كم أتمنى أن تتبلور الأفكار التي نشرتها حول الفصل بين تاريخينا السياسي والحضاري إذ أن بينهما مسافات شاسعة ودوما ما نحرت تكويناتنا الاجتماعية والحضارية على أيدي التشكيلات والسلطات السياسية على امتداد العصور . ان مشكلة التراث السياسي عند العرب لا تكمن في مشكلات دراسته وتدريسه وحسب ، بل في فهمه واستيعابه .. وتتمّثل المشكلة الأخطر بالسؤال : هل استطعنا أن نقرأ تاريخنا بشجاعة ونكشف بكل موضوعية عن كل التناقضات وبمناهج علمية بعيدا عن العواطف والتزويرات والتضليلات وبعيدا عن كل الانقسامات والاحقاد السياسية والمذهبية والطائفية ؟
إن حاضرنا لا يمكن إصلاحه وسوف لن يتغّير أبدا أن لم ندرك إدراكا واعيا ماهية حقائق تاريخينا السياسي والحضاري ، وتأثير ذلك على مجتمعاتنا وتفكيرنا منذ أن بدأت جذور ما اسمي بالنهضة العربية الحديثة . إنني اعتقد أن حاضرنا سيبقى هكذا على امتداد القرن الواحد والعشرين لا يمكنه أن يتخّلص من معضلاته وأسقامه وأوجاعه إن لم تتشكّل قطيعة معرفية بين تراثنا السياسي والفكري وبين تشكيل العقل العربي والإسلامي المعاصر ، وان هذا الأخير لا يمكنه أن يغدو منفتحا وحرا ليساهم هذا العصر حياته وأنشطته إن لم يتخّلص من كل بقايا موروثات سقيمة لازمته منذ قرون طوال.
إن المجتمعات العربية والإسلامية ستبقي دائما بحاجة إلى تراثها المتنوع ولكن من دون أن تسحبه معها لتتقولب في هياكله العظمية . انه بالرغم من عظمة هذا التراث وتنوعاته الحضارية ، إلا أن كّما هائلا من مثالبه الانقسامية وخطاياه السياسية ، لم يزل يسيطر بشكل سافر على التفكير والعادات والتقاليد التي لم تعد تصلح لهذا العصر .. إننا اليوم بحاجة ماسة إلى أن نخضع كل هذا الذي اعتدنا عليه فكرا وتصرفات وأساليب وعلاقات وعادات وتقاليد وكتابات وانشائيات وخطابات .. إلى التجربة والنقد والتعلم والمعرفة من اجل تأسيس قطيعة بين التفكير التجريبي وبين مثالب الشعارات ، بين ما يحسن إبقاؤه وما يلزم تلفه وتركه والمباشرة بإيجاد البدائل المعاصرة على الوجه الأفضل .
لقد شهد النصف الأول من القرن العشرين حركة فكرية ونقدية عربية جادة في تشكيل بذور قطيعة بين بنيتي تفكيرين اثنتين وخصوصا في نقد تراث الممارسات السياسية الرهيبة بحق مجتمعاتنا وثقافتنا وحضارتنا ، ولكن كل المحاولات قد أجهضت ـ ويا للأسف الشديد ـ واتهم أصحابها بشتى التهم الجاهزة ، وكانوا على درجة من الرصانة والعلمية في ميادين الفقه والقانون والأدب والفلسفة واللغة والتاريخ والنقد الأدبي ..
لقد شغل العرب أنفسهم وثقافتهم على امتداد القرن العشرين بهوس ثنائية القديم والحديث أو التراث والمعاصرة أو التقليدية والتغريب أو الأصالة والتحديث .. وبنوع من السطحية ، فقالوا بالتمازج بين هذا وتلك وكأن لا تقاطعات ولا تباينات بين التضادات والتناقضات .. نعم ، لقد آن الأوان أن يتخّلص التفكير من هذه الثنائية التبسيطية بين تراث سياسي معقّد لا يصلح تطبيقه اليوم وبين أساليب عالم وفنون وعلوم سياسية ناضجة ومجتمع دولي معاصر .. وليكن كل المفكرين والمختصين والمثقفين العرب من الجرأة بمكان ان يعلنوا عن ترسيخ ما هو رائع وجميل في حياتنا وتقاليدنا الحديثة ، ولكنهم بنفس الوقت عليهم أن يجتثوا كل الأساليب القميئة والسيئة التي ابتلي به تاريخنا السياسي بشكل خاص منذ قرون مضت .
إن الخلل والأخطاء في تقليد التراث السياسي ، والتعامل مع الجذور القديمة بلا مناهج نقدية ومن دون علم ودقة وبتحيز واضح وتعصب أعمى ، ثم العجز في توظيفه وتكريسه لخدمة الحاضر، جعل جيل اليوم من المهتمين به وعشاقه من دون أي عمق .. لا يجدون غير التفاخر به، ولكنهم سيصدمون صدمة صاعقة عندما يتناصفون بين معاصرتهم وبين ما يريدون تطبيقه من تراثهم السياسي في شتى الميادين.
اعتقد أن اكبر جناية يمارسها العرب اليوم تجاه تكوينهم المعاصر ، أنهم يسوّقون تجارب تراثية قديمة من دون أي تجديدات ولا أي تحديثات ولا أي نظريات سياسية أو فلسفية تنتمي إلى جذورنا وأصالتنا الحقيقية .. لقد عاش العرب وبعض الشعوب الإسلامية على شعارات وترديد أقاويل من دون استحداث أي نظريات معاصرة واليوم يعانون من تناقضات ما تنتجه أفكارهم وتقاليدهم خصوصا في مجتمعات لها تعقيداتها وبقاياها التي يعيشها الجميع في بيئات مقفلة التفكير ومتعددة الأعراق ومتنوعة الأديان ومحدودة الثقافة وكثيرة المشاكل ..
وعليه، فان على العرب والمسلمين في كل عالمهم الكبير الحد من تفاقم جميع متناقضات أيامنا المتداخلة والمفككة المعاصرة والسماح لممارسة مناهج نقدية قوية لإحداث قطيعة بين المألوفات الساذجة وبين مستلزمات الواقع المعاصر .. إذ لا يمكن البتة أن نستخدم آخر ما ينتجه هذا العصر ونحن من ابعد الناس عن مناهجه وفضاءاته الفكرية .. انني واثق من اننا ندرك إدراكا مسكوتا عنه أن حياتنا بحاجة إلى أن نجدد تراثها العريق والسياسي في مقدمته .
وأخيرا أقول : بأن على الجيل المعاصر أن يصحح نظرته للتراث، ويعمل على تقييمه بدراسته ونقده واستيعابه وفهمه علميا ، وإلا يصبح منقطع الجذور، معدوم الأسبقيات، هزيل اللغة، ضائعاً تائهاً في زحمة الشعارات الفضفاضة المعاصرة التي لم يستطع أبدا السيطرة عليها، وتحقيق ذاته وأمانيه السياسية والفكرية من خلالها.. وعليه أن يدرك بأنه الوحيد الذي يمتلك أعظم تراث كتابي علي وجه الأرض، وليعلم أيضا ، انه لا يمكن لأي مخلوق مثقف في وجود اليوم، أن يبتعد أبدا عن حياة العصر ومنتجاته وأدبياته ومناهجه وفلسفاته وكل ركاماته المعرفية ناهيكم عن تكنولوجياته وشبكة معلوماته واتصالاته .. ، وإلا تحجر وأصبح من المتكلسين والمتخلفين عن ركب هذا العالم المتغير.
www.sayyaraljamil.com
البيان، 5 ابريل 2006
Check Also
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …