انها تجربة ليست هينة أو بسيطة أبدا ، إنها صعبة ومعقدة ولا يمكن للإنسان أن يتصورها ان لم يحسها ويعشها ويتعامل مع كل دقائقها الصغيرة وخصوصا النفسية منها عندما يجد الكاتب نفسه وقد حوصر بمجموعة بالغة من التحديات الخفية .. ففي حين يتنفس خارج وطنه قليلا ، الا انه يبقى تفكيره محاصر بمجموعة هائلة من الأسئلة التي تتناهب مشاعره وأحاسيسه خصوصا اذا كان مرهف الحس وسريع التأثر ويمتلك قدرا من الأنفة والكبرياء والكرامة .. انه يسرع الخطى عشرات المرات كي يدرأ عن نفسه أية مواجهات صعبة .. كما ان السعي الذي يزيد تجربته غنى وثراء يتركز باتجاه إثبات الذات في أحسن صورها ليس لاعطاء المثل لمن في الداخل عن مدى العطاء الذي يتمتع به هو نفسه في الخارج ، بل لأنه يشعر بأن مهمته هنا مهمة مضاعفة في اكتناز الفرصة السانحة كي يقول : نعم هذه هي الثمرة التي عجزت عن تقديمها هناك ، ولكنني أقدمها لكم في أي مكان من الوجود ، كما ويطمح بأن يعطي لتجربته الانسانية التميز كونه نبتة تعيش وتثمر عندما تزرع في أي مناخ وفي أي تربة وفي أي طرف من الارض !
بالنسبة لي ، فأنا أشعر بأن تجربتي في الخارج كانت خصبة الى درجة لم أكن أتخيلها ، صحيح أنني قد انتجت الكثير في الداخل ولكن لم أمنح لنفسي الحق في اعطاء كل شيىء ، اضافة الى ما كنت قد كتبته ولم انشره او ذاك الذي خزنته في ذاكرتي .. لقد كانت فرص اتصالي بالعالم وفيرة ولكن ليس كما غدت عليه وأنا بعيد عنه ! ذلك ان اتصالي بمكتبات العالم المختلفة وبالجامعات وبمراكز البحوث غدت أكبر .. واذا كان الزمن هو الذي يسيطر علي هناك ، فلقد أصبحت مسيطرا على الزمن في الخارج .. ولعل أهم ما في التجربة هو الاطلاع الذي يكاد يكون يوميا مع إصدارات العالم والتعامل مع ذلك على أساس متكافىء من الاخذ والعطاء معا .. ان اصعب ما ينغص على المرء ان يشعر بالغبن وان يحس بنكران الجميل من خلال التجاهل والتعتيم في محيطنا العربي وخصوصا عندما يأتي من ناس قدمت لهم افضل الخدمات ! كما وان الشعور يأخذ سمة الاحباط في مكان تغيب فيه معاني الصدق والامانة العلمية والاخلاق الادبية .. وهذا ما لم أجده في عدة تجارب لي في مجتمعات غير عربية مع الاسف ، حيث يجد الانسان حقوقه كاملة ..
نعم ، لقد كانت تجربتي في الكتابة والانتاج العلمي غزيرة ، وعندما أعود مع نفسي لأتأمل مكامن الضعف والقوة فيها ، أتساءل : هل ان الحياة تستحق ان يصرف فيها الانسان زمنه وطاقته وأعصابه وصحته في سبيل الهدف الذي رسمه له ، فأجيب : نعم ، ذلك لأن حياتنا خصوصا ونحن ابناء جيل واجه كل هذه التحديات المريرة ولآن هناك طاقات عندنا نحن العرب كامنة في الاعماق وهي بحاجة الى اجواء ملائمة وصافية من اجل ان يكون نتاجها وابداعها موظفا في سبيل رفعة تلك الحياة وتقويم اعوجاجاتها التي كثرت بشكل كبير جدا ! ولابد للحياة العربية ان تتطور على أحسن ما يكون عند الجيل القادم .
لعل أبرز ما أفادني في الكتابة والانتاج العلمي التاريخي وبعيدا عن الحياة الاكاديمية التي لازمتها منذ ثلاثين سنة في الداخل والخارج ، ذلك هو التعلم من تجربة البحث والكتابة والنقد الى الدرجة التي أوصلتني الى ان أغيّر بعض قناعاتي الفكرية في أمور كانت بالنسبة لي بمثابة ثوابت أساسية في الحياة . لقد أكسبتني التجربة فرصة للتعلق بالوطن .. وأكسبتني رؤية من نوع خاص لمجريات تطور الاحداث ليس في الوطن حسب بل في عموم المنطقة والعالم .. وأكسبتني قدرة على التحمل وانجاز الاعباء واستثمار كل الزمن لما صادفته من تحديات ..
لقد تعلمت كيفية تحويل مشكلة الاغتراب الى تعبير من نوع ما .. كما تعلمت بأن الكتابة ليست عملية هروب من واقع مليىء بالصعوبات ، بقدر ما هي مسؤولية يتحملها من له القدرة والاحساس على أن يقدم شيئا ذي نفع ليس للواقع فحسب ، بل للاجيال القادمة . وان أي هامش من الحرية في الكتابة هو عامل نسبي في الحياة ، وان الحياة العربية تزداد تعقيداتها كل يوم، ولابد من ايجاد أي مشروعات فكرية وعملية تساعد في حل ما يمكن حله ، كما وان مجموعة التحولات والمتغيرات التي حصلت في العالم هي أكبر بكثير مما حصل في بيئاتنا العربية ، وحتى في خضم ما حصل وما سيحصل سيقلب تاريخنا بالكامل الى ما هو غير مألوف او معتاد عليه !
استطيع ان احدد مسارات تجربتي المتواضعة في الكتابة والانتاج العلمي وأنا مغترب عن الوطن بالتالي : مسار دراسة تكوين العرب الحديث والذي انجزت فيه ثلاث مجلدات وسيكتمل بمجلدين آخرين بعون الله . ومسار دراسة فلسفة التكوين التاريخي ، وقد انجزت فيه نظرية رؤيوية لسلاسل الاجيال وهو الذي أسميته بـ ” المجايلة التاريخية ” في مجلد واحد كانت تطبيقاته على المعرفة العربية الاسلامية ، وسأعمل على انجاز مجلد آخر يتدارس، ولكن بالانكليزية تطبيقات النظرية علىالمعرفة البشرية قاطبة . ومسار دراسة التحديث والتحولات والاستراتيجيات والعولمة والمستقبل وانجزت فيه خمسة كتب : التحولات العربية ، الانبعاث والتحديث ، العولمة الجديدة ، العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير ، والمجال الحيوي للخليج العربي .. ومسار التاريخ المحلي والاجتماعي والثقافي وانجزت فيه : حصار نادرشاه للموصل ، والدليل التاريخي ، وزعماء وأفندية ، وانتلجينسيا العراق .. ومسار النقد الفكري والتاريخي ، وانجزت فيه عدة أعمال : الرؤية المختلفة ، وتفكيك هيكل ، والصورة الأخرى لجمال الدين الأفغاني .. فضلا عن مسار الرواية والسيناريو التاريخي وأنجزت فيه : النسر الأحمر .. وغيرها من الأعمال .
شهادة شخصية نشرت في العام 2000
Check Also
اعلان من الدكتور سيّار الجميل.. الى كافة المثقفين العراقيين في العالم
ايها الاخوة .. ايتها الاخوات أعلن لكم جميعا انسحابي من المجلس العراقي للثقافة في عمّان …