كنت قد تطرّقت عن الجيش العراقي في محاضرة لي عن بنية المجتمع العراقي في غاليري الكوفة بلندن قبل اشهر ، ولقد تناقل نص المحاضرة بعض الصحف العراقية ، ومنها كما سمعت جريدة المشرق العراقية ولكن بعنوان غير عنوانها الاصلي وبتغيير في العديد من الافكار .. ولقد اطلعت على بعض ردود فعل بعض الكّتاب العراقيين ومنهم من كان ضابطا في تلك المؤسسة .. دعوني في مقالتي اليوم ان أوضح بعض آرائي الصريحة من دون اي تحّيز لتلك ” المؤسسة ” ، علما بأنني لم اطعن في شرعية تلك المؤسسة ولا في مبادئها الوطنية العراقية كما فهم بعض الاخوة الذين انتقدوا أرائي فيها . وكم كنت اود من الصحف العراقية التي تنشر ردودا على مقالاتي ان تعلمني بتلك ” الردود ” ، فهي تنشر مقالاتي ومحاضراتي من دون ان تعلمني بذلك ومن دون ان تأخذ موافقتي ، ولكنها تضيف خطيئة مهنية اخرى ، انها تنشر ردودا على مقالاتي ليس من دون ان تعلمني بها وفقا للاصول والادب ، بل انها لم تنشر اصلا مقالاتي ، فلقد اطّلعت بطريق الصدفة على رد من قبل احد الكتاب العراقيين على موقفي من خطايا ارتكبها الجيش العراقي بحق العراقيين ، وهو رد بالرغم من احترام صاحبه الا انه يغالي في التفاخر بذلك الجيش من دون الاعتراف بما اقترفه ضباط العراق بحق تاريخ العراق المعاصر !!
وهنا اعتب على جريدة الصباح عتبا شديدا ، اذ قامت بنشر مقال يردّ على موقفي الذي كانت صحيفة المشرق قد نشرته عندما نشرت محاضرتي في سلسلة من دون اي موافقة مهنية مني ! ولقد ارسلت رسالتي الى صحيفة المشرق اعترض فيها على هذا الذي فعلته .. مع احترامي لها ولكل الصحف العراقية الجديدة . فكيف يا جريدة الصباح تنشرين نقدا ضد موقفي من دون حتى اطلاعي عليه ؟؟ اليس هذا الذي تتبعه الصحافة العراقية خرقا مهنيا لا يمكن قبوله ابدا .. ولولا اطلاعي عليه من خلال البحث في الانترنيت لما عرفت بهذا الرد .. علما بأن صاحبه يعّلق على رد نشره كاتب آخر ! فهل وصل الامر بالصحافة العراقية الى اتباع هكذا اساليب بحيث تنشرون لكاتب عراقي لم يزل على قيد الحياة في صحفكم من دون اي موافقة منه ، ثم تنشر الصحيفة نقدا عليه من دون اطلاعه عليه ؟ ثم تقوم صحيفة اخرى بنشر مقالة نقدية على ما كتبته والذي نشرته صحيفة اخرى من ان تطلعونه على ما تنشرون وهو صاحب زاوية اسبوعية في صحيفتكم سمّاها ( مكاشفات ) ؟
لا اريد ان أردّ على المقال الذي يبدو ان صاحبه لم يزل يعيش ثقافة الامس الاحادية ، ولم يزل يعيش اوهام المجد والمفاخر الجوفاء وكأن العراق انتقل من عهد العظمة والقوة والبطولات الخيالية الى عهد الانسحاق من دون ان يدرك المسكين ومن على شاكلته ان جيوش الامم الاخرى لا تؤذي شعوبها بل خلقت من اجل الدفاع عن الوطن دفاعا شريفا ! كلنا مع وجود جيش عراقي يتمتع بتقاليده الحرفية وتنظيماته ومؤهلات ابنائه واخلاقيات قادته وزعمائه وضباطه .. اما ان تعيش المؤسسة العسكرية كي تضرب عشائر الجنوب لرفضهم الانخراط في هكذا جيش .. وتضرب التمرد الاثوري بالدبابات منذ الثلاثينيات .. وتسحق تمردات الاكراد على مدى خمسين سنة من دون اي شعور بالذنب .. ويقوم ضباط هذا الجيش بالعديد من المؤامرات ومحاولات الانقلابات الناجحة والفاشلة .. ويستحوذ المؤسسة العسكرية على حياة العراق وتستهين بالمؤسسات المدنية .. فهذا الذي ستقف عنده الاجيال القادمة لتقول كلمتها !!
أسأل كل عراقي من كل اجيال القرن العشرين وبضميره هل كان يرغب ان ينخرط جنديا في الجيش العراقي منذ تشكيلاته الاولى وحتى نهايته ، ام انه يعده جحيما نظرا لما يلاقيه فيه من الاهانات .. ومن قال ان الجيش كان بودقة انصهرت فيه عناصر العراق العرقية والدينية والطائفية والاقلياتية ونحن نعلم كيف كان يعامل المسيحيون من الكلدانيين والاثوريين واليزيديون والارمن في حظائر الجيش العراقي ! لنكن واضحين لنقول ما للجيش العراقي وما عليه .. يأتي اليوم بعض هؤلاء الذين يرّدون عليّ وهو يفتخر بالمعارك التي خاضها الجيش العراقي ، فالجيش العراقي وصل جنين عام 1948 وحمى دمشق من السقوط عام 1973 .. طيب قبلنا ، ولكن هذا الذي ينتقدني يحدثنا عن المعارك الفاصلة في حرب ايران المأساوية ويعتبر وقف اطلاق النار انتصارا في 8/ 8/ 1988 وهو يسّب ويشتم صدام حسين ؟ وانني أسأل عمّا فعله الضباط العراقيون في تلك المعارك بالمقاتلين العراقيين لا الايرانيين ؟ طيب ماذا فعل الجيش العراقي عندما غزا الكويت .. لا تقل لي انها قرارات ساسة وما عليه الا التنفيذ .. ان الجيش العراقي اول جيش في المنطقة كلها يتدخّل بالشأن السياسي منذ اول انقلاب عسكري قاده بكر صدقي عام 1936 ومصرع مؤسس الجيش الفريق جعفر العسكري وانتقالا الى حركة 1941 ومرورا بالانقلابات والمؤامرات ووصولا الى تغلغل الحزبية المقيتة وانتهاء باندحار ذلك الجيش وهو يتلاعب بالشأن السياسي ! ولقد تلاشى في ايام عندما اندفع ليقابل جيوش التحالف في العام 2003 ، ووجد نفسه من دون غطاء جوي وهو ينسحق شيئا فشيئا .. الم يهزم بعد ان وجد نفسه يتلاشى في كل ارجاء البلاد ؟؟ الم ينهزم في تلك المعركة الخاسرة في العام 1991 ؟ ماذا سيكتب التاريخ يا من تضعون حتى اليوم رؤوسكم في الرمال وتفاخرون باشلائكم ؟ ان الجيش على امتداد التاريخ لم يخلق ليفرض الامن والنظام ، بل ليدافع عن الوطن ضد الاعداء او ليمتد في الافاق .. اما الامن والنظام فلكل منهما مؤسساته ..
ان الجيش العراقي لم يكن عاملا مساعدا لازدهار البلاد .. لقد كان سببا في تدهور العراق واستّل كل خيراته على حساب الحياة المدنية العراقية .. كان على العراقيين ان يكونوا اكثر ذكاء في نسج تحالفات قوية مع جيرانه بدل هذا الذي اتلف كل اقتصاديات العراق واهلك زهرة شبابه في الحروب والانقلابات الدموية والمحاكمات العسكرية .. انني لست ضد ضباط العراق ، ولكن الكلّ يعلم بأن من لم يأت بمعدل عال ينخرط من خلاله في كلية مدنية يذهب ليغدو ضابطا .. والمؤرخون يعرفون كم ادخل مولود مخلص من ابناء مدينته في الكلية العسكرية ليكونوا قادة يحكمون العراق ردحا من الزمن ويقتل احدهم الاخر !! اما مسألة الكراهية لاداء الخدمة العسكرية فلا اعتقد ان عراقيا صادقا يختلف معي في الذي اقوله .. ولا اعتقد ان الهاربين من الخدمة كانوا يشعرون بالعار ، بل انهم يشعرون بأنهم اذكى من اولئك الذين فان حظهم !! اما الضباط ، فطبعا يكونون من عشاق الرتب والرواتب والامتيازات والخدمات واصبح كل من يدخل الكلية العسكرية قد وضع في باله ان يخطط لانقلاب عسكري .. لقد اساء العديد من الضباط العراقيين لمهنتهم وحرفيتهم عندما قبلوا ان يكونوا تحت قيادات مزيّفة اتت بهم الاقدار ليعيثوا فسادا بهذا الجيش ..
واخيرا اقول لكل من لم يزل يعشق ذلك الجيش بأن الجيش هو الذي نحر العراق ، واذا كان جيش العراق قد امتلك اعدادا مهولة من الاف الطائرات والدبابات والسمتيات والمدرعات .. فكلها بسبب حرب ايران ولم يتوقف التسلّح حتى بعد الحرب عندما ذهبت المليارات من ثروات العراقيين هباء منثورا في مؤسسات مغلقة لا يعرف اهل العراق ما الذي كانت تصنّعه مؤسسة التصنيع العسكري ! على من يرّد عليّ ان يضع الله في ضميره ، ويكّف عن ترديد المفاخر والامجاد .. فزعيما مثل جعفر العسكري ما كان يظن انه سيكون ضحية جيشه عام 1936 ونوري السعيد ما كان يتخّيل انه سيسحل بعد ان يقتله جيشه ، وعبد الكريم قاسم ما كان ليعتقد انه سيعدم بايدي جنود جيشه .. على كل الاخوة الضباط العراقيين من الذين عملوا في مؤسسة العراق العسكرية السابقة ان يفّكر ملّيا بالذي اوصلنا الى هذا الدرك الاسفل من التاريخ .. مع اعتزازنا بكل امجاد الجيش العراقي ونظافة البعض من زعمائه وضباطه .. ولكن ما اكثر من ظلم في ظلّك ايها الجيش العراقي الراحل . ومن المؤسف جدا بل ومن المؤلم ان يؤسس هذا الجيش زعيم عراقي سيخلده التاريخ وان الجيش سينتهى متلاشيا على ايدي القوات الامريكية ويطلق بريمر الحاكم الامريكي المدني للعراق رصاصة الرحمة عليه .. سيبقى العراقيون يبكونك ايها الجيش العراقي البطل ولكن اعيد واكرر بأن الاجيال القادمة ستنسى كل تلك الامجاد ! واخيرا اقول بأن ذلك الجيش لا يعرفه الا المؤرخ الجاد ، وليسكت من ليس له اي ثقافة في كل هذا الذي سّببه جيش العراق !
الصباح البغدادية 6 يناير / كانون الثاني 2006-04-03 وتناقلتها صحف اخرى
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …