الرئيسية / نصوص / طرابيش وعمامات

طرابيش وعمامات

(1)
مضى الزمن العتيق الى حيث لا رجعة فيه ..
مضت عهود الرجعية الى القبر ..
مضى العهد المباد
مضى كل شيء ..
ومضينا الى حيث التقدم والتطور !!
معزوفة طالما سمعناها نحن أبناء النصف الثاني من القرن العشرين من قبل القادة والزعماء والمثقفين والمؤدلجين التقدميين والمعلمين والأساتذة المختصين والمفكرين والكتاب الإعلاميين العرب .. سمعناها كثيرا أناء الليل وأطراف النهار في المؤتمرات والخطابات والصحف والإذاعات والبرلمانات والشوارع والحارات ومن قبل مروجي التظاهرات من المناضلين والمناضلات ..
معزوفة لحنها الكبار والصغار على امتداد رقعتنا العربية الممتدة من الخليج الثائر حتى المحيط الهادر ، وغناها المطربون وأنشدها المنشدون في المدن والأرياف والقصبات .. وذبحت الحناجر في المدارس والجامعات في الأحداث والمناسبات ، والناس تتأمل وتسمع .. فمنهم من تنشرح نفسه ومنهم من تنقبض وما بدلوا تبديلا ..
واندلعت الثورات وتفجرت الانقلابات وعقدت المحاكمات وطافت المسيرات فأبرقت التأييدات ورفعت الشعارات واللافتات وصدرت القرارات وحلت المجازر والاعدامات .. وكلها بأسم القضاء على الرجعية والعملاء وعلى أصحاب الطرابيش والعمامات والجماعات القديمة من الأعيان وذوي النفوذ والإقطاعيات وبقايا المتصوفة والسادات والشيوخ من ذوي الكرامات !
مضى الزمن الصعب منذ أكثر من قرن بعد أن أفلت التاريخ من عقاله اثر سكونية الحياة في الماضي العقيم .. مضى الزمن العربي وأصحابه يدورون دورتهم ببطيء شديد ، فلا تقدم حدث ولا تطور وقع ، إذ ما زال الناس يعيشون في قلب العالم وهم في دبيب بطيء ..
ما زالت البقايا والرواسب تعمل وتتحرك في الأعماق ، وما زال الظاهر غير دليل الباطن .. ولم تزل السكونيات والتواكليات والسذاجات والمستهلكات والمزدوجات واستعراض الذات والعضلات والنرجسيات والمدائحيات والمداهنات والوساطات والقبليات وكل أمراض الرجعية وسلوكيات أصحاب الطرابيش والعمامات تكمن في اللاوعي الجمعي العربي تميل إلى حيث البلادة والتغابي عن جميع المتغيرات .. وقد توالد جيل جديد لا يعرف الطرابيش والعمامات ، ولكنه يحمل كل مواريثها التي تربى عليها وعلى قيمها البالية ..
قرارات صدرت وبيانات أذيعت وكتب نشرت ومقالات طبعت وشعارات رفعت وحناجر ذبحت وموجات من الجماهير تلو غيرها سارت وليس لها إلا الهتافات والتصفيقات .. لماذا ؟ لقد ألغت الحكومات الثورية العربية الطرابيش والعمامات ، ثم الكنى والألقاب والمسميات والدرجات والمرتبات ، ثم كل أشكال الماضويات ..
لكنها ؟
كانت تصّرح دوما انها ” ستقضي على كل أشكال ” ، ولكنها لم تقل يوما ” كل مضامين ” ، وهي على صواب في ما قالت ، ولكنها ليست على صواب في ما فعلت ! ذلك لأنها برغم صدق طواياها ونواياها خطابا وأدلجة ، إلا أنها نفسها كانت تحمل ثقلا من الترسبات وبقايا عقم الماضويات !
نعم ، الأمر لا ينحصر عند الفئات العامة من الجماهير والناس عموما ، بل يصل إلى النخب ان استطعنا توصيف تلك الجماعات من المتحزبين الليبراليين والماركسيين والقوميين وحتى المثقفين وكبار الساسة والزعماء والمفكرين الذين كانوا وما زالوا يعيشون حتى يومنا هذا ازدواجية التفكير ، وثنائية المقاصد والغايات ، وعقم التناقضات !



(2)

العرب في هذا العصر .. ما زالوا منقسمين
الى دول وملل وجماعات ..
الى طوائف ومذاهب وكيانات
عشرات السنوات مضت
وهم لا يفكرون إلا في المزدوجات
نعم .. طرابيش وعمامات
منهم من يستحليها قصيرة
ومنهم من يلّفها سبع لفّات !
يعيدون تراكيبها كل يوم ..
يعيدونها في كل الساعات .. في كل الاوقات
هنا طرابيش حمراوات ..
وهناك عمائم مدوّرة قائمة قاعدة رفيعة غليظة
بيضاوات وسوداوات وخضراوات
وماذا يا صديقي أيها العربي ؟
أنت واحد في العقل والذات
برغم اختلاف الزمن .. برغم كل العاديات
برغم المزدوجات .. برغم كل التناقضات
تسألني إن كنت قد تغيرت ؟ إن كنت قد تبدلت ؟
أجيبك يا صاحبي أيها العربي :
مفكرا كنت أم زعيما
أم جئت من ثنايا أسفل الطبقات
لقد تبدلت أرديتك في التسعينات
عمّا كانت عليه أسمالك في العشرينات !
وأخفيت الطرابيش والعمامات
وتشبعت من رموزها البكتاشية والقزلباشية
والعساكر الانكشارية
وتوارثت عشق السلطويات
في القصور والاوجاقات
كما عشق الماضون أجساد الجاريات
ونهلت كثيرا من المياه الآسنة
ومن استبداد السلاطين والخانات
لم يتغير شيء في وجود العرب
إلا الملابس الخارجية
العباءات والأثواب والياقات
فالشوارع .. مضيئة فوانيسها
والكآبة في الحارات
الفقر يسحق عظامنا
الجهل يأكل عقولنا
واليأس ينخر نفوسنا
لقد احترقت كل الاشعار والدفاتر المدرسية
والروايات ..
وأصبحت ثقافتنا خيال ظل باهت
الشباب حائرون
الاطفال مشوهون
المثقفون متقلبون
الساسة جاهلون ومنافقون
الرعب يسكن القلوب الحزينة
والخوف يسري من ذوي الطرابيش والعمامات
لقد عميت البصائر !

(3)

قبل أكثر من عشر سنوات ، جاء في أحد كتبي وأسمه ” العثمانيون وتكوين العرب الحديث ” بأن سر تخلف العرب ، وسر جمودهم يعود الى ما هو كامن في واقعهم اليوم والى ما هو مترسّب في تفكيرهم عن العصور السكونية التي سّماها طه حسين بـ ” العصور المظلمة ” .. وكان ذلك ولم يزل حسب اعتقادي هو سر أزمة كل من الواقع والتفكير العربيين في القرن العشرين ، سواء ما يخص الاحوال السياسية أم الثقافية على حد سواء ، باعتبار كل من السياسة والثقافة يعبّر في خطابه عن الاوضاع الاجتماعية للجماعات وعن الانعكاسات النفسية للافراد .. وقد كرست العثمنة ايديولوجيتها في تركيا ممثلة اياها بالطربوش الأرجواني ، وكانت قبلها ايران قد كرست الصفوية طائفيتها التوسعية ممثلة إياها بالعمائم الحمراء .. وبقي الطربوش الارجواني والعمامة الحمراء يصطرعان ، فترسبت هنا وهناك آثارهما في الثقافة والمشاعر وفي اللاوعي الجمعي .. ومن غرائب الأحوال أن يستمد العرب على امتداد هذا العصر الحديث نزعاتهم الخفية من تلك المؤثرات التي تتلبس الدين تارة والسياسة تارة أخرى .. أو تتمثلها الهوية او السلوك او التعاطف حتى في ظل انتعاش العروبة التي تعالى شأنها في عقود القرن العشرين .
ولعل أبرز من يعّبر عن ثنائية الانقسام الخفية لدى بعض الزعماء وأغلب الساسة والقادة والمثقفين العرب ، انما يتمثلها خطابهم الذي يختبىء خلفه طربوش اولئك باسم الاصلاحات ، أو فعلهم الذي يعكس رسمه عمامات هؤلاء باسم الاصوليات . هذا الرمزان اللذان توارثتهما الاجيال في القرن العشرين يعبران عن مجموعة سكونيات ماضويات تتصف بها ” الرجعية ” التي حاربتها الحكومات الثورية العربية ، ووقف ضدها المثقفون الليبراليون والراديكاليون على حد سواء باعتبارها ” أشكال ” وليست ” مضامين ” ، دون أن يعالجها الفكر العربي الحديث باتجاهاته النهضوية المتعددة : التجديدية والتغريبية والقومية والعلمانية والماركسية .. الخ
اذا كانت ” الاشكال ” و ” الرموز ” و ” الالقاب ” .. قد ذهبت مع الذاهبين ، فان معانيها ومضامينها وترسباتها وبقاياها كامنة ومتجذرة في الاعماق العربية سواء في الدولة ام المجتمع .. ان كل ما فعلته القرارات والاحكام والتعليمات والكتابات والمقالات في الصحف والمجلات والشعارات وأفلام السينماوات والقصص والروايات .. إنها ألغت ” الأشكال ” ولكنها أعادت انتاج المضامين البالية باثواب مهترأة . كيف ؟
مواريث ماضوية سكونية تسكن عواطف الناس وسلوكياتهم اليومية ، صحيح ان الطرابيش افتقدت من مصر ، ولكن الألسن ما زالت تلوك ألفاظ البكوات / البهوات والابلات والبنباشي والباشوات في السرايات .. يا فندم .. يا تيزه .. يا زيزينيا .
وفي الجزائر ، مضى أكثر من مائة وخمسين سنة على تجربة الأتراك الدايات فيها بوجود الفرنسيين والفرانكفونيين ، ولما تزل الجزائر تعيش مضمون مؤسسة الاوجاقات الصارمة .
وفي تونس ، اينما ذهبت تلاحقك صور قدماء البايات وعمراتهم بعد ان تبددت نكهة الأندلسيين والأندلسيات ..
وفي العراق ، مزيج من تعابير وسلوكيات وعادات وتصرفات وولاءات ونغمات المقامات وحكايات واقاصيص ومجالس قوناغات وسراي الحكومة وتسلط الباشوات .. مسحوبة من هذا الطرف أو ذاك .. ولم يقض على عهد الباشوات حتى بعد ان قطّع جسد نوري باشا السعيد اربا اربا !
وفي لبنان ، مطابع وحداثة وتغريب وتأورب وعلمنة ورحلات وثقافة وجامعات وانفتاحات ومهاجر واشعار وسياحات منذ عهد بعيد .. ولكن برغم ذلك كله ، فما زالت هناك جّبات خضراء وعمامات سوداء ولفّات بيضاء يعتمرها الرجالات أو طرابيش حمراء تنتصب فوق رؤوس مطربين ومطربات او راقصين وراقصات ..
وفي السودان ، استحلى القوم منذ زمن بعيد ، الاردية البيضاء والعمامات الكبيرة بعد زمن من النضالات وأكل السياسات والتقلبات من العزلة في الجنوب نحو الهجرة الى الشمال .
وفي سوريا ، اندفعت العساكر تتمرد كالانكشارية هنا وعصيان العصابات هناك في سلسلة من الانقلابات .. ولم تنفع معها احلام العصافير التي بشرت بها ايديولوجية الرومانسيين .. وبقي الطربوش سيد المجتمع في عهود مختلفة من توالي الزعامات .

(4)

وأخيرا ، أقول بأن ذاكرتنا العربية لم تتخلص حتى اليوم من جملة هائلة من الادران الماضوية .. حبذا لو بقي ما هو جميل ومستأنس ومتوافق مع حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا .. ولكن لابد ان يطالب العرب بتجديد القوانين في بلدانهم ، وان تكون لهم دولة دستور ، وان يتخلصوا من بقايا العثمنة التي ورثوها من عصر التنظيمات .. ولابد من زرع التعدديات بديلا عن الثنائيات .. ولابد من توفير الشفافيات بديلا عن الشموليات .. ولابد من تحقيق الحريات بديلا عن التناقضات .. ولابد من تجدد التفكير والسلوكيات سواء في المقاهي ام أروقة الجامعات ام قاعات البرلمانات ..
وماذا أيضا ؟
مازال التعليم والعلم عند العرب يعشش تحت طربوش او عمامة ، ولا يرجى منه فائدة باساليبه الرديئة ، فالجامعات كتاتيب وكافتيريات للطلبة والطالبات ، وليس للاساتذة الا التكرار في العبارات المليئة بالاخطاء والعاميات .. كل شيىء مشوه في المدارس والاساسيات والثانويات والجامعات .. استنساخ ونسوخات ، ومسلوخات من فقرات وعبارات ، وأدعياء الفكر والعلم يتنطعون بالمنهجيات ، لكنهم يمسخون الأجيال بالإنشائيات والمقتبسات والمأثورات لا ترقى الى الحد الادنى من استقلال التاريخ والذات .. ولم تزل الأساليب تقليدية كما كان يمارسها المطربشون واصحاب العمامات !
لم يستفد العرب من طه حسين بعد ان رمى عمامته وطربوشه وجدد ذاكرته وحدث تفكيره . ولابد أن يدرك العرب بأن المفكر الحقيقي والمثقف الحيوي لم ينتج نفسه إلا من أعماق المعرفة كي يغيّر واقعه ومجتمعه بعد ان جدد تفكيره وأساليبه . فمتى يحرق العرب أوهامهم وينقطعوا عن مخيالهم وبعض عاداتهم وسوء بعض تفكيرهم ، وعقم بعض شعاراتهم .. بعد أكثر من قرن لم ياكلوا فيه الا الهوا ؟؟

نشرت في مجلة الزمان الجديد ، نوفمبر 2000

شاهد أيضاً

مقاطع واضحة!!

1 الاشجار يابسة! لا ابقى قيد المحنة فالمحارب لا يرغب باجازة مؤقتة! لن امزق اوراقي …