كنت قد طرحت جملة تساؤلات قبل أكثر من عشر سنوات قائلا : كيف ستتحدد ارتسامات المجتمع العربي عند مطلع الحادي والعشرين؟ وهل من قوى جديدة ستنبثق في مواجهة المتغيرات العالمية ضمن إطار تبدلات العالم الذي يرتب أوراقه نحو المستقبل ؟ ولقد أجبت على هذين التساؤلين .. دعونا اليوم ندقق في صورة القوى الجديدة :
لقد تعقدت مسألة الوعي اللاواعي بنفسه عند النخب ، وتعقّدت بنفس الدرجة مسألة اللاوعي الواعي بنفسه عند الجماهير .. وكلا الاثنين في عزلة أو شبه عزلة عن أصحاب صناع القرار الذين لم يزل اغلبهم غير مهتم بالمجتمع ولا بقواه الأساسية والفاعلة والمنتجة ، إذ يقع جل اهتمام الجميع على الدولة ومؤسساتها السياسية والسلطوية التي تتبعها ولا تتبع المجتمع !! بل يقع جل الاهتمام على ” السلطة ” وكيفية المحافظة عليها والتشبث بها ، والعناية بمؤسستها الضخمة باستثناء تجارب عربية نادرة !
إن المستويات الثلاثة التي تتماوج في دوامة البنية العربية المعاصرة، تتقاذفها المتغيرات الدولية والصرخات الإعلامية منذ نهاية القرن العشرين ، علما بان ليس هناك أي تماثل أو تكامل بين هذه المستويات في خضم إشكاليات كل من الدولة والمجتمع العربيين اقترابا أو ابتعادا من مؤسسة السلطة العربية .
السؤال الآن: ما الذي يحتاجه العرب على امتداد الجيل الجديد عند بدايات العقد الثاني من هذا القرن؟
1- تأسيس عقد اجتماعي ارتكازي لثقافة عربية جديدة في قسمات المجتمع العربي قاطبة ، توائم بين النقائض، وتسد الفجوات المريعة التي أحدثتها الهزات التاريخية والصدمات السياسية في القرن العشرين.
2- العمل على تربية الاجيال وتمدن الحياة وعولمة التفكير وتطوير المجتمع من اجل تخليص الذهنيات من مركباتها والعقول من مخيالها الجماعي إلى جانب تكريس الدولة لتحديث المؤسسات ، وأبرزها المؤسسات والأجهزة التربوية والتعليمية والجامعية من أجل تكوين جيل عربي قوي ومنتج له القدرة على إنتاج جيل عربي أقوى منه وعيا وإنتاجا في المستقبل .
3- إن ثقافة العرب المعاصرة من خلال متغيرات العالم ستضع نفسها حتما في طريق مسدود وسيؤدي إلى مزيد من الاختناقات.. معنى ذلك : أن ثمة حاجة ضرورية وشمولية لفهم العالم والانفتاح على العصر من خلال التطبيقات الاجتماعية التي تتفاعل فيها كل القوى والعناصر في المجتمع العربي.
4- العمل على إسقاط التناقضات والمنافسات والانقسامات العربية من خلال فهم ما يمكن من ترسبات وبقايا في طوايا المجتمع العربي ، تلك التي أضرته كثيرا على امتداد القرن العشرين ، وما يستخدمه العرب واغلب المثقفين والساسة والمشرعين من آليات وأساليب سياسية خاطئة وبليدة في صنع الحياة العربية .
5- العقلانية في فهم ديننا الإسلامي الحنيف والتراث العربي الزاهر .. وردم الهوة والتناقض بين استخدام القوى الاجتماعية العربية من محتوى مدني ميسور وبين من يستعمل الدين كسلاح إيديولوجي متعسّر للمجتمع ، أي التكيف في فجوة صامتة بعيدا عن المتغيرات بين البنية الفوقية من التعامل السياسي وبين البنية التحتية من التعامل الاجتماعي!
6ـ ضرورة وحاجة الأجيال الجديدة اليوم إلى تبديل مجموعة كبيرة من القوانين التي اعتمدتها الدول العربية على امتداد القرن العشرين .. إن متغيرات العصر تفرض على القوى الاجتماعية الجديدة كافة أن تطور قوانينها بما يناسب والمتغيرات الجديدة ! وان ابرز ما يمكن للعرب مقاربته : المرونة مع آليات العصر أولا ، واستنباط جملة هائلة من الاجتهادات والمصالح المرسلة لثوابت العرب والمسلمين ثانيا .
هكذا ترتسم الحياة العربية المعاصرة، كأفق للثقافة والسياسة والفكر، وفقا لثلاثة مرتكزات، وثلاث مرجعيات ، وثلاثة تحولات، وثلاثة أجيال، وثلاثة مستويات وثلاثة خطوط واتجاهات إيديولوجية كبرى.. وكلها بانتظار ملامح جديدة لولادة جديدة لمجتمع عربي معاصر له القدرة على التقدم في العالم المعاصر نحو المستقبل .
فما الذي يمكننا رسمه من صور ؟
1- تشجيع قوى جماهيرية بحاجة إلى أن تكون منتجة في حياتها العربية وان تعي إرادتها المعاصرة.
2- إصلاح قوى مضادة مشبعة بالتعصّب وهي تدعو إلى قتل المعاصرة دون أي تفكير مستحدث.
3- خلق قوى نخبوية مؤمنة بإعادة جدولة للنهضة الإصلاحية أو التغيير على أسس حديثة ومعاصرة .
4- الاستفادة من تجارب قوى فئوية لها إيديولوجياتها التي شاعت في القرن العشرين: ليبرالية وماركسية وقومية ولكنها غير مستعدة اليوم للنضال من اجل تحقيق أهدافها التي نادت بها .
5- إيقاف قوى كسولة وببغاوية تعيد إنتاج التقولات المترسبة وتلوك الشعارات الوطنية والقومية… والراديكالية.
الآن: ما الذي نريده من الأجيال القادمة ؟ و من ذا الذي سيفوز في نهاية المطاف؟
إن القوى النخبوية والقوى الجماهيرية المشبعة ببقايا ومخلفات القرن العشرين لابد أن تعي بأن العزلة سوف لا توفر لها أبدا لا الحركة ولا الفرص ولا المعرفة .. ولكن بعد أن تأخذ حالة صراع المستويات لها دورها في التصادم.. وبعد مضي زمن فرض الإرادة لما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم. إن القوى الجديدة ستتوالد من خلال تبلور واضح لانقسام الذات القادمة بين “الأنا” و”الآخر” أو “النحن” و”الآخرين”.. وستنبثق ثنائية جدلية سيبقى سجالها مريرا إزاء ابرز المشاكل والمعضلات! قوى ستختزل نفسها في اتجاهين اثنين سيأكل احدهما الآخر في نهاية المطاف . وعليه ، نتمنى أن تلتئم النخب الفكرية والمثقفة مع القوى الجماهيرية الأولى مذ تبدأ مجتمعاتنا حياتها مع الميديا المتطورة وتكنولوجيا المعلومات .. فهل ستدرك ما تحتاجه أساسا في تكوين مستقبلها ؟ كيف باستطاعتها أن تكون قوى حيوية ومنتجة أولا ؟ وكيف باستطاعتها أن تفرض نفسها على العالم ثانيا بشخصيتها هي نفسها لا بشخصيات مزيفة ؟
البيان الاماراتية ، 15 مارس 2006
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …