” لا يهم أن لم امتلك عدة جياد فالمرء لا يمتطي فرسين في آن واحد ” الشاعر الصيني بو شو آي
” لم يعد علم اللغة حكرا على المجمعيين ” البروفيسور ش . هارفي
مدخلات
استهلال :
كنت قد نشرت مقالة قبل قرابة عام مضى بعنوان ” عربيتنا عند فاتحة القرن الحادي والعشرين : من أجل استراتيجية تفكير لغوي عربي مبدع ” ( مجلة الرافد ، العدد 46 ، يونيو 2001 ) تعّرضت فيها باختصار إلى أوضاع المجامع العلمية واللغوية العربية . ولقد وجدت من الضرورة بمكان أن أعالج هذا ” الموضوع ” معالجة نقدية مطولة نظرا لضرورته وأهميته في حياتنا المعاصرة التي تبدلت كثيرا عما كانت عليه قبل عقود من السنين ، عندما تأسست بعض المجامع العلمية اللغوية العربية الشهيرة . ولابد من القول أن القضية التي سأثيرها في هذه المقالة النقدية ، لها خصوصيتها أو شأنها الخاص جدا ، وقد تحّرجت في بداية الأمر أن أنشرها في مجلة ثقافية وليست علمية ، ولكن يبدو واضحا أن التقاليد ( العلمية ) العربية قد ضاعت منذ سنوات طوال ، وان العالم قد تغير فعلا كله اليوم ، وان أي قضية مهما كانت درجة خصوصيتها لم تعد لوحدها حكرا على بعض جماعات وهيئات كسولة أو أشخاص خاملين يقبعون في أمكنتهم تحت مسميات واوصاف وألقاب شتى .. وإنني بالقدر الذي أود أن أرسل برسالة نقدية شديدة اللهجة إلى البعض ممن يسمّون أنفسهم بـ ” المجمعيين العرب ” ، أطمح جدا بأن يطلع الجميع على مشكلتهم المزمنة ، علما بأن المجمعيين من العلماء الحقيقيين يمثّلون سلطة علمية قوية وبنية فوقية متميزة عليا في أي أمة تحترم نفسها ، وانهم فوق مستوى الجامعيين والمتخصصين الأكاديميين ! ومع ذلك كله ، فثمة آراء علمية في فلسفة اللغة بشكل عام تخبرنا بأن لم تعد هناك أية حاجة للمجمعيين اللغويين ، فعلم اللغة لابد أن يتدارسه الجميع ما دام تتفقه به جمهرة معينة من المختصين الفيلولوجيين . وبهذا الصدد ، قال البروفيسور اللغوي الراحل الدكتور ش . هارفي قبل سنوات خلت بأن علم اللغة لم يعد يحتكره المجمعيون ، نظرا لأنهم لم يبقوا من المحافظين على الجذور الصامتة التي بقيت قرونا طويلة ملكا لهم ، ودخلت اللغة جملة من العناصر الدراسية والبنى والتراكيب المعرفية التي لها علاقاتها بعدة علوم وتخصصات مختلفة .
لماذا قضية كهذه اليوم ؟
إن الحديث عن المجامع العلمية العربية سيكون مؤلما على أشد ما يكون الألم لكل من يدرك مغزى وجودها في كيان الأمم المتقدمة التي تحترم نفسها ورجالات العلم واللغة فيها . ولكن ليس هناك من غاية تدفعنا دفعا نحو إثارة هذا ” الموضوع ” ومعالجة قضية كهذه إلا تلك الأهداف النبيلة والسامية التي تتطلع لتحقيقها النخب المخلصة في حياتنا العربية المعاصرة والتي تمر في مخاض صعب تعايشه الأجيال الجديدة . إن المجامع العلمية واللغوية العربية والتي تأسست في مراحل مختلفة من القرن العشرين ، ومن أبرزها : مجمع الخالدين ( أو: مجمع اللغة العربية) في مصر والمجمع العلمي العراقي في بغداد ومجمع اللغة العربية بدمشق ومجمع اللغة العربية في الأردن ، ثم لحقت بها مجامع أخرى في السودان وليبيا وغيرها من البلدان العربية .. أما أكاديمية المملكة المغربية في الرباط فلم تأخذ لها صفة مجمع علمي ، بل تميزت كونها مؤسسة ثقافية عليا تنتمي إليها طبقة عليا من المثقفين المغاربة . أما في الجزائر ، فقد أصدرت الدولة ما يفيد بتأسيس مجمع اللغة العربية فيها منذ سنوات طوال ولم ينبثق ذلك المجمع حتى يومنا هذا – على حد علمي – .
إن تلك المجامع التي كانت أمهاتها في القاهرة ودمشق وبغداد قد تأسست في النصف الأول من القرن العشرين ، قد تراجعت مستوياتها العلمية اليوم عما كانت عليه سابقا ، وتدلنا إلى ذلك مجموعة من القرائن والمنشورات والأحداث والعناصر .. التي تبرز حالات الضعف التي حاقت بمنتجاتها المعرفية وإصداراتها في السنوات العشر الأخيرة . ونحن نعرف بأن المجامع العلمية واللغوية (= الأكاديميات ) في الأمم المتقدمة تضم أرقى العلماء والمفكرين واللغويين لدى كل أمة . وعليه فان إصداراتها لابد أن تكون أصيلة وراقية ورصينة ومجمع عليها من قبل الأعضاء المشاركين بشكل كامل . وان العضوية في أي مجمع علمي راق تحددها شروط ومستلزمات علمية واجتماعية صعبة المنال سواء كانت من خلال المشاركة الفعلية أو المزاملة الشرفية ..
طبيعة ” الرسالة ” المراد إيصالها :
وقبل أن أجازف بنقد ما يحصل مجمعيا عندنا نحن العرب ، لابد لي من القول بأن ليس كل المجامع العلمية واللغوية العربية اليوم في مستوى علمي واحد ، إذ أن ثمة فوارق بينها ولكنني قصدت الحالة العامة التي تعيشها تلك ” المؤسسات ” التي غدت لا تساير مطلقا علوم العصر المتطورة ومنتجات المعرفة الكبرى ، وسيدرك القراء من العلماء الفضلاء أو حتى من المثقفين الأذكياء العرب طبيعة ” الرسالة ” التي أعنيها والتي أريد إيصالها ، من دون تحديد أسماء أو ذكر عناوين أو تشخيص أعضاء في هذه المقاربة النقدية التي لابد أن تفصح بأن بعض مقالات ودراسات جوهرية تنشر في مجلات وحوليات تصدرها مؤسسات ومراكز بحوث هي أثمن بكثير من منتجات بعض المجامع (العلمية) العربية ! ناهيكم عن اختلاف الممارسات والأدوار والواجبات المجمعية العربية عن مستلزمات العمل العلمي الموسوعي واللغوي والتي أقرتها لوائح مثل هذه ” المؤسسات ” العلمية العليا في الحياة العربية الحديثة .
تساؤلات
دعوني أطرح بعض التساؤلات الساخنة على بعض النخب الفكرية العربية وشرائح الطبقة العليا من المثقفين العرب ، أقول : ماذا حدث عندنا نحن العرب وخصوصا عند نهايات القرن العشرين في هذا الجانب ؟ وماذا حل بمجامعنا العلمية واللغوية العربية مؤخرا ؟ وكيف يمكننا رصد هذه الظاهرة ونقدها من خلال ما تنتجه مثل هذه ” المجموعات ” لا ” المجامع ” ؟ وما هي أدوات التقويم لكل من الشروط الصرفة والمستلزمات المجمعية أولا وللمنتجات والإصدارات (العلمية) ثانيا ؟ وكيف انحرفت اليوم بعض مجامعنا ( العلمية ) و ( اللغوية ) عن أساليبها القويمة وأهدافها الرصينة التي تأسست عليها قبل عقود من السنين ؟ وما هو مغزى وجودها اليوم كمؤسسات ضعيفة وكسولة وكسيحة هزيلة بحد ذاتها حسب ، بل كتجمعات رخوية من الناحية العلمية يستقطبها بعض الأسماء من دون غيرها لأسباب سياسية وأيديولوجية تحتكرها السلطة في الدولة ، أو اجتماعية وتفاخرية تزكيها العلاقات الشخصية في المجتمع !!
لقد جمعتني الصدفة قبل عام مضى مع الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد عندما كنا على مائدة فطور الصباح الواحدة في أحد المؤتمرات التي انعقدت في هيلتون ابو ظبي وأنا بصدد نقد أحوال المجامع العربية العلمية واللغوية اليوم وأردفت متسائلا : لماذا شدّد العرب على أن يكون لكل دولة عربية مجمعها اللغوي أو العلمي .. علما بأن كلا من اللغة والمعرفة والثقافة العربية واحدة ؟ أليس من الأجدى أن يكون هناك مجمع لغوي وعلمي عربي كبير واحد أسوة ببقية الأمم المحترمة ؟ فكان أن رحب الرجل بالفكرة ، ولكنه من جانب آخر – والحق يقال –أثنى ثناء كبيرا على مجمع القاهرة وقال بأنه الوحيد الذي ما زال ناشطا في مجال اللغة العربية من خلال الاجتماعات الدورية التي يعقدها كل عام ، برغم كل العوائق وبرغم بعض السلبيات التي تعترض الطريق . ولكن يبقى مجمع القاهرة هو الآخر بحاجة ماسة إلى جملة كبرى من التحديثات والأنشطة بما يتوازى والمهام الجسام التي تلقى على عاتقه والمجامع العربية الأخرى وخصوصا مجمع اللغة العربية بدمشق والمجمع العلمي العراقي ببغداد .
إنني أدعو البعض من العلماء المقتدرين سواء كانوا من العرب أو من غير العرب للعمل المقارن فقط بين الذي كانت قد أصدرته المجامع العلمية واللغوية العربية عند تأسيسها قبل عقود من السنين خلت وبين الذي تصدره هذه المجامع نفسها اليوم من أجل الوقوف على حجم الاختلاف الواسع والتباين العلمي الذي أصاب بانحرافاته الخطيرة هذه المجامع نفسها .. إذ غدت بعض مجلات مجمعية ( لغوية وعلمية ) عربية هزيلة جدا مقارنة بما يصدره أي مركز علمي أو فكري عربي معاصر يستقطب بعض العلماء المقتدرين والمفكرين المعروفين من أبناء العربية !!
حالة من عدة حالات
لقد وقعت بيدي صدفة بعض أعداد مجلة مجمعية عربية صدرت مؤخرا في قلب عاصمة عربية كانت مركزا حيويا ثقيلا للحضارة العربية الإسلامية قبل ألف سنة ، كما وكان مجمعها العلمي الذي تأسس قبل أكثر من خمسين سنة مزدهرا بأنشطته العلمية ورصينا بهيئته العلمية الموقرة التي يكونها شيوخ أجلاء وأساتذة علماء هم أئمة في اللغة والعلم والطب والمعرفة والأدب والتاريخ .. وكان قد أصدر هذا المجمع على امتداد نصف قرن إصدارات مهمة علمية ولغوية وتاريخية وجغرافية فضلا عن اهتمامه بالمفاهيم والمصطلحات والمعلومات الجديدة والتحقيقات العلمية الرصينة ، كما وكانت مجلته رصينة ومرموقة يحترمها العلماء أينما كانوا من العرب والمسلمين والمستشرقين . وكانت حتى قبل عشر سنوات مجلة لا تجازف بنشر أي بحث علمي ، ولا تغامر بإصدار رأي لغوي إلا بعد دراسة دقيقة وتقويم وتمحيص على درجة عالية من الصعوبة والتحكيم والتدقيق ..
ولمن كانت تنشر ؟ لقد كانت تنشر أعمال علماء ولغويين وباحثين لهم مكانتهم المرموقة ولهم ذيوع أسماء يحملونها ولهم قدراتهم وخبراتهم وطول باعهم في العلم واللغة والأدب والفنون .. ولكن انقلب الحال رأسا على عقب ، إذ فجعت المعرفة اللغوية والمجمعية العلمية العربية عندما بدأ هذا المجمع يصدر مجلته التي تضم أبحاثا ضعيفة يكتبها أولئك الذين يحملون شهادات دكتوراه هزيلة مقترنة بمرتبة الشرف الأولى !! ولكن ليس بين أصحابها وبين المعرفة الحقيقية أي صلة ، وبدت المجلة وقد فتحت أبوابها لكل من هب ودب من أولئك (الباحثين) العرب الضعفاء الذين ليست لهم أي خبرات علمية طويلة ، ولا معارف موسوعية ولا قراءات بأكثر من لغة أجنبية ، ولا حتى ثقافة عامة .. كما وبدأت صفحاتها تستوعب الآراء الأيديولوجية والسياسية التي مهر في كتابتها رجال جدد ومخضرمون من السلطة وكأنهم ينشرون مقالاتهم في صحيفة سلطوية يومية ، وكانوا وما زالوا يقومون بإذاعة المفاهيم السياسية التي لا صلة لها بأنشطة المجامع العلمية لدى أي أمة من الأمم !
كما ولم أجد أيضا أي معلومات جديدة أو أي أساليب منهجية متطورة أو أي استحداثات لغوية بديلة على صفحات تلك المجلة المجمعية العلمية العربية المنكودة ، والتي انهارت على أيدي الأعضاء الجدد الذين تسلموا مقاليد ذلك المجمع اثر قرارات سياسية تقضي بتعيينهم بعد أن كان يتم اختيار الأعضاء القدماء من خلال انتخابهم والإجماع عليهم كما كان يجري سابقا !!
وكنت قد التقيت صدفة قبل سنتين في واحدة من العواصم العربية بصديق قديم وهو اليوم عضو مجمعي جديد ، وكان سعيدا جدا بمكانته بين الأعضاء الجدد فباركت له ذلك ولكنني أوضحت له أمام رهط من الأصدقاء العلماء الحالة التي وصلت إليها مؤسستهم والوضعية السقيمة التي غدت عليها مجلتها ( العلمية) بنشرها بحوثا عادية مليئة بالأخطاء الجسيمة التي لا يمكن أن تشّرف المعرفة العربية المعاصرة ، فقال بعد لأي من الخوف والريبة على منصبه : الحق معك ، وسأقوم بإيصال نقداتك القوية وملاحظاتك الصائبة للسادة رئيس وأعضاء المجمع عند وصولي أرض الوطن .. ولكن مرت الأيام من دون أن أتسّلم ما يفيد بدراسة تقويم الحالة ، كما ولم يحدث أي شيء يمكن أن يعيد الثقة بتلك المؤسسة ! وإنني واثق أن ذلك العضو لم يستطع أن يتفوه بكلمة واحدة مما قلته له !
وهنا ، لا أريد أن يفهم القارئ بأنها حالة مؤسسة أكاديمية واحدة أو وضعية مجمع عربي واحد .. فثمة مجامع لغوية عربية لم تزل ميتة منذ نشأتها ، وأنها تأسست لمجرد أن في العاصمة المجاورة مجمعا لغويا ، فلماذا لم يكن لنا نحن مجمعا أيضا ؟؟ ولكن لابد من القول إنصافا للحقيقة بأن المجمع اللغوي الوحيد الذي لم يزل يتبع تقاليده في النشر واللقاءات الدورية السنوية المنتجة هو مجمع القاهرة فقط ، وقد أكد ذلك لي أكثر من متابع لهذا الشأن في حياتنا العلمية العربية ، برغم ما حاق به أيضا من خلل وأوصاب .
ما السبب ؟ ما الأسباب ؟؟
لما كان أي مجمع علمي لدى أي أمة من الأمم المقتدرة ينزع علميا إلى الاستقلالية التامة دوما عن السلطة الحاكمة ، وأن استقلاليته المبدئية لا يمكن التدخل فيها وبشؤونها كونه أعلى هيئة علمية في البلد يجمع على مكانتها المجتمع العلمي والثقافي في ذلك البلد وغيره من البلدان . وان مبدأ تلك ” الاستقلالية ” يجسدها فيه أعضاؤه من خلال الانتخاب على أساس المكانة العلمية والشهرة الدولية علميا أو لغويا أو معرفيا لا سياسيا أو سلطويا أو مهنيا .. ومن مبادئها الأساسية : الكفاءة العلمية واللغوية والخبرات المعرفية والتجارب البحثية والباع الطويل في شؤون العلم والأدب والفن والتراث والأدب والثقافة الموسوعية عالية المستوى ، لا الاقتصار على شهادة التخصص الدقيق أو المناصب الإدارية المؤقتة ..
ناهيكم عن صفة مجمعية أخرى أكد عليها المجمعيون الكبار من العلماء الدوليين ، تلكم هي الثقافة اللغوية التي لابد أن يحيط بها أي عضو مجمعي نفسه بها .. الخ من الاشتراطات التي لا يمكن أن تتوفر فيمن عيّنوا من قبل السلطات الرسمية العربية كأعضاء في هيئات مجمعية علمية عربية والذين جاء تقلدهم في هكذا مواقع علمية عليا في البلاد من دون أي مستلزمات كالتي ذكرناها ، وبدأت سياستهم واضحة في الاضمحلال والضعف ، خصوصا إذا كان من بينهم أناس لا يفقهون من فلسفة العلم وفقه اللغة شيئا ، وليست لهم أية دراية بلغة أجنبية واحدة .. كما ليست لهم أي أنشطة موسوعية وخبرات دولية في شأن المعرفة الإنسانية ، ولا أي سقف من ثقافة عامة فكيف بالثقافة الموسوعية !
نماذج من القضية
أعرف أن أحدهم وكان عالما وعضوا مؤسسا لمجمع آخر كان من أبرز المجامع اللغوية العربية قد توفي فشغر مكانه ، ولما لم يكن له ولد يأتي مكانه – حسب زعم واحد من أصدقائه في المجمع – ، فقد اختار المجمع أحد أقربائه ليكون عضوا ، ولم يكن ذلك القريب بعالم علامة ولم يكن بلغوي فهامة ، بل كان طبيب أطفال فاشل ، ليس له من عمل إلا كتابة بعض المقالات الهزيلة في البعض من المجلات الشهرية التي تعتني بالصحة العامة ! وبقي ذاك الطبيب على امتداد ثلاثين سنة يتبختر بعضويته المجمعية في مجتمعه ، ويبرز عضويته في كل أوراقه !
في حين مات أكثر من علامة عربي من أبناء القرن العشرين كان قد حصل على اعتراف عربي ودولي بعلمه ومنهجه ودوره في تطوير الحياة العلمية العربية من دون أن يغدو عضوا مشاركا أو مؤازرا في أي مجمع عربي ، نظرا لاستقلاليته الفكرية وعدم سكوته على أخطاء الحياة العربية ! مات وفي قلبه غصات عدة لأن هيئات المجامع العلمية واللغوية الموقرة لم تعترف به .. حتى بعد مماته ! بل انها لم تستنكر حتى مصادرة كتبه في بلاده !
ويقال أن بلدا عربيا سعى لتأسيس مجمع لغوي ، وعبثا ذهبت محاولات بعض العقلاء فيه من مثقفيه ورجالاته بأن الوقت مبكر جدا في تأسيس هكذا مؤسسة علمية عليا ، فأجابت السلطات : هل يعقل أن يكون لدى جيراننا مجمعا ونحن بلا مجمع ؟ فتأسس المجمع منذ أكثر من عشرين سنة – على ما أذكر- وعينت السلطات بعض الشخصيات هيئة له ، ولكنه حتى يومنا هذا لم ينتج ورقة علمية واحدة ، ولم يكن له وزن يذكر لا في العير ولا في النفير !
أما قصة مجمع لغوي عربي آخر ، فحدث عنه ولا حرج ، نظرا لانتقال أو رحيل أغلب أعضاءه القدامى إلى الرفيق الأعلى منذ سنوات ، ولم يكن هناك من يشغل مكانهم الحقيقي ! وعليه ، فان المجمع في طريقه للوداع بعد أن كان ميتا منذ أن ولد !!
المؤازرة وأسباب أخرى :
إن هزال ما تنتجه بعض المجامع ( العلمية ) و( اللغوية ) العربية عند بدايات القرن الواحد والعشرين كانت وراءه مثل هذه الأسباب التي ذكرناها آنفا ، فضلا عن أسباب أخرى تتعلق أساسا بنقص في الكفاءة التخصصية والثقافة الموسوعية وضعف في المقدرة العلمية العليا .. ولما كانت عضوية المجمع العلمي واللغوي قد جاءت على هذه الشاكلة الصعبة والتشكيلة الهزيلة ، فان مثل هكذا هيئة لا يمكن أن يؤازرها أعضاء لهم قوتهم العلمية ومكانتهم المجمعية وشخصيتهم المؤثرة .. كما لا يمكن لأي عضو مؤازر يحترم نفسه يقبل أن يكون اسمه مانشيت تجاري يسوقه الآخرون باسم مجمعهم ( العلمي واللغوي )الهزيل ! ولا أدري : هل يجتمع أولئك المؤازرون مع هؤلاء المشاركين لكي تنكشف بضاعة هؤلاء على أولئك ؟ وهل يبقى العلماء العرب الأكفاء من ذوي الضمائر العلمية الحية في صمت وسكون على ما يرتكبه هؤلاء الأعضاء من المجمعيين العرب بحق المعرفة العربية التي أوصلوها إلى اسفل سافلين نتيجة عقم مناهجهم ، ومحدودية تفكيرهم ، وضيق افقهم وغلبة أيديولوجياتهم السياسية على معرفتهم وتخصصاتهم ، وهزال ثقافتهم ولغتهم ، وضعف شخصياتهم ، كما كان عليه الحال في القرن العشرين ، فكيف بهم اليوم إزاء التطورات العلمية المذهلة التي وصل إليها العالم في السنوات العشر الأخيرة ..
ماذا فعلوا ؟
لا يمكن للمرء أن يتخيّل قوة تأثير علماء اللغة والمعرفة العربية في نهاية القرن الثامن الميلادي في المعرفة الإنسانية عصر ذاك أمثال : الخليل بن أحمد الفراهيدي وطالبه الشهير سيبويه اللغة العربية .. ولا يمكن للمرء أن يتصّور ثقل ما أبدعه المعجميون العرب منذ مئات السنين في إنتاج القواميس والمعاجم اللغوية ، ولم تكن لأولئك وهؤلاء أبدا لا ملتقيات ولا مجامع ولا وسائل .. ويكفي ما اشتهرت به كل من مدرسة الكوفة والبصرة من شواهد البحث اللغوي الكامن في الاحتكاك المعرفي والتوصّل إلى بناء أسس قويمة يعجز المجمعيون العرب اليوم عن فهمها ، فكيف بخلق وإبداع ما يوازيها ؟ أما الأعمال الموسوعية المعجمية والقاموسية العربية ، فيشهد التاريخ منذ مئات السنين أن أمهات المعاجم والقواميس العربية كان قد اشتغل عليها وأعدها وصنّفها رجال أفراد لوحدهم ، وقد سميّت بأسمائهم لوحدهم منذ بواكير عصر الموسوعية العربية قبل ثمانية قرون وحتى القرن العشرين .. إذ لم نجد أبدا أن مجمعا عربيا واحدا من مجامعنا العربية الحديثة قد أنجز معجما واحدا على مستوى أمهات المعاجم العربية الكبرى ! وباستثناء محاولة مجمع اللغة العربية بالقاهرة في إصدار معجم مبسّط وصغير بما يمكن استخدامه من المرادفات ، فقد عجزت المجامع العربية قاطبة أن تؤسس لها تاريخا علميا وموسوعيا ومجمعيا حقيقيا يمكننا أن نفخر به إزاء الأجيال القادمة ، فان دل هذا على شيء ، فإنما يدل على الضعف التي يحيق بأحوال المجامع العربية قاطبة .. وان من يقوم بترجمة ومعالجة نقدية صبورة لهذه ” الحالة ” سيراها لا تخرج عن كون هذه المجامع مجرد هيئات كسولة وصامتة وغير فاعلة ولا مؤثرة ، أو أن العرب لا يمكنهم أن يتحلوا بالروح الجماعية في العمل أبدا ، وان إبداعهم وخلقهم لا يمكن أن يعرف إلا من خلال الأفراد والمبدعين الذين يتحلون بالروح الانفرادية ضمن كل نخبة معينة من النخب .
مقارنة
وكم أتمنى على واحد أو أكثر من المجمعيين العرب المعاصرين أن يطلع ويتصفح فقط على ما تصدره هيئة المجمع الملكي البريطاني The Royal British Academy من منشورات علمية ولغوية وتاريخية وفنية رائدة…. ليعرف موقعه وموقع مجمعه من العلوم اللغوية والصرفة في العالم !! وإذا كانت مجامعنا العلمية واللغوية العربية قد تأسست من اجل أن تؤدي أهدافها الحية في تطور العلوم واللغة والمعرفة وتعريب المصطلحات .. ، فهل نجحت على امتداد القرن العشرين في ذلك نجاحا باهرا ؟ وهل استطاع أحد أن يحاسبها بعد هذا العمر الطويل على ما قامت به ؟ وهل أفادت بمنتجاتها حاضر الأمة إفادة حقيقية في المعارف الموسوعية والآداب والفنون وفي اللغة والمصطلحات والعلوم .. بعد كل التطورات العلمية والمنهجية والفلسفية واللغوية والتقنية في العالم الفسيح ؟؟
إن المشكلة الأساسية عندنا نحن العرب هو تغليبنا الوازع السياسي أو الأيديولوجي أو الاجتماعي أو العشائري أو الشخصي على النزوع العلمي والمعرفي واللغوي والأدبي الصارم ، فإذا كان هناك عدد كبير ومعروف من العلماء وشيوخ المعرفة الحقيقية العرب سواء كانوا في داخل بلادهم العربية أم في الشتات والمنافي القريبة والبعيدة ، فان الاعتراف لا يتم بهم علميا كونهم يحملون استقلالية سياسية صارمة ، علما بأن الجميع هم من أبناء الوطن الواحد مهما تنوعت انتماءاتهم ، ومهما تباينت توجهاتهم ، ومهما اختلفت أفكارهم وعروقهم ومذاهبهم وأديانهم .. وهم كلهم وطنيون أبناء تراب واحد وثقافة واحدة لا فارق بين هذا وذاك إلا مستوى وقوة منتجه العلمي واللغوي ومكانة الرجل في العلم والأدب والفن والمعرفة ومكانة الرجل في بلده وفي العالم أجمع ..
ونحن نعرف إن بلادا عربية هزلت فيها المعرفة وضعفت فيها مجامعها العلمية واللغوية وحتى جامعاتها ومعاهدها .. ينتمي إليها ويحمل هويتها العشرات من العلماء الأقوياء والمبدعين المثقفين الذين لابد من المفاضلة بينهم على أساس الكفاءة والمعرفة والإنتاج لا على أي أساس آخر مهما اختلفت الظروف ومهما تباينت الأحوال .. فعنوان أي بلد في علمه وفي رجالات ذاك العلم وفي نخبه وتجمعاته ومثقفيه وفي قوة إنتاجهم العلمي والثقافي وتأثيرهم الواضح في العالم كله .
وعليه ، فان ثمة مفارقة لا يدركها البعض من الأغبياء والمعوقين وغير الأكفاء الذين يسوسون الحياة ومؤسساتها ، إن كتابا رصينا واحدا يؤلفه كاتب مفكر مبدع أو لوحة متميزة واحدة يرسمها فنان بارع ،أو إنجازا هندسيا معماريا واحدا تفوز به مهندسة معمارية ذائعة الصيت ، أو مشروعا إعلاميا دوليا واحدا يؤسسه مثقف ماهر وأديب مقتدر ، أو قصيدة شعرية رائعة يلقيها شاعر عربي ملهم .. وغير ذلك من المشروعات والإنجازات يفوق كل واحد منها عربيا ودوليا في سمعته وتأثيره وخدماته ما يقوم به مجمعيون خاملون في بناية قديمة لا تصلح إلا أن تكون شركة للكسل والنفاق الاجتماعي ، وليس لهم إلا الاجتماعات المخملية واحتساء أقداح الشاي والقهوة والامتيازات الاجتماعية والندوات السياسية والمنافع المادية ، ولا ينتجون شيئا ذي بال إلا صفحات مجلة غدت هزيلة مع كل الأسف تركن بعيدة في زاوية من الزوايا المنسية ، ولا يستفيد منها أحد.
العلاجات :
مشروع من أجل تأسيس مجمع علمي عربي مّوحد
إنني أدعو بكل إخلاص ومن دون تسميات والتلفيق بين القيل والقال ، وانما تشخيص حالات عربية منكودة في واقعنا المأساوي المتخلف إلى إعادة ترتيب أوضاع مجامعنا العلمية واللغوية العربية على أقل تقدير أو إلغائها ، إن لم ينجح العلماء العرب بتأسيس مجمع علمي عربي موحد يتمتع بالاستقلالية ولا تؤثر فيه النوازع الأيديولوجية ولا المناورات السياسية ولا التجاذبات القطرية والإقليمية .. يغدو له صوته المؤثر ليس في دواخل صناديق الأمة المقفلة والمنعزلة عن الحياة المعاصرة ، بل لابد أن يكون مشروعا حيويا للتفاعل الحيوي في فضاء المعرفة البشرية وما وصلت إليه اليوم ، ناهيكم عن تلاقح الثقافات المعاصرة من خلال الوسائل والأدوات الحديثة . ولا أريد أن تتحول النقاشات حول هذه المسائل ذات الأهمية العليا في حياتنا العلمية العربية إلى مجموعة من المهاترات وأساليب الأخذ والرد على أيدي من لم يعرف عنها شيئا ، واطمح بكل ثقة إلى إعادة جدولة فهمنا المشترك لقضايانا العربية الحيوية وخصوصا عند مطلع القرن الحادي والعشرين .
لابد أن يعترف أيضا ، أولئك الذين جازفوا باعتلاء المواقع العليا في مؤسساتنا العلمية العربية إلى التفكير الجاد بمدى مسؤولياتهم التي وضعوا فيها ، وان يتحلوا بالأمانة العلمية وقبول النقد والمقدرة الحقيقية في معالجة الأمور المترهلة والبائسة ، وذلك بإصدار البحوث والدراسات وتحرير المجلات الصادرة عن مجامعهم .. كما وعليهم أن يعيدوا دراسة المكانة العلمية لأعضاء الهيئات العلمية ، واختيار الأنسب والاصلح والأكفأ والأفضل على مستوى العضوية الفاعلة أو المؤازرة .. ، وحبذا لو نجحت المجامع العلمية العربية باستقطاب أعضاء مؤازرين من العلماء العرب الأقوياء والمتميزين والأذكياء الذين ينتشرون في قارات عدة في العالم ، من أجل الاستفادة من خبراتهم وآرائهم وأفكارهم ، وعلى الأقل من اللغات الأجنبية الحية التي يتضلعون بها ..
وقبل كل هذا وذاك ، على أعضاء المجامع العلمية العربية أن يفصلوا وبكل جرأة ورجولة وضمير حي بين ما هو معرفي فلسفي في صيغته وعلمي في منهجه وأسلوبه وهدفه وبين ما هو سياسي وأيديولوجي وسلطوي واجتماعي وعشائري في علاقاته وارتباطاته .. وان يصار إلى القطيعة العلمية بين كل ما هو مجمعي علمي ولغوي ومعرفي عن كل ما هو إنشائي وعادي وأيديولوجي وسياسي .. فضلا عن قيام مثل هذه المؤسسات العربية العليا التي تتشدق بالعلم والمعرفة اللغوية والمنهج السليم باكتشاف نفسها من جديد ، واعادة التفكير بأهدافها وأساليبها ومناهجها على ضوء ما وصل إليه العالم اليوم في ظل ثورة المعلومات والتقنيات الجديدة والاستحداثات العلمية التي لا يمكن تخيلها مطلقا اليوم في مختلف المجالات الموسوعية ، فكيف سيغدو أمر العرب في ثقافتهم وعلومهم وآدابهم ومعارفهم في المستقبل المنظور لا البعيد .. إن مستقبلنا يطالبنا من خلال أجيالنا القادمة للعمل من اجل تطوير المؤسسات المجمعية العربية بانبثاق تكوين مجمعي عربي موّحد ونشيط ، وان تصدر لائحة جديدة تضم أولوياته وأسسه ومبادئه .. وعند ذاك سيتحقق الحد الأدنى من التقاليد المجمعية العربية التي يمكنها أن تتطور وترتقي وتسهم إسهاما حقيقيا في إثراء المعرفة العربية وخدمة الأجيال القادمة على امتداد القرن الحادي والعشرين .
ماذا عن المجامع العلمية واللغوية العربية ؟
إن الحديث عن المجامع العلمية واللغوية العربية سيكون مؤلما لكل من يدرك مغزى وجودها في كيان الأمم التي تحترم نفسها وعلومها ومواريثها اللغوية . هناك مجامع عربية عدة في مصر والعراق وسوريا والأردن والمغرب والجزائر .. ، كانت قد تأسست قبل عقود من الزمن . ولكن تراجعت مستوياتها العلمية اليوم مقارنة لما كانت عليه بالأمس ،وحاق الضعف بمنتجاتها وإصداراتها مؤخرا . والمجامع اللغوية والعلمية الحقيقية ينبغي أن تضم أرقى العلماء،وان العضوية فيها لابد أن تكون مشروطة بمستلزمات علمية صعبة من الخبرات والتخصصات سواء على مستوى العضوية الفعلية او المزاملة او المؤازرة أو الشرفية وإنني أتساءل: ماذا حل بمجامعنا العلمية واللغوية العربية مؤخرا ؟ وماذا تنتج مثل هذه ” التجمعات ” لا ” المجامع ” ؟ وما هي أدوات التقويم فيها ؟ وكيف انحرفت هذه عن أساليبها القويمة وأهدافها الرصينة التي تأسست عليها ؟ وما هو مغزى وجودها اليوم كتجمعات رخوية ضعيفة وهزيلة من الناحية العلمية يستقطبها بعض الأسماء من دون غيرها لأسباب متعددة بعضها لا يمت بصلة للإجماع العلمي بل إنها أسباب سياسية وأيديولوجية تحتكرها بالدرجة الأولى السلطة أو اجتماعية وتفاخرية تزكيها العلاقات الشخصية في البلد !!
إنني أدعو أصحاب الضمائر العلمية فقط إلى مقارنة إصداراتها بين الأمس واليوم ، وما أصاب بعضها من انحرافات خطيرة ، إذ غدت بعض الاصدارات المجمعية العربية هزيلة جدا مقارنة بما يصدره علماء مقتدرون ومفكرون معروفون . لقد وقعت بيدي صدفة بعض أعداد مجلة مجمعية عربية صدرت مؤخرا ، كان مجمعها العلمي العريق مزدهرا بأنشطته العلمية ورصينا بهيئته الموقرة من رجالات العلم واللغة والادب .. ولكن فجعت المعرفة المجمعية العربية عندما ضمت مجلته كتابات ضعيفة هزيلة كتبها بعض من الباحثين العرب الشباب الذين ليست لديهم أي خبرات علمية طويلة ، ولا معرفة أو قراءات بأكثر من لغة أجنبية ، كما وبدأت صفحاتها تستوعب الآراء الأيديولوجية والسياسية والسلطوية ، وكأنهم ينشرون مقالاتهم في صحيفة رسمية يومية ! كما ولم أجد أيضا أي معلومات جديدة أو أي أساليب منهجية متطورة أو أي استحداثات لغوية بديلة على صفحات تلك المجلة المجمعية العربية المنكودة !!
ما السبب ؟ ما الأسباب ؟؟
ثمة أسباب معقدة تكمن وراء هذا كله ، منها : عدم الاستقلالية المجمعية العربية ، وتدخل بعض السلطات بشؤونها وبتنصيب الأعضاء علما بأن أي مجمع لغوي أو علمي هو أعلى هيئة علمية في البلد ، من تقاليده : مبدأ الانتخاب والاجماع على أساس الكفاءة والتجربة والمكانة والخبرات العلمية والثقافة الموسوعية والشهرة العلمية الدولية .. وهي اشتراطات لا تتوفر فيمن عيّنوا من قبل بعض السلطات الرسمية العربية كأعضاء في هيئات مجمعية علمية عربية ، وبدأت حالات من الاضمحلال والضعف ، خصوصا إذا كان هناك مجمعيون عرب لا يفقهون من العلم والثقافة واللغة شيئا ، كما ليست لهم أي أنشطة موسوعية او أية خبرات مجمعية وأساليب علمية يشار اليها بالبنان او أية مشاركات دولية في شأن المعرفة الإنسانية !
إن هكذا أسباب كانت وراء هزال ما تنتجه بعض المجامع العربية اليوم ! ولما كانت العضوية فيها على هذه الشاكلة الصعبة ، فان هكذا هيئة لا يمكن أن يؤازرها أعضاء لهم قوتهم العلمية ومكانتهم المجمعية . ولا أدري هل يجتمع المؤازرون الشرفيون مع المشاركين الحقيقيين لكي تنكشف بضاعة هؤلاء على أولئك ؟ وهل يبقى العلماء العرب من غير المجمعيين ساكتين على ما يرتكبه البعض من المجمعيين العرب بحق المعرفة العربية التي أوصلوها إلى درجة الصفر نتيجة هشاشة تقاليدهم ، وعقم مناهجهم ، وضيق أفق تفكيرهم ، وغلبة أيديولوجياتهم ، وهزال ثقافتهم ولغتهم ، وضعف شخصياتهم على حساب مما لابد أن يتمتعوا به من خصال ….
يتمثل حل هذه المشكلة الأساسية بكل بساطة اذا ما رفعت الوصاية السياسية عن المجامع اللغوية العربية ، واعتراف البلدان العربية بالعلماء الحقيقيين من ابنائها كونهم يحملون استقلالية سياسية صارمة سواء في الداخل أم الخارج مهما تنوعت انتماءاتهم ونزوعاتهم وتوجهاتهم وأفكارهم وعروقهم ومذاهبهم وأديانهم .. فكلهم يتساوون لا فارق بين هذا وذاك إلا مستوى منتجه العلمي وأثره في العالم كله. وعليه ، فان ثمة إنجازات فردية تتفوق على ما يقوم به البعض من المجمعيين العرب الخاملين الذين ليست لهم إلا الاجتماعات المخملية واحتساء فناجين الشاي والقهوة والامتيازات الاجتماعية والسياسية والمادية ، ولا ينتجون شيئا ذي بال إلا صفحات مجلات غدت هزيلة مع كل الأسف تركن بعيدة في زاوية من الزوايا المنسية ، ولا يستفيد منها أحد !
إنني أدعو بإخلاص إلى إعادة ترتيب أوضاع مجامعنا العربية ، واطمح بثقة إلى أن يعترف أولئك الذين جازفوا باعتلاء المواقع العليا في مؤسساتنا العلمية العربية إلى التفكير الجاد بمدى مسؤولياتهم التي وضعوا فيها ، وان يتحلوا بالأمانة العلمية والمقدرة الحقيقية في إصدار البحوث والدراسات وتحرير المجلات الصادرة عن مجامعهم .. كما وعليهم أن يعيدوا دراسة المكانة العلمية لأعضاء الهيئات العلمية ، واختيار الأنسب والاصلح والأكفأ والأفضل على مستوى العضوية الفاعلة أو المؤازرة . وعليهم أن يفصلوا وبكل جرأة ورجولة بين ما هو علمي ومعرفي ومنهجي ولغوي وبين ما هو سياسي وأيديولوجي وسلطوي وعادي .. وعند ذاك سيتحقق الحد الأدنى من التقاليد المجمعية العربية التي يمكنها أن تتطور وترتقي وتسهم إسهاما حقيقيا في إثراء المعرفة العربية . كما ولابد من نقد وتشخيص الأخطاء التي يرتكبها بعض المثقفين والأساتذة والكتاب العرب بحق اللغة العربية والتفكير العربي وتربية الاجيال العربية .
استخلاصات معرفية / مستقبلية :
السؤال ألان : ماذا تفيدنا المفاهيم الموضحة في أعلاه والتي أثارت بعض الإشكاليات التي تعيشها عربيتنا اليوم، ونحن في خضم جملة واسعة من المشاكل والتعقيدات والاخفاقات التي تعترض حياتنا المعاصرة ؟
نعم ، تفيدنا بكل تأكيد تلك ” المفاهيم ” النقدية من اجل اثراء الوعي والتفكير الجديد عند العرب المعاصرين ، وخصوصا عند ابناء الجيل الجديد ، وهم يدخلون ميدان الحياة بعد عقد زمني ليتربي على ايديهم جيل جديد .. ذلك لأن ثلاثة اجيال ستغطي حياتها القرن الحادي والعشرين بطوله : جيل يتربى على ايدينا اليوم سيبدأ حياته العملية على مدى ثلاثين سنة قادمة 2009 – 2039 م فنكون نحن قد غادرنا الحياة وأودعنا الامانة فيهم .. وجيل قادم سيتربى خلال المدة الزمنية المذكورة وسيغطي فعالياته على مدى ثلاثين سنة تالية 2039- 2069م ، وسيؤهل هذا الجيل على يديه الجيل الاخير في هذا القرن وستمتد فعالياته على مدى ثلاثين سنة اخرى تالية 2069- 2099م (1).
نحن إذن وعند بدايات القرن الحادي والعشرين ، بحاجة ماسة إلى عمليات واسعة النطاق في تطوير اللغة العربية من خلال تنمية التفكير ، وعلى نسق اقرب إلى التوحد منه إلى التجزؤ . إن الجامعات العربية مدعوة على وجه الخصوص لمزاولة أدوارها ومهامها على أيدي مختصيها واساتذتها كافة ، ملاحظين ما يمارس داخل أروقتها من ضعف لغوي فاضح سواء في إلقاء المحاضرات ، او حتى في كتابة البحوث وتحرير المقالات ، أو القيام بإلقاء المداخلات الشفوية في المقابلات ومناقشة الرسائل والاطروحات ، او المشاركات في الندوات والمؤتمرات .. ناهيكم عما يكتب عربيا في الصحف أو ما ينشر في المجلات من ركاكة ومكررات .. وهناك ما نسمعه ونشاهده في الإعلاميات السمعية والمرئية من اضطرابات في التعبير ، وتلكؤات في الألفاظ ، وتشوهات في المعاني والقراءات ! ان اسوأ ما يمكن تصوره : سماع مداخلة بائسة قدمتها استاذة جامعية عربية تحمل درجة الدكتوراه في العلوم الانسانية ، وهي تحتل منصب عميدة اكاديمية .. في جامعة عربية مرموقة ، لم استطع مع اصحابي وزملائي من المؤتمرين ببيروت ان نفهم اللغة المحكية والركيكة التي تحدثت بها والاخطاء النحوية والاملائية الفظيعة التي وقعت بها من دون أي وازع من شعور بالتقصير او تحسس بذنب ارتكاب الاخطاء المريعة !
وماذا ايضا ؟
لقد غدا – من جانب آخر – لكل قطر عربي : لغته وادبياته ومصطلحاته ومفرداته وتعليماته اللغوية وسوسيولوجياته الثقافية الخاصة به .. وهناك أعرافه الأدبية ، وأساليبه الصحفية ، إذ نجد أن هناك ثمة مرادفات مستخدمة هنا أو هناك من الأقطار العربية . وسينتج عن ذلك ، بطبيعة الحال، ذاكرة قطرية مهزوزة لغويا في ذهنية اللاوعي الجماعي العربي . وهي ذاكرة خطيرة تكرس الانقسامات والانشطارات داخل البنية اللغوية العربية التي عاشت موحدة على امتداد أزمان طويلة مهما بلغت درجتها من الضعف .. ولكنها لم تصادف أبدا ما صادفته في القرن العشرين . فكيف يمكننا جعلها تواجه المستقبل ؟
إنني لا أجد أي غرابة البتة في استخدام مصطلحات معربة ، أو استعمال مرادفات حديثة من اجل رفد الثقافة اللغوية العربية قبل القاموس العربي! وهذا ما يعاني منه بعض الكّتاب والنقاد والمفكرين الذين يحاولون إثراء جوانب لغوية ومعرفية في تطبيقهم رؤى جديدة ضمن مناهج أعمالهم وبحوثهم ، وعلى مستوى من التفكير الجاد والجديد ، فيلاقون معاناة شديدة ليس في مجتمعهم حسب ، بل حتى في جامعاتهم العربية الممتلئة بالعاجزين عن الإبداع وهم خليط من الساذجين وغير الاكفاء في اللغة وفن الالقاء والحوار .. وغير المتمكنين بالجودة مهما كانت طبيعتها ! ناهيكم عن ركام من الإنشائيين والمنبريين والمطنبين والتواكليين والمنغلقين .. وكلهم حجر عثرة في سبيل الرقي والتقدم .
إن التقدم العربي على مستوى اللغة ومن خلال تطويرها ، والتفكير الخصب من خلال تنميته إنما يكمن في الشكل الذي يخلص ذهنيات الاجيال العربية الثلاثة القادمة من آفات الإنشائيات والاطنابات والخطابيات والعموميات واللهجويات والعاميات والمحكيات .. ومن المشاكل المتعلقة بالتكوينات النفسية والتربوية والأسرية والبيئية والاجتماعية والسياسية ومقاييسها المختلفة جميعا من مكان عربي إلى آخر .وهنا مطلوب ” الانفتاح” العربي الداخلي على نفسه ، وكسر الحواجز المحلية والقطرية والإقليمية ثقافيا وتربويا وتعليميا وأكاديميا من خلال الوسائل الإعلامية قبل القانونية والثقافية قبل السياسية . وفي هكذا مجال ستتسابق اكثر من جهة عربية في الممارسة والتطبيق ، وستفرض الأقوى نفسها في الميدان من خلال انتهاجها لغة تقوم على الوعي والتركيز والاختزال والتوضيح والتحديد والانفتاح القاموسي والثقافي .. وغيرها من المواصفات الأساسية التي أرجو لها أن تغدو بمثابة ثوابت لدى الجيل العربي الجديد الذي سيواجه المستقبل المنظور بكل ثقله وشحناته وتحدياته من خلال الوسائل المتطورة والجديدة .
واخيرا ، فهل سينبثق عندنا نحن العرب من يغّرد خارج السرب كما فعل العلامة اللغوي ابن جني قديما عندما اوجد علم الاشتقاق الاكبر في كل من كتابيه ” الخصائص ” و ” سر الصناعة والمنصف ” مشكلا لأول مرة تأصيل دراسة فقهية في علم اللغة العربية نظرا للحاجة التي كانت عليها العربية عصرذاك ؟؟ وعليه ، فان المناداة بكذا ضرورات مستقبلية سواء مجمعية معرفية أم أكاديمية تخصصية أم ثقافية إعلامية أم تربوية تعليمية يمكن للعرب المعاصرين أن يوظفوها على امتداد الرقعة العربية .. من اجل استخدامهم : لغة تخلو منها الأغلاط ، ويقل، فيها الهجين ، ويعدم منها التلكؤ أو التقعّر .. لغة تسمو بالذوق والذهن معا إلى الرفعة والشفافية والجمالية والآفاق الرحبة .. وتفكير جديد يرنو الى الاجود والاصلح بعد تنميته وتخليصه من عاداته الرثة وتقاليده المتواترة .. تفكير له بعده المستقبلي في توظيف الاشياء والمعاني من اجل ارتقاء حياتنا العربية التي اصابها الهزال عند نهايات القرن العشرين .. تفكير يعزز دور المبدعين والمكتشفين والاذكياء والحاذقين ويراعي بتكافؤ الفرص الجودة والتطوير بعيدا عن الخاملين والاغبياء والتواكليين والعجزة والمقلدين .. اذا ما تمّ ذلك عندنا نحن العرب ودعونا نتفاءل خيرا ان شاء الله ، فعند ذاك سيقف أحفادنا في الاجيال الثلاثة القادمة من بعدنا ليذكروننا بالذكر الجميل .
ملاحظات وهوامش
(1) من أجل تفصيلات موسعة عن تحقيب حركة الاجيال وفلسفة تكوينها التاريخي عبر مراحل التاريخ ، وخصوصا في تاريخ المعرفة العربية الاسلامية ، انظر ما يخص مستقبل الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الحادي والعشرين في :
سيّار الجميل ، المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي ( نظرية رؤيوية في المعرفة العربية الاسلامية ) ، ط1 ( بيروت/ عمّان : الاهلية للنشر والتوزيع ، 1999) ، ص 446-452.
نشرت في مجلة الرافد ، الشارقة ، العدد 56 ، ابريل 2002 ( السنة التاسعة) .
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …