” عند الرهان تعرف السوابق ”
مثل عربي
تنعقد خلال 28 – 29 مارس الجاري ، القمة العربية في الخرطوم والعرب يعيشون مشكلات وازمات لا حصر لها من خلال مرحلة تحولات خطيرة للغاية ، وعلى الرغم من كل ما صدر من قرارات عن مؤسسة القمة على امتداد اكثر من اربعين سنة ، الا ان قوة المتغّيرات لم تسمح بأي اساليب للتنفيذ .. وكلنا يتذكر ما اقر في القمة السابقة حول اصلاح جامعة الدول العربية واجهزتها ، فما الذي يمكننا توقّعه اليوم من هذه القمة ؟ وما الذي يمكنها ان تفعله ازاء التطورات الخطيرة في اكثر من بلد عربي ؟ خصوصا وان هناك من عارض انعقادها في السودان وهناك من وافق عليه .. ولقد مارست الولايات المتحدة ضغوطا هائلة ، وبدا ذلك من انشطة دبلوماسيتها مؤخرا من اجل توظيف اجندتها لخدمة مصالحها في الشرق الاوسط . انها بحاجة ماسة لغطاء عربي بعد التجربة المريرة لها في العراق منذ ثلاث سنوات .. واعتقد انها تخشى من انفجار قوي قد يحدث في المنطقة يبعثر كل وجودها ويجعلها ملتهبة لعشرات السنين ..
ما نفع ترسيم أي حدود للمشكلات العربية ؟
انني لا أتوّقع بأن هذا ” المؤتمر ” سينجح في ترسيم أي حدود للمشكلات العربية سواء كانت مزمنة ام مستحدثة .. ولكن المشكلة ليست في تقديم توصيف للازمات والتشدق بالمعضلات بقدر ما تحتاجه المنظومة العربية من حلول ربما لا توفرها القمة ، بل تسعى الى الاتفاق على آليات لحركة مشتركة تحدد وسائل وبرامج عمل مشتركة تتكفل فعلا باحتواء عناصر الازمات المتتالية ليس بحلّها بل استيعابها والعمل على الاستجابة لها .. انني اعتقد ان القضايا العربية ستسير من سيئ الى أسوأ اذ يبدو ان الجميع قد اقتنع بالفشل بعد الاحباطات التي منيت بها المؤتمرات السابقة والتي لم تحقّق شيئا ابدا ، بل بالعكس زادت من الفجائع وفاقمت من المشكلات التي تضخمت وبدأت تؤثر تأثيرات واسعة على كل المنظومة العربية . والمصيبة انها مشكلات تتعقّد وتتوّرم لتولد منها مشكلات جديدة ..
عزوف تسعة من الزعماء العرب !!
ما معنى عزوف تسعة من الزعماء العرب عن الحضور والمشاركة في مثل هكذا مؤتمر ؟ انني اعتقد بأن اغلب الزعماء العرب باتوا يؤمنون ايمانا راسخا بانعدام جدوى مثل هكذا مؤتمرات لا تساهم لا من قريب ولا من بعيد بتأسيس تاريخ جديد لـ ” الامة العربية ” ! انني اعتقد اعتقادا راسخا بأن انعدام المشاركة ليس معناه اهمالا منهم للقضايا والمشكلات العربية ، بقدر ما يعد موقفا من حالة التدهور التاريخي التي تسري في كل اجزاء المنظومة العربية منذ الانكسار التاريخي الذي احدثته هزة 11 سبتمبر 2001 .. ان بداية المؤتمر ونهايته في يوم واحد والخروج بمجرد بيان هزيل يرد ردّا عمليا على كل الكلام الكبير الذي صرّح به الاخ عمرو موسى ووصفه للمؤتمر بأنه ” قمة تاريخية ” وترويجه لها ترويجا لا يليق ابدا . هل يدرك ما معنى هذا الوصف ؟ ما الذي ستأخذنا اليه هذه القمة ؟ لا يمكن ابدا ان نصنع كلاما كبيرا من فوق منصة المؤتمر ومن وراء نظارة شمسية سوداء ! ان قضايانا لا يمكن ان تحلها قمة بائسة تنعقد في يوم واحد مع عزوف تسعة من الزعماء .. كي نصفها بـ : قمة تاريخية ” ! ما الذي ستفعله القمة ؟ هل ستغّير احوال العرب تغييرا جذريا ؟
العرب بين ايران واسرائيل
هذا ما اسمعه دوما من اغلب ابناء العالم العربي ، بل وان هناك من يعتبر ايران جبل من نار وان اسرائيل جبل من جليد .. كنت اتوقع ان مؤتمر القمة في الخرطوم سيتسابق كل صاحب قضية لعرضها على الملأ من اجل ان يجد له سبلا للخلاص مما هو فيه .. ان الزعماء العرب اليوم امام خيارات صعبة جدا ، وأنهم اليوم ـ ايضا ـ امام تنفيذ ما يستوجب اصداره من قرارات .. ربما لم يعتادوا على طبيعتها ابدا . انهم امام ركام مشكلات داخلية لا تحصى ، ففي كل دولة عربية جملة من الملفّات العالقة التي هي بأمس الحاجة الى حلول عملية وواقعية ، وهم ازاء معضلات اقليمية لا حدود لمخاطرها اذا ما تفاعلت في الضد من أي تهادن او تسوية ، والعرب لا يمكنهم معالجتها لوحدهم ، اذ ان اغلبها قد غلب عليه التدويل ، واخطر مشكلات العرب اليوم ليس مع اسرائيل ـ كما يظن ـ ، بل مع ايران التي بدأت باستعادة نهجها القديم في التوسّع والسيطرة وتصديره الى المحيط . والزعماء العرب اخيرا يواجهون ازمات دولية مع العالم كله وخصوصا مع الامريكان .. فهل يمكنهم مواجهة هذا الكم الهائل من التحديات ؟
التشتت العربي يقود الى تدويل قضايانا
انها ليست نظرة تشاؤمية ، بل انها مواقف عملية لمن يحدد ناقدا لمثل هكذا تقليد لا ينفع ابدا ما دام هناك تجاهل اتخاذ قرارات حاسمة ولا اعتقد بأن الزمن يساعد في تطوير القمة العربية وتطوير جامعة الدول العربية .. علما بأن العرب حتى يومنا هذا لا يدركون ان عجزهم من تناولهم قضاياهم المدولنة التي لا يمكنهم ان يتخذوا أي قرارات ملزمة .. في حين انهم يمكنهم ان يلعبوا لعبتهم التاريخية بالبحث في قضايا اقليمية يمكنهم من خلالها التحرك وتقديمهم اكثر بكثير بعيدا عن المحددات او الكوتة التي يطالبهم الاخرون بها .. وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل .. ولا ادري لماذا يرفض الاخ عمرو موسى من معالجة المقترحات التي تقدمها دولة الامارات العربية المتحدة وهي تدرك مدى الاخطار الاقليمية التي تحيط بمنطقة الخليج العربي وابعاد شبح التسلح النووي عنه بشكل مواز لما يمكن عمله في كل منطقة الشرق الاوسط ، اذ لا يمكن ابدا دفع المنطقة كاملة الى مخاض التسلح النووي لتغرق مستقبلا ببحر من الدماء . ان مؤتمر القمة الحالي لا يستطيع البتة ان يغدو مختصرا لموقف عربي موّحد ازاء الحالة في العراق الذي لم يكشف حتى يومنا هذا عن مصير ما يدور فيه بين الولايات المتحدة وبين العراقيين .
من يحدّد مصير العراق ؟
هذا سؤال كبير فعلا .. يسأله أي عراقي ما زال يلتصق بوطنه التصاقا حقيقيا : من سيحدد مصير العراق ؟ هل سيقوم العراقيون بذلك وهم مشغولون جدا ، بل وانهم يعرفون بأن مصير وطنهم بات على كف عفريت ! وهل سيقوم الايرانيون بهذه المهمة التي كانت تنتظرها منذ ازمان طوال ؟ ام سيقوم الامريكان بتنفيذ اجندتهم وخططهم المرسومة ؟؟ وعليه ، أسأل : هل يمكن للقمة ان تتفق على عدم التدخل في الشأن العراقي مع تدخلات اقليمية لتحديد مصيره وخصوصا الاوراق التي تلعبها ايران في داخل العراق . ان مجرد التلميح لاجراء مباحثات امريكية ـ ايرانية بشأن العراق بعيدا عن العراقيين انفسهم يمثل ـ كما وصفت ـ طعنة نجلاء في قلوب العراقيين .. فكيف يا ترى سيغدو الموقف العربي من هذا الشأن ؟ وهل كانت ايران قابلة بالوجود الامريكي في العراق حتى يمكن ابعاد الرؤية العربية عن التعبير لما يدور في تفكيرها عن مصير العراق ؟ ان مؤتمر القمة في الخرطوم ولد ميتا منذ الوهلة الاولى ..
حماس والابواب المسدودة
لقد خلق مجئ حماس من خلال انتخابات نزيهة ، أوضاعاً سياسية ستدفع وتشجع تيارات إسلامية أخرى في دول عدة لتكرار التجربة “الديمقراطية” من ناحية ثانية مما أثار أشد القلق في كل مكان. فضلا عن مأزق الحماسيين الفلسطينيين بدخولهم في زقاق لا يمكنهم الخروج منه الا بثمن باهظ عليهم .. واعتقد ان تعّويلهم على دعم العرب والمسلمين لا ينفع ابدا ، ولا يمكنهم اللعب بأي اوراق من دون الدعم الدولي . اما المشهد المأساوي العراقي الذي يسير من سيئ الى أسوأ نظرا للاخطاء التي ارتكبها الجميع بحق العراق والعراقيين منذ سنوات خلت .. فما الذي يمكن لهذا المؤتمر ان يقدّمه من حلول للمأساة ؟؟ وستعرض السودان مشكلتها في دارفور التي تدّولت واصبحت عرضة للتدخلات اسوة بمشكلات مدولنة اخرى . وعليه ، فأن ” المؤتمر ” لا يمكنه معالجة كل المشكلات ، او حتى التي سيتضمنها جدول اعماله .
العالم وتهميش القضايا العربية
ان مجرد القاء نظرة عابرة على جدول الاعمال سيكتشف أي مراقب ذكي ان خلطة لا اول لها ولا اخر سيحضر الزعماء العرب على توصيفها واقرارها لا غير ليجلسوا في قاعة مغلقة يتنابذون حولها ويغادرون الخرطوم .. اليست هناك حاجة ماسة لاحداث الفصل بين القضايا العربية قاطبة ، وان تعالج كل قضية ساخنة في مؤتمر خاص بها ولأطول فترة ممكنة لتحديد برنامج ( قومي ) متفق عليه ازاء تلك القضية بكل عناصرها وطبيعتها .. من هنا يبدو ان أي مؤتمر للقمة لا يمكنه ان ينجح اذا كان الغير يهمّش دوره في معالجة قضاياه الخطيرة . ويمكننا القول بأن العرب انفسهم قد قاموا بتهميش قضاياهم بايديهم ، فالعالم لا ينتظرهم بعد ابدا .. وسيضحك عليهم دوما ان استمروا يجربّون ملكاتهم في صنع الكلام الكبير والتبجح بمقولات جاهزة لا اساس لها من الصحة ابدا .. العرب يمّثلون اليوم ادوارا باهتة وخاملة وهم انفسهم يعطون الفرص لغيرهم ان يلعبوا بالمنطقة على حساب حقوقهم ومستقبل اجيالهم . ان العرب ليس لهم اليوم أي فعل تاريخي ، ولكنهم ما زالوا واقعين تحت طائلة ردود الفعل .. انهم لا يعيشون داخل منظومة واحدة ، بل انهم يعيشون في جزر متباعدة وغدوا فرقاء لا شركاء وهم جميعا مقتنعين بعزلتهم عن كتلة تحتل قلب العالم اسمها العالم العربي .. وعلينا ان لا نسمع خطابات فارغة ومقولات وشعارات باتت لا تنفع ابدا .. فلقد انتهى زمن الخديعة وهناك جيل جديد له من الوعي بهذه الدوامة التي لم يستطع صناع القرار من ايجاد علاجات لها .
لماذا لم يقتنص العرب الفرص السانحة ؟
لما كنّا ننتقد المواقف العربية وحالات الجنوح وحالات الخدائع وحالات التشويه والاعلانات الطوباوية .. كانوا يجيبوننا بأننا نزرع التشاؤم ولا نسّوق الامل من دون ان يعلموا بأن الحياة العربية لا يمكن حل مشكلاتها بالشعارات والبيانات .. ولا يمكن المضي عبر هذا الزمن بعيدا عن الواقعية السياسية والسعي لدرء المشكلات والنضال دون ان تدوّل قضايانا .. وان تعالج قضايانا الداخلية المريرة داخل حصوننا من دون السعي لاشراك الاخرين وخصوصا منذ العام 1990 ، ولكن هذا لم يحدث ابدا .. لم يتعلّم العرب ابدا لا من تجاربهم المريرة في القرن العشرين ، كما لم يتعلموا ابدا من تجارب الاخرين وخصوصا اثر انهيار الكتلة الاشتراكية وكيف نجحت بلدانها القديمة في اقتناص الفرص السانحة !
الاجندة الامريكية :
أن الإحباطات والصدمات ستنعكس بالسلب على المؤتمرين الذين ستحكمهم خيارات صعبة للغاية .. واعتقد ان المؤتمر ليس من الاهمية ليكون ورقة تلعب بها الإدارة الامريكية وتوظيف مقرراته ، ” كأحد الأسلحة في خوض معركة انتخابات التجديد النصفي للكونجرس هذا العام التي تبغي من ورائها تقوية قبضة الحزب الجمهوري على مجلسيّ النواب والشيوخ ” !! ولكن يبدو أن العرب يعيشون اليوم دوامة عصيبة ، فهم بين أجندة امريكية مقننة وبين ارادة عربية مشتتة . ويبدو بوضوح أن الإدارة الأمريكية في حالة سباق مع الارادة العربية ، فهي تسابق الزمن لما هي عليه اليوم ازاء ما وقفت عليه من مستنقع الصدمات والإحباطات العديدة .
وأخيرا : اذا اقول ؟
ويبدو بوضوح ان مؤتمر قمة الخرطوم بات فاشلا فشلا ذريعا ، وهي نتيجة معروفة بسبب ما قدمته من افكار واسباب . نعم ، ان العرب في حالة تفكك بفعل الارادة المشتتة ازاء تحولات صعبة جدا لابد من دفع اثمانها . كنت اتمنى على قمة الخرطوم ان تكون لاعباً مهماً في مجال إعادة ترتيب الأوضاع العربية الملتهبة، والخروج ببرامج عمل موّحدة من اجل التغيير والسيطرة على التحولات ، وتلبية ضرورات وحاجات العرب في كل مكان لا لارضاء اية اطراف مأزومة.. ، بل من اجل الاستجابة للتحديات التاريخية التي ستواجهنا على امتداد سنوات قادمة .. ولكن هذا لم يحدث مع كل الاسف !
ايلاف في 28 مارس 2006
( راجع الملف ( = الكتاب ) الذي أعددته بعنوان : جامعة الدول العربية : اشتراطات التغيير في القرن الواحد والعشرين ) .
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …