ما يواجهه العرب اليوم : عدم امتلاك غالبيتهم للرؤية المنفتحة والواضحة للزمن المتسارع نحو الأمام ، بل ولم يمتلكوا أيضا البوصلة الدقيقة التي تعينهم على تحديد مساراتهم الصائبة . وعليه ، فان الأخطار والتحديات الداخلية والخارجية ستبقى تحيط بمستقبلهم ، وسيبقى العرب إن لم يجر تصحيح مسارهم التاريخي من قبل صناع القرارات بالشراكة العملية مع النخب الذكية ، رهينة أحد احتمالين ، أولهما : استدراج المستقبل لها نتيجة عوامل عشوائية متضاربة ومتناقضة ، تصنعها المصادفة ولا تستوعبها البرامج ولا التدابير العقلانية التي تراعي المصالح العربية العليا ؛ وثانيهما : ذاك الذي يتشكل ضمن منظومات تتحكم في آلياتها وأساليبها قوى الآخر من الذين تهمهم مصالحهم وشؤونهم قبل أي شيء آخر.
وفي كلتا الحالتين ، سيغدو مستقبل العرب رهن تحديات ومخاطر ومصاعب ليست لأصحابه القدرة أبدا في الاستجابة لها والتعامل معها على أساس صلب . إن من أبرز التحديات التي ستواجه العرب حتى عام 2009 ، هي تحديات أمنية واقتصادية وإعلامية وثقافية وسياسية لها تشابكاتها وتعقيداتها وتداخلاتها . لقد بدأت مناطق عربية تحث الخطى من اجل التغيير . وعليه ، فأن الوحدات والاتحادات والمنظمات والرابطات والنقابات العربية التي تشكلت في القرن العشرين – مثلا- والتي باتت اليوم كسولة جدا وقد شاخت ولا عمل لها بل لم تعد صالحة حتى في عقد مؤتمراتها نظرا لفشلها في أعمالها ، وكانت ولم تزل تلك ” المنظمات ” محسوبة على هذا الطرف أو ذاك . وقد انشق بعضها نتيجة للأوضاع السياسية المأساوية كاتحادات : الأدباء والمهندسين والمحامين والصيادلة والمؤرخين والأطباء والاقتصاديين والتربويين العرب .. الخ
لقد باتت الحاجة ماسة جدا لإلغاء كل هذه ” الاتحادات ” والمنظمات البدائية التي واكبت تواريخ الفشل ومارست الشعارات من دون تحقيق الحدود الدنيا من الأهداف النبيلة التي آمنت بها كل القوى الاجتماعية العربية في الماضي . وهنا أدعو الى تأسيس بدائل عربية جديدة تقوم على ركائز عصرية وتجتمع حولها النخب المثقفة الجديدة من الجيل المعاصر . نعم ، أنها دعوة مخلصة لتشكيل منظومات ذكية وتجمعات للمهرة من القوى الفاعلة وملتقيات للتكنوقراط العاملين ومدن إعلامية نشيطة وورشات عمل للبراغماتيين العمليين وليست للسياسيين الحالمين أو المؤدلجين الطوباويين ومنتديات للفكر المعاصر والثورات المعاصرة والمستقبليات المعلوماتية والحاسوبية عبر استخدام آليات ما يطلق عليه بـ الحكومة الإلكترونية وهناك شبكات الاتصالات الدولية التي جمعت العالم كله على نحو غير متخيل أبدا .. وهي جميعا بعيدة كل البعد عن التوجهات الأيديولوجية والسلطوية والعاطفية والحزبية والعقائدية المقننة ، شريطة أن تكون أيضا بعيدة كل البعد عن أي شراكة أو تطبيع مع كل من الدولة والمجتمع في إسرائيل التي فشلت محاولاتها في أن تكون محورا أساسيا في الشرق الأوسط على مدى التسعينيات من القرن الماضي ..
نعم ، مؤسسات متميزة ومتنوعة للتعددية الاقتصادية والفكرية والتخصصية والعلمية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والمعلوماتية الحقيقية التي يمكنها أن تخدم كل قسمات المجتمع العربي بأقصى درجات الشفافية واعادة البناء من خلال الحوار الجاد والمشاركة النخبوية الفاعلة والمعايشات الحية وتبادل الآراء والأفكار والخبرات لأقصى ما يمكن .. والعمل الجماعي ضمن طواقم واقعية تتحرك سريعا في كل اتجاه في معالجة القضايا العربية الكبرى بعيدا عن أساليب شعاراتية تقليدية مألوفة جوفاء كانت وراء انسحاق العرب واقعا وخطابا وتاريخا ..
ومن المؤمل أن تسعى مثل هذه المؤسسات الجديدة في المستقبل إن نجحت في مهامها العملية والعلمية والواقعية أن تجتمع تحت سقف أكثر من تجمع فوريومFORUM عربي يضم كل القوى الذكية ، ليستطيع أن يتعامل مع التجمعات العالمية والقارية في العالم كله من دون أي تمييز ، بل يجري ذلك على أساس البحث عن كفاءات ومهارات وطاقات ذكية ضمن تطوير المصالح العربية العليا . المطلوب إذن أن يسعى العرب إلى إجراء تحولات جذرية في خطابهم وواقعهم وتحريك زمنهم نحو الأعلى على أساس الكفاءة والذكاء وتكافؤ الفرص في اختيار الأنسب والأحسن دوما ، ثم العمل على انتشال العرب جيلهم الجديد والأجيال الثلاثة القادمة على امتداد هذا القرن لقدراتهم ومواهبهم ونخبهم ومثقفيهم من هوة التفكير السائد بكل موارباته وعواطفه وشعاراته .. وتأسيس تاريخ فاعل جديد له خطابه وواقعه يبرز فيه التأمل والتدبر والتفكير الجاد بالمستقبل وتنمية الزمن برؤية القرن الحادي والعشرين لا بشعارات وهوس القرن العشرين ، والاستفادة من بعض التجارب العربية الناجحة التي اختزلت الزمن وخرجت على العالم ، فضلا عن اختصار التحول من ثقافة التساكنية والأحادية والتقليدية إلى ثقافة المشاركة والشفافية والتعددية ..
واخيرا ، إنني أجد اليوم عند صفوة من القيادات العربية الشابة والواعية أملا واعدا بإجراء تحولات من نوع ما بواسطة برامجها وتطبيقاتها في العقد الأول من هذا القرن الجديد ، كي تبرز منتجاتها الفاعلة بعد 2009 ، كما وان الأمل معقود على الجيل الجديد الذي سيدخل ميادين الحياة العربية بعد 2009 ، فهل سينجح في مهامه باستفادته من كل العبر والدروس ، أم أنه سيبقى رهين محبسها الصعب فيواجه المستقبل بخفي حنين ، وتكون الفرص التاريخية قد ضاعت فعلا من بين يديه ! ؟؟ هذا ما سيترقبه كل من يفكّر واقعيا في مستقبلنا . إن مثل هذا ” الخطاب ” لا يمكن أن يوّجه إلا إلى أبناء الجيل الجديد من اجل تحفيزهم للتفكير في مستقبلهم أولا ، وان يؤسسوا قطيعة معرفية بينهم وبين مواريث القرن العشرين السالبة ثانيا .. من اجل بناء تفكير جديد وتاريخ جديد .. وعندئذ سيغدو لهم اكثر من مكان ساطع تحت الشمس .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 24 مايو 2006
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …