الرئيسية / افكار / الانغلاقيات السياسية متى يتخلّص منها العرب ؟؟

الانغلاقيات السياسية متى يتخلّص منها العرب ؟؟

العرب ينقسمون إلى قسمين هذه الأيام.. قسم منهم منفتح يدرك كيف يختار انطلاقته أو يستمر في تسلسل تطوره من خلال إثراء مؤسساته وتجديد طاقته فيعرف لمن يختار في ان يكون صانعا للقرار والعمل بروح الفريق المتجانس. ويجعل السياسة في خدمة الأهداف العليا لتحقيق المصالح الآنية والمستقبلية بوسائل معتدلة ونبيلة.. ان هذا النوع قليل عند العرب اليوم ولا اعتراض على أداء هذا الخيار الذي يعمل بكفاءة عالية من اجل ان تجد البلاد مكانها تحت الشمس في عالم لم يعد تنفعه الشعارات ولا تطعم شعبه الدعايات. ولا يقرر مصيره استعراض العضلات..
ان السواد الأعظم من العرب بحاجة إلى التعلّم من تجارب السياسات المنفتحة وانتصارات صناعها في كل الميادين.. ولكن المفارقة ان تغدو إحدى التجارب العربية مثالا رائعا في التقدم لدى كل العرب والعالم مستقطبة الأنظار والعقول والأفئدة.. ولكن العرب لا تعرف السبيل لبلوغ ذلك!!

ان القسم الثاني أو السواد الأعظم في كل هذا المحيط العربي الذي تغرقه المشكلات المتنوعة السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية لم يدرك كيفية الخيارات اللائقة لصناعة مستقبله ولا يعرف كيف يفصل بين الشعارات الواهمة وبين الحقائق على الأرض.. ولم يتعلم كيف يتجنب مواطن الضعف والخلل ولا يفقه كيفية استخدام الكوابح لإيقاف التردي. فكم هو بحاجة للدخول مع كل العالم بقضاياه متحدثا لبقا مدافعا ذكيا ويجادل بالتي هي أحسن كي يستحصل على ما يمكن الحصول عليه بديلا حقيقيا عن هذا الذي بات يفقده يوما بعد آخر وليس له الا الاعتراض.. وأعتقد ان العرب لو مارسوا هذا الخيار في كل تضاعيف القرن العشرين لما آل وضعهم إلى ما هو عليه اليوم!
ان ما نشهده اليوم من نتائج انتخابية جماهيرية لجماعات أو أحزاب معينة كي يمارسوا السلطة، ينبئ عن حالات شاذة ربما لست معنيا بانتقادها كقيادات اختارتها الشعوب.. ولكن لابد من التنبيه إلى ان ثمة تعقيدات وعقبات ليس في الأوضاع السياسية بل في النسيج الفكري والاجتماعي تزيد الأوضاع تردّيا وانحطاطا والعودة دائما إلى نقطة الصفر.. وربما كانت هذه خطط تطمح لأن تضع القوى الفائزة في مواجهة الواقع، فإما تنصاع له أو تتفكك وتذوب.
ان المشكلة ليست هنا من اجل تغيير المنطقة على المدى البعيد، نقيضا لما ساد سابقا من انقلابات عسكرية لتغيير المنطقة على نحو سريع.. ان المشكلة سترجعنا تارة تلو الأخرى إلى نقطة الصفر من دون كسر لحواجز الانعزال بين أسلوب تحقيق المصالح العليا وبين ترديد الشعارات العليا في عصر التسارع التاريخي. إننا لسنا ضد اي قوى في تولي السلطة أو المشاركة في الحكم، فثمة تجربة أو اكثر على نجاح بعضها، ولكن الخطر كله في ان تقول إنها تمتلك الحقيقة وحدها وتقوم بإقصاء الآخرين من أضدادها.. وخير دليل على ما نقول تتوضح في الفوارق بين تجربتي تركيا وإيران.. اذ تحكمهما قوى إسلامية، ولكن الفرق بينهما ان التجربة التركية منفتحة على الجميع ولم تزل وفية حتى لعهد اتاتورك ولتجربته العلمانية ولم يزل رمزا لتركيا بوجود صورته في كل أرجاء البلاد.. في حين أوصدت تجربة إيران أبوابها امام كل العالم باحتكارها السلطة دون ان تعترف بكل القوى السياسية والإصلاحية! !ويبدو ان العرب في تجاربهم السياسية الجديدة قليلو الخبرة ولم يستفيدوا من فارق التجربتين، بل ولم يستفيدوا من التغييرات التي تجري في كل هذا العالم، فليس هناك شعب لم تصبه التحديات والهيمنة ولكنه عرف كيف السبيل لتحقيق الأهداف من خلال سيرورة المصالح بالأخذ والرد!
ان زمنا طويلا سيمضي من حاضرنا اليوم ليأكل جزءا إضافيا من تاريخنا على حساب صنع مستقبلنا، لأن شعوبنا ومجتمعاتنا لم تتعلم حتى اليوم كيف تميز بين الخطأ والصواب، ولأنها لا تعرف كيف تقيم رجالها أو كيف تختار قادتها الحقيقيين.. وغير مدركة للمناورة في تقديم الأهم على المهم. وكيف لها ان تتخلص من نزعتها العاطفية.. وكيف لها ان تشكّل قطيعة بين الماضي والحاضر.. وكيف تتعلم المرونة.. وكيف لها تقديم المصالح الاستراتيجية كلها على اية مصالح اخرى.. وكيف لها اقتناص الفرص السانحة لصنع مواقف جديدة. وكيف لها ان تأتي بمن هو مؤهل لشغل صنع القرار.. وكيف لها ان تمّيز بين النخب.. وكيف لها ان تؤهل المجتمع لمعالجة الواقع! وكيف لها ان تؤمن بأن الزعامات شيء والمؤسسات شيء آخر..
وأخيرا، أقول بأن العرب سيكونون أمام أبواب موصدة اذا ما بقوا لا يدركون بأن السياسة فن عالي المستوى ومن الممكن ترجمة رغبات المجتمع إلى قرارات باستخدام كل الأدوات والوسائل من اجل تحقيق الأهداف. وان بلوغ الأهداف لم ولن يأتي بالخطابات ولا بالشعارات ولا بالدعايات ولا بالعنتريات.. إنني اعتقد بأن الأبواب ستنفتح أمامهم ان غدوا يؤمنون بتغيير الواقع الصعب بكل الوسائل.. وكذلك ان شعروا بأن العالم لم ينتظر كسلهم وخمولهم ونزاعاتهم في ما بينهم.. ان عليهم ان يجادلوا العالم بالتي هي أحسن، ويستفيدوا ممن انطلق اليوم في سيرورته التاريخية ليكون مثلا يحتذى لهم.. فهل يدركون ما أقول ؟ إنني اشك في ذلك!
( البيان ، 16 مارس 2006 )

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …