الرئيسية / الشأن العراقي / لا تسحقوا بلادكم الجميلة أيها العراقيون !

لا تسحقوا بلادكم الجميلة أيها العراقيون !

يبدو ان النداءات لم تنفع ابدا في مثل هذه الدوامة الصعبة التي طال امدها .. ولا يدري احد ما الذي ستؤول اليه الامور بعد اربع سنوات من اليوم .. واعتقد ان الاهوال التي يعاني منها العراقيون سوف لن يستطيع مقاومتها اي مجتمع من المجتمعات .. ولن يكون باستطاعة اي مدينة في هذا العالم مواجهة المأساة التي تمر بالعراق والعراقيين .
كان على العراقيين منذ الايام الاولى لسقوط النظام السابق ان يستمعوا الى صوت الحكمة .. وكان على قوى التحالف وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا ان تدركا بأن للمجتمع العراقي خصوصياته واساليبه الصعبة التي لا يمكن ببساطة التعامل معها وتطبيق ما تريدانه وما لا تريدانه ! ولم يزل في العراق انفاس قوية من اجل ابقاء العراق حيا يرزق .. ولكن من سيكتب تاريخ الانواع العراقية من الشاهدين الاقوياء أو الفجار الغادرين أو الاعداء الطامعين ؟ من سيطوي تاريخ الاحرار الغائبين من ابناء الوطن العراقيين الحقيقيين ؟ أما الاغبياء والمجانين ، فكلهم يرفعون ساريات المجد المأفون !
لماذا تحرق كل مدائن ما بين النهرين العريقة ؟ ما الذي جناه العراقيون اليوم او البارحة او منذ الاف السنين ؟ تساءلوا ونادوا معي ايها الشرفاء في هذا العالم الغبي المجنون : العراقيون : لماذا يسحقون ؟ لماذا يدخلونهم حربا اهلية هوجاء وانتم تصفقون ؟ لقد غدا مصيرهم رهين المحبسين بأيدي الطغاة المجانين ! وغدا ترابهم كنزا ثمينا وكانوا وما زالوا وقودا حامية قوية للاخرين ! لقد مرت ازمان وازمان والكل يوقد في النار الهمجية جمرا يتشظى ذات الشمال وذات اليمين ، وكأنهم كانوا ينتظرون هذا العرس الاحمر الفاضح في مطلع القرن الواحد والعشرين ؟
لقد قلت منذ زمن بعيد بأن الحرب التي اندلعت عام 2003 سوف لن تكون الاخيرة كما تصور او تخّيل البعض ما دام هناك تاريخ مفضوح لوطن ينزف دمه منذ عشرات السنين ولم تحسم انشطته ولم تغلق نوافذه ولم تستأصل شأفته ، وما دام هناك من عوامل غير مباشرة ومسببات خفية قد لا يدركها اولئك الذين يتمتعون بقصر النظر في حياتهم بسبب من ذهنياتهم المركبة التي لم تستوعب الا الاخيلة والاحلام والاوهام والمعلومات المضللة . هنا لابد من ان نسأل : هل سيبدأ العراق حياته بعد كل هذا الاتون ؟ هل سنشهد حقا ولادته التاريخية من جديد وبعد كل اعصار مدمر عصيب ؟ اعتقد انه هذه المرة بحاجة الى ولادة قيصرية تاريخية من نوع غريب ، وبالرغم من انني اخاف عليه وعلى مصيره من التفكك ؟ لكنني اعتقد انه سيتخلق من جديد ، فله القدرة ان يحيا بإعجوبة ولا يموت ابدا مهما تلّظى بنيران الانقساميين!

ان مشكلة العراق ليست سياسية فقط ، بل ان مشكلته السياسية الصعبة قد فجرتها مشكلات اجتماعية وسايكلوجية اضخم واقسى وأدهى وامّر .. ! ان في العراق شظايا مجتمع صعب جدا لا يمكن البتة ان يتلاءم ويتوازن ويتناغم وينسجم بسهولة كما يتوهم البعض من قصار الرؤية ومن دعاة الديمقراطية المستوردة التي يعتبرونها علاجا واقيا ستسرع بحل كل المشكلات ! لقد استعاروا انماطها من سويسرا وكندا وبقية المجتمعات المتطورة ، من دون اية مراعاة للفوارق بين هكذا مجتمعات ومجتمع العر اق .. وكم طالبت جهرا ومنذ نهاية 2003 بعقد مؤتمر وطني يجمع كل فصائل العراق لتأسيس مبادئ يتفق عليها الجميع وبالحاجة الى فترة نقاهة امدها لا يقل عن اربع الى خمس سنوات من اجل ان يتأهّل المجتمع للعملية السياسية ، فالمجتمع غير مؤهّل ابدا لذلك .. وانه بحاجة الى بلورة للمفاهيم وآليات في الخبرة .
انني اؤمن بالديمقراطية والحريات ايمانا حقيقيا راسخا كمنهج سياسي وكعقد اجتماعي في الحياة وكأي صاحب طموح ليبرالي وفكر حر في هذا العصر الجديد ، ولكن بنفس الوقت لا يمكن ان يشرع بالعملية السياسية ويطبخ فيها كل مصير العراق ومن قبل اناس لا يعرفون العراق ولم يقرأوا تاريخه ولم يدركوا تعقدياته ..
بصراحة ، لقد تعمقت فيه الانقسامات وتشظت فيه الولاءات والمرجعيات .. لقد اوضحت الاحداث الاخيرة التي نعيشها اليوم معادن العراقيين ولو بشئ قليل من الوضوح ، عندما تعرفنا على منطلقات الخلاف في الرؤية والتفكير بين الجماعات العراقية ليس السياسية التي تعيش في المنافي والشتات ، بل حتى في تلك الدواخل والاعماق نفسها .. وها هي القيادة العراقية التي تسلمّت العراق انها قد اصبحت ذات سمعة سيئة عند الاخرين وحتى عند اقرب المقربين ، بسبب ما عبرّت عنه انقساماتها وتشرذماتها التي تعبّر بطبيعتها عن انقسامات جوهرية في البنية الاجتماعية اساسا ، وليس في الاتجاهات السياسية فقط .. وهنا نتساءل : ماذا يحتاجه عراق المستقبل من اجل الخلاص من كل هذه الغرائب ؟
انه ليس بحاجة الى مصالحات سياسية مضحكة يقترحها الاخرون علينا تحت ذرائع وهمية وهم لا يفقهون اساليبنا ولا يعرفون مشاكلنا ولا يدركون تواريخنا ، بل ان العراق بحاجة اساسية الى بناء وطني داخلي ينطلق من مرجعية وطنية عراقية دستورية معلمنة مدنية صرفة تؤمن بها الاغلبية ، لتكنس من خلال سياساتها وتربوياتها ومعاملاتها واعلامياتها كل الامراض الاجتماعية الى الوراء : التخلفات الطائفية والمذهبية والقومية الشوفينية والعشائرية المتخلفة ومعها كل الامراض السياسية والايديولوجية المتعفنة. ونسأل : هل يعقل ان يحدث مثل كل الذي حدث بأناس يسحقون كل يوم مرات ومرات وهم من اثرى البشر في هذا الوجود ؟ هل يعقل ان يعيش اهل كل العراق حياتهم الصعبة بمثل هذه المأساة المزمنة وهم لا يعرفون معنى الحياة ابدا .. وفوق هذا وذاك ، تحرق سماؤهم وتهتز الارض من تحتهم وتهدم ابنيتهم وتفجّر معابدهم ومراكز اتصالاتهم وتشوى اجسادهم وتحرق ابار بترولهم وتذهب كرامتهم وتساء معاملتهم وهم يدفعون بأرواحهم واجسادهم ثمنا لعشاق المبادئ الدموية التي لا تبقي ولا تذر .. وقبل هذا وذاك ، تصبح بلادهم مباحة وعرضة في سوق المراهنات الدولية الفاجرة لدول لا تعرف الا اساليب الهيمنة من اجل مصالحها القادمة .. بل ويصبح كل العراقيين مادة دسمة للاستلاب السياسي بين الدول والانظمة والقوى والاحزاب التي لا تعرف من العراق الا قبض الاثمان لكل من يقدّم اكثر ، ويطيل لسانه اكثر ويرقص في الحلبة اكثر . ان هذا كله درس لا يمكن لأي من العراقيين ان ينسوه ابدا على امتداد التاريخ .

أخيرا اقول بأن لكل اجل كتاب ودعوة صادقة من الاعماق لكل اخوتي العراقيين ان يتلاحموا ويزرعوا الرحمة في قلوبهم والحب في جوانحهم وفيما بينهم من اجل مصير وطنهم ، وان يبدأوا طريقا جديدا نظيفا من اجل بناء مستقبلهم وان يحافظوا على وحدتهم واستقلالهم ومصالحهم وثرواتهم ومصالح اجيالهم القادمة .. بعيدا عن توحّش الارهاب وعن هيمنة الاخرين وعن التراشق وعن الحروب وطي المأساة الى الابد. وانهم سيذكرون من وقف معهم وقفة حقيقية في محنتهم التاريخية .. فهل سيحصل ذلك ؟

البيان الاماراتية / الصباح العراقية 2 /3 / 2006

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …