الرئيسية / افكار / مرسوم نانت عراقي : ضرورة مستقبلية !

مرسوم نانت عراقي : ضرورة مستقبلية !

لقد مّرت فرنسا إبان القرن السادس عشر بظروف قاهرة مشابهة لما يمّر به العراق اليوم إذ أنها انقسمت على نفسها اثر تبلور ظاهرة المتغّيرات الدينية الطائفية ، ولما كان المجتمع عصر ذاك غارقا إلى أذنيه بالتعصّبات فلقد غدا بين كاثوليكية قديمة وبروتستانتية جديدة ، والقسم الأكبر بقي كاثوليكيا .. فشهدت فرنسا حربا مذهبية طويلة الأمد وكانت مريرة وقاسية ودموية قذرة ، إذ حصلت مجازر كبرى وكثيرة ضد البروتستانت ، ومن أشهرها مجزرة سانت بارتيليمي التي أصبحت رمزا للصراع الديني الذي كان قد فجّره التعصّب الديني ، فلقد هاجت الجماهير الكاثوليكية على قوى البروتستانتية ومزقتها إربا .. وذهب ضحيتها ما لا يقل عن خمسة آلاف ضحية بريئة خلال ثلاثة أيام .. ثم امتدت عدوى التعصّب إلى مدن الأقاليم وحصلت مجازر في بوردو ، ولاروشيل ، وليون .. الخ
تلك هي خطيئة الملك لويس الرابع عشر الذي تدخّل لصالح الكاثوليكية وأمر بسحق البروتستانتيين ، فسجل التاريخ ضده ذلك إلى الأبد ، وأمرهم بترك مذهبهم واعتناق مذهب الكاثوليك .. وطرح عصر ذاك شعاره الشهير : اله واحد ، قانون واحد ، ملك واحد !! وعندئذ اضطر آلاف من البروتستانتيين للهروب إلى الدول الأوربية المجاورة ذات المذهب البروتستانتي كهولندا وانكلترا وألمانيا .. في حين عبر آخرون الأطلنطي نحو كندا ..
ومضت أزمان التشظي ليأتي إلى فرنسا التي كانت مشغولة بالصراع الديني والدفاع عن طقوس الكاثوليكية ملك جديد اسمه هنري الرابع عند نهاية القرن السادس عشر ، إذ لا يقل أهمية عن الملك لويس الرابع عشر ولكن مع اختلاف الأسلوب والمنهج والتفكير والطريقة والأداة إذ حاول توحيد الشعب والقضاء على التعّصب الطائفي الذي كاد يمزق فرنسا والمجتمع الفرنسي ويبعده عن مجتمعات أوروبا .. كان هنري بروتستانتي المذهب ولكنه تخّلى عن مذهبه بعد دخوله باريس ليصبح ملكا على كل الفرنسيين إذ كان من الطبيعي أن يوفّق بين الكتلتين الفرنسيتين ليقبله الشعب .. واعتقد انه فعل ذلك ليس حّبا بالمذهب الكاثوليكي ولا كرها بالبروتستانتية ولكن عشقا لفرنسا ومن اجل الحفاظ عليها.. وعندئذ نطق عبارته الشهيرة التي ذهبت مثلا : باريس تستحق قداسا كاثوليكيا ! بمعنى أن من يحكم باريس ينبغي عليه أن يعتنق مذهبها ، فباريس لا تعطي نفسها لأي شخص .. وان حكم باريس يعني حكم فرنسا كلها .
لقد نجح الملك لويس الرابع عشر من خلال شجاعته وإيمانه بفرنسا وحبه للفرنسيين أن يوّحد الشعب الفرنسي الذي مزّقته الحرب الأهلية على مدار سنوات .. ونجح في عقد اتفاقية بين كلا الطرفين البروتستانتي والكاثوليكي ووضع حدّا لنزيف الدم . وهذا الاتفاق هو الذي اشتهر لاحقا باسم : مرسوم نانت ، أي المرسوم الذي تم التوقيع عليه في مدينة ” نانت ” الفرنسية الواقعة على المحيط الأطلسي .
وطبقا لهذا المرسوم أصبح من حق الفرنسيين البروتستانت أن يمارسوا طقوسهم وشعائرهم ضمن ما أتيح لهم وانتهى زمن التجريح وإثارة المشاعر والغلو والتزمت والتعصب والمشهور عن الكاثوليك من أكثر الأوربيين تزمتا وتعصبا . وهدأت رحى الحرب الأهلية وتم إيقاف نزيف الدم .. وانتصر لويس الرابع عشر بأن حقق المصالحة بين الفرنسيين .. ولكن الحياة الدينية لا تخلو من تعّصب إذ كان أن ظهر احدهم واسمه رافياك جاء من الأقاليم البعيدة وشاركه متعصبون من رجال الكاثوليكية ادعوا الطعن في كاثوليكية الملك وانه اعتنقها زيفا ونفاقا وانه زنديق ويؤمن بالهرطقات البروتستانتية فاستحصل على فتوى شرعية مسيحية تبيح له قتل الملك .. وبعد عدة محاولات فاشلة استطاع منه وطعنه بخنجر مسموم عدة طعنات فسقط صريعا ، ودفع دمه ثمنا لتوحيد فرنسا في برهة تاريخية كانت بأمسّ الحاجة إليها .. ولكن حلّ التعصّب والتشدد الطائفي في فرنسا وبقي طوال سنوات حتى نجح التنوير والأفكار الحرة في القرن الثامن عشر.. لم ينقد فرنسا من حمام الدم الطائفي إلا فلاسفتها وكبار مثقفيها الذين خاضوا حربا لا هوادة فيها ضد التعّصب الأعمى وضد الطائفيين المتعصّبين وضد الكهنة ورجال الدين .. فتكّللت جهودهم بالثورة الفرنسية ، فانتصر العقل على الغلو ، وانتصر التنوير على الظلام وزحفت الليبرالية الحديثة على فرنسا لتحّل محل مرجعيات العصور الوسطى . إن الحرية لا تنتصر إلا من خلال معارك طاحنة بين العقل والتعّصب ..
ما أحوج العراقيين اليوم إلى ترسيخ العقل بديلا عن كل المرجعيات ؟؟ ما أحوج العراقيين اليوم إلى مرسوم يشبه إلى حد كبير مرسوم نانت الفرنسي .. ؟؟ ما أحوجنا إلى من يّلم الشمل على مبادئ وطنية يرضى عنها الجميع ؟ ما أحوج حياتنا إلى النقاهة والصفاء ؟ ما أحوج العراقيين إلى أن يغيّروا ما بأنفسهم وتفكيرهم ؟ أنا أدرك إدراكا عميقا بأن ما أقوله لا يعدو أن يكون مجرد أحلام ، ولكن لا بديل أمام العراقيين إلا أن يرسموا لهم طريقا واحدا في الحياة من خلال مرسوم مدني ينأى بنفسه عن كل مرجعيات التاريخ وكل سدنة الدين وكل بقايا العهود الأثيمة السابقة ! إنني واثق تمام الثقة بأن العراقيين لا يحاربون أمريكا اليوم بقدر ما يحاربون بعضهم بعضا .. وما كانوا يحاربون بعضهم بعضا لولا الطائفية التي كانت ولم تزل خازوقا اخترق بنيتهم وفعل وما زال يفعل بهم ما يشاء .. مرسوم شبيه بمرسوم نانت ينبغي أن يقدمونه على كل طقوسهم ويخلق منهم بشرا سويا .. كنت أتمنى أن ينبثق هذا من خلال مؤتمر تأسيسي وطني يبرز من خلاله زعماء جدد للعراق يؤمنون بالعراق بمعزل عن دينهم أو مذهبهم أو عرقهم أو طائفتهم أو جهويتهم .. وثقوا انه الحل التاريخي لكل مشكلات العراق.. إذ سيبقى العراق ينحدر غريقا نحو أسفل سافلين أن لم تنقذه إرادة جديدة تنبثق من وراء الأستار .. فمتى يتحقق الحلم ؟ ربما بعد أيام وربما بعد عشرات السنين ! وأسأل كل المتعصّبين العراقيين وما أكثرهم : هل كانت فرنسا ستحافظ على وحدتها والمجتمع الفرنسي سيأخذ بالتطور لو بقيا في حالة صراع طائفي ؟
الصباح البغدادية

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …