Home / الشأن العراقي / من يحكي لي اليوم عن شارع الرشيد ؟

من يحكي لي اليوم عن شارع الرشيد ؟



عبقرية المكان الخصب
     عندما كتبت مقالتي عن شارع الرشيد في جريدة الزمان الغراء (العدد 1221، الاثنين 27 مايو / ايار  2002) سجّلت بعض افكاري عن خصبه التاريخي ودوره الحيوي في صناعة تاريخ العراق ابان القرن العشرين .. وطالبت بكتابة تاريخه من خلال ذكريات رجالات بغداد ونسوتها الذين كان بالنسبة لهم : شريان بغداد الحقيقي .. واليوم لابد ان نستعيد ذكريات تلك الجادة الشهيرة التي تعيش اليوم – كما سمعت – زمنا كئيبا نتيجة ما تشهده بغداد من اوضاع صعبة جدا .. انني اعتقد ان ليس الانسان يعاني لوحده ، بل ان المكان يعاني ايضا خصوصا اذا كان صاحب تاريخ ثر مثل شارع الرشيد الذي اختزل حياة العراق المعاصر كلها في القرن العشرين . وهو يعد من امهات شوارع الدنيا في قلب العاصمة العريقة بغداد التي سماها ياقوت بـ ” سيدة البلاد ” !  
    لقد زخر شارع الرشيد بكل المعاني والاحداث والرجالات والابداعات والحركات والتفاعلات والسياسات والانقلابات والمسيرات والمظاهرات الكبرى والكرنفالات والاستعراضات العسكرية وكل انواع الثقافات المدنية .. شارع مانع جامع لم نجد كمثله ابدا في عواصم الدنيا مهما حاولنا المقارنة ووضع الامثلة والبدائل على الرغم من انه لم يمتلك الابراج العالية ولا العمارات الشاهقة . انه بالرغم من بساطة ابنيته من ذوات الطبقتين وقدمها منذ تأسيسه عند اواخر العهد العثماني ، فهو شارع جمع الدولة والمجتمع معا على مختلف النقائض والتباينات والاختلافات .. شارع استلهم من الماضي اسم اعظم الخلفاء العرب المسلمين الذين سمى الغرب عهده بالعصر الذهبي !
    شارع هو شريان بغداد الحقيقي الذي استمر نبضه قرابة قرن من الزمن ، والذي تمتد منه جملة هائلة من الشرايين والاوردة ذات اليمين وذات الشمال ! شارع كان مزهوا من شماله حتى جنوبه الى جانب نهر دجلة وهو يتحرك مثل حركته الملتوية ويثور كثورات فيضاناته الهائجة .. لم يكن يهدأ ابدا لا في اعماق الليل ولا في سويعات النهار .. شارع عرفه العالم من خلال كل اصدقائه ومحبيه وعاشقيه او حتى شخصيات من الشرق والغرب الذين كتبوا عنه وذكروه باطيب الذكر ولهجت السنتهم بامجاده .. اذكر منهم : المس غرترود بيل وارنولد ولسن وجاك بيرك واغاثا كريستي وارنولد توينبي ولونكريك وامين الريحاني وعلي الطنطاوي وعبد العزيز الثعالبي وانيس النصولي وزكي مبارك واحمد حسن الزيات ونزار قباني وسليمان العيسى وغيرهم ، وغنى له : محمد عبد الوهاب وعبد الغني السيد وام كلثوم ومحمد قنديل وفيروز وورده الجزائرية .. وغيرهم.


تاريخ متنوع من المشاهد والرؤى والمعاني
      اتساءل اليوم وقد مضت سنوات طوال على فراقي له وانا اسمع عنه كما يسمع غيري من ابناء وطني الحبيب ماذا حل به ؟ وما هي اخباره اليوم ؟ اتساءل : اليس حريا ان يكتب تاريخا حقيقيا لهذا الشارع وازدهاره على امتداد قرن كامل ؟ وبالرغم من كل الكتابات التي نشرت عنه ، اليس من الاجدى ان يعرف العالم كله ان شارعا عظيما في قلب الشرق شهد ما لم تشهده دولا بالكامل !! ؟؟ اليس من المهم ان يدرك ابناء جيل اليوم ان شارعا عظيما حرك تاريخا متنوعا لكل العراق لابد ان يحيا من جديد وان يستعيد عافيته وامجاده كما كان ؟
      لقد قلت في مقالتي عنه في العام 2002 : ” اليس من غرائب الزمن ان لا يبقى في الشارع الا اسمه وقد تحول ـ ويا للاسف ـ الى ميادين للطفيليين والمخلوقات التي افناها الانسحاق تحت رهبة الحصارات وسطوة الممنوعات ؟؟ ” ! تابعت مستطردا : ” اليس من الحزن والاسى ان تموت الذكريات الرائعة في منافي العالم والشتات او حتى في اعماق دواخل احياء العراق عن شارع انجب اروع الساسة القدماء والاحرار والمناضلين الاقوياء  والادباء والشعراء المبدعين وامهر القضاة والمحامين واشهر الكتاب والمؤلفين والصحفيين والفنانين والمهندسين المعماريين .. شارع ولدت فيه كل التجمعات والاحزاب الوطنية وتوزعت على جنباته مقاهي الادباء والمثقفين والتجار والصناع والحرفيين والشباب من الطلبة والدارسين .. وقامت عنده السينمات الشتوية والصيفية والمكتبات ودور الناشرين .. شارع كان يزمجر فيه كل العراقيين اذا غضبوا وتنبعث اصواتهم هادرة اذا عارضوا .. وتتهادى جموعهم في مظاهراتهم الصارخة اذا تحركوا .. ” !
     تابعت اقول : شارع مرت فيه جنازات الزعماء الوطنيين او سحلت على قارعته اجداثهم او منه اطلقت النيران على سياراتهم .. شارع شهد كل الفصول الصعبة من عمر العراق المعاصر وكل الاحداث الرائعة والمأساوية في آن واحد .. شارع لم يسلم من الصواريخ وقنابل الطائرات عند حروب نهايات القرن ..  شارع تنوعت فيه التماثيل والمنحوتات والرسومات لابرز رموز البلاد،  شارع ينادي اليوم واحدا من ابنائه المؤرخين الاذكياء ان يكتب تاريخه الوضىء المضيىء بكل تعددياته وتنوعاته والوانه واطيافه ومناخاته وتسجيلاته وصوره ووثائقه وذكريات كل الاجيال عنه ” . وعليه ، فمن يحكي لي اليوم عن زمنه الجميل وزحمته وسياراته وباصات اللي لاند الحمراء ذات الطبقتين وهي تمشي بهدوء في زحمته  وضوضائه ؟


والذكريات صدى السنين الحاكي
    ذكرياته .. نعم كل ذكرياته التي تلخص تاريخه الخصب منذ ان ولد عند بدايات القرن العشرين على يد والي بغداد الشهير خليل باشا مرورا باسماء حاراته وساحاته الشهيرات التي تطعمت كل واحدة منها بطعم ومذاق خاص بها .. بدءا من الميدان والوثبة وحافظ القاضي والسنك وانتهاء بالتحرير في قلب الرصافة الطيبة التي التحمت بجانب الكرخ العريق عبر جسورها الممتدة اليه على مياه دجلة ابو الخيرات .. ماذا نتذكر ؟ ذكريات ساسة وزعماء عراقيين عشقوا شارع الرشيد وروحه وبناياته ومروا به الى القشلة والسراي والبلاط ودار الحكومة ودواوينها ووزاراتها : ثلاثة ملوك ووصي على العرش كانوا يمرون به كل يوم .. نوري باشا وهو يقتني بنفسه الفواكه من دكان صاحبه كّنو بشارع الرشيد عند كل صباح بعد ملاطفته المحببة .. الزعيم عبد الكريم وهو يأبى الا ان يشم روائحه المنبعثة من مطاعمه الشعبية ويسعد باخذ وجباته فيها .. وزراء ومسؤولون وقادة يتطلعون من نوافذ مكاتبهم الى ارصفته المزدحمة بالمارة .. شعراء العراق العظام ينهلون من عبقه ويساجل احدهم الاخر بكل قوة ومنعة وخصام الشرفاء مع جماعاته واحبابه وعشاقه : الزهاوي في مقهاه والرصافي في صومعته والجواهري في مكتبه والصافي النجفي على قارعته وحسين مردان في خمارته وحافظ جميل على بوابته وغيرهم.. وهناك من بعدهم في البرازيلية : السياب وشاذل وبلند وسعدي والبياتي وغيرهم ومن بعدهم :  شلش وسعيد وعبدالواحد والعلاق وغيرهم.


شارع لكل الاطياف
     المصور ارشاك وفوتوغرافياته التي تسجل عظمة شارع خلق للفن والحياة يتهادى فيه فنانون عظام وقراء للمقام الاصيل : القندرجي والقبانجي ويوسف عمر وحسن خيوكه وغيرهم ويشدو كل من ناظم وسليمه وزهور ولميعة وعفيفه ووحيدة وهيفاء ومائدة وغيرهم باصواتهم العذبة عبر الراديو .. موسيقيون اتوا من كل حدب وصوب ورسامون وتشكيليون عظام لم يعرف الشرق امهر منهم لا يطيب لهم الا المرور بشارع الرشيد .. اقتصاديون يتفاعلون في ساحة القاضي وفي شارع البنوك ورجال قانون لا يطيب لهم الا العمل في مكاتبهم القريبة من غرفتهم العريقة : غرفة المحامين التي شهدت عبر الاجيال اعتى المجادلات السياسية .
      اما الادباء من الكتاب واللغويين والمؤلفين والصحفيين والمؤرخين ورجال الفكر والجامعة من نخب العراقيين فليس لهم يوميا الا المرور بشارع الرشيد حيث كل الصحف والمجلات والمنشورات والاوراق والتجمعات والمكتبات والمقاهي والمكاتب والمنتديات .. اما التجار الكبار والصغار ، فتتوزعهم اوساط شارع الرشيد بكل اسواقه وتفرعاته ومغازاته القديمة والجديدة .. ولحركة السوق فيه طعم لذيذ يشترك فيه القاصي والداني وروح العمل والاروع منها كلها : روح الثقة والتعاون والفكاهة والتندر بين الجميع التي تتحسسها من رائعة اللهجة البغدادية الصرفة ..
      اما اذا تعمق المؤرخ الذكي في عمق المعاني ، فسيصل الى ان هذا الشارع الرائع الذي يؤرخ له قد بز كل شوارع الدنيا بروح الالفة والتعددية والتآخي الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية التي لا تجد لها أي لون من الاختلاف او اي طابع من الصراع كما كانت عليه : عربان اصلاء من كل الالوان.. مسلمون متنوعون من كل القسمات .. مسيحيون متعددون من كل الملل ويهود بسطاء متحذلقون غير خائفين وصابئة من مهرة هادئين .. اكراد وتركمان وفويليون متآخون .. عرب شماليون وجنوبيون .. شارع عرف ابناء المدن من : مواصلة وسوامرة ونجفيين وكربلائيين وكوفيين وتكارتة وعانيين وراويين ، وحليين وكوتيين وبصراويين ودياليين وغيرهم .. شارع بغدادي عظيم تآلفت فيه كل الاطياف وغدا هو نفسه العراق كله .. فمن يؤرخ له نكون له من الشاكرين . وكنت اتمنى من صميم القلب ان اكون ببغداد حتى اكتب مجد تاريخ شارع الرشيد وموسوعته في القرن العشرين فاكون من الفائزين ! واذ نلتفت الى الساسة المؤدلجين فسوف تقف على جماعات الماركسيين من مناضلين ، فضلا عن قوميين ناصريين وبعثيين وحركيين .. كلهم لا يتحركون الا من الرشيد !


الشارع الطويل / الاصيل : جدل كل الطبقات
    ان هذا الشارع الذي لم يهدأ يوما باستثاء تلك الايام التي كان يمنع فيها التجول ايام الطوارىء والانقلابات والانذارات ، ذلك الشارع الذي عرف الغنى وعرف الفقر ، عرف المعابد المتعددة في النهار وعرف الملاهي والكابريهات في الليل .. عرف اصحاب الجد والعمل وعرف البهلوانيين وصناع الهزل .. عرف اروع المطاعم الشعبية المزدحمة والاكلات القديمة وشهرة ابن سمينة وعمو الياس  .. عرف الكافيتريات واصحاب العصائر في النهارات .. وعرف الطيبين من اصحاب اللوكسات ودخاخين المشاوي الليلية .. عرف كل اصحاب المهن والوظائف والمناصب من المدنيين في قلبه الذي تجتمع هناك ابرز الوزارات والمديريات ، وعرف من العسكريين الذين يتهافتون بسدائرهم العراقية عند بوابة وزارة الدفاع ..
      عرف صفوة من الحرفيين المبدعين في شارع النهر الذي ينساب الى جانبه ، وثمة اهل مهن متنوعة منصاغة وساعجية وخياطين وطرازين وحلاقين .. حتى ينتهون عند السوق العتيق الذي يذكرنا بايام العباسيين .. اما عند نهايات شارع الرشيد ، فكل الحانات والسينمات والمحلات الجديدة والفنادق والمقاهي الحديثة واورزدي باك وحسو اخوان ونايف بهنو واحذية حراق .. الخ وعند البعد يبتدأ شارع جديد يطل على دجلة ويقترن باسم الشاعر ابو نؤاس ، حيث نتطعم بنكهات من نوع آخر عند حوافي دجلة الخير ..
    لقد كان ميدانا حقيقيا لنهضة بلاد وادي الرافدين في القرن العشرين . انه شارع طويل ولكن لا يتعب ابدا من يقطعه من الشمال حتى الجنوب ، وهي امنية زائريه من ابناء المدن الاخرى الذين تمتعهم روحه وفضاءاته واصالته وقد جمع كل الاصناف والطبقات ويشعر اغلب الذين كتبوا عنه بأن نكهاته متعددة يحس بها المرء من حين الى حين اوان الليل واطراف النهار .. لقد بدا الضعف يصيبه في العقدين الاخيرين من القرن العشرين ، وخصوصا ابان الحرب العراقية – الايرانية بفعل الاف مؤلفة من الطارئين الغرباء عليه وخصوصا في المربعة من الذين لا يعرفون قيمته التاريخية واختفاء عناصره القوية الحقيقية ، مع بقاء ديمومته سارية حتى اليوم ..
      واخيرا أقول : ان شارع الرشيد قيمة حضارية تاريخية في عمر العراق الحديث ، وان على الدولة والمجتمع معا ، العمل على اخصاب عناصره الحقيقية بتوفير مستلزمات ما يتطلبه أي عمل حضاري من الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. وسيبقى شارع الرشيد عنوان تاريخ مجيد ورمز مكان عبقري للعراق كله في عهود مضيئة من القرن العشرين .        
الصباح البغدادية ، 22 ابريل / نيسان 2006

Check Also

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …