اثارت مسودة الدستور الدائم للعراق الجديد والتي اعلنتها لجنة كتابة الدستور العراقي ردود فعل عنيفة لدى مختلف الاوساط السياسية والثقافية النخبوية وحتى الشعبية والحزبية العراقية، بسبب ما تنطوي عليه من أهداف ومبادئ ومضامين مشوهة لا يمكنها ان تكون قانونا أساسيا للعراق والعراقيين. واعتقد ان نخبا وجماعات واحزابا وجماهير عراقية قد خدعت خدعة كبرى على امتداد قرابة سنتين ونصف السنة من زوال النظام السابق على امل ان يبدأ فجر جديد للعراق تتحقق فيه المساواة والعدالة والتحرر وبدايات الديموقراطية خصوصا ان العراق قابل لأن يبدأ عهدا تاريخيا جديدا ويكون مشروعا مدنيا حضاريا على ايدي كل ابنائه وإن انكفأت سلطته المركزية، ومهما كبرت حجوم تناقضاته المريرة. ولكن المؤسف له حقا، ان العراق سار في طريق صعب ضمن المراحل السياسية الفاشلة التي مر بها وهو يعالج اوضاعه المزرية ويلعق جراحاته ودمائه.
لقد كان العراقيون يأملون بأن يبدأ عهد جديد يتساوى فيه الناس بكل اطيافهم والوانهم واعراقهم واديانهم واساليبهم. وذلك من خلال دستور علماني مدني صرف يوحدهم على اهداف وطنية ومبادئ حضارية، ولا يفرق بينهم أبدا، ومضامين تكفل بناء مشروع حضاري للعراق والعراقيين من كل النواحي خصوصا ان المواطنة والوعي الوطني من اهم ما يمكن التركيز عليه دستوريا. لكن يبدو ان سياسات معينة قد سار عليها القادة الجدد بمباركة الاميركيين الذين يبدو انهم يصرّون على أن يجعلوا العراق حقلا لتجاربهم الصعبة بالقضاء على الارهاب الدولي في منطقة الشرق الاوسط!!
ان العراق بحاجة فعلا الى الديموقراطية، ولكن لا ان تكون اسلوبا يستخدمه الاسلاميون من الدعويين او المجلسيين او الاخوانيين او غيرهم لتحقيق شعاراتهم غير القابلة للتطبيق. وهناك اولويات لا يمكن التغاضي عنها باسم الديموقراطية، خصوصا ان العراقيين يعانون منذ زمن طويل من انتفاء الامن والنظام ونقص في الخدمات والكهرباء والماء وكل متطلبات الحياة الكريمة.
إن العراق الذي يطمح ابناؤه أن يكون فعلا بلدا نموذجيا لقوة امكاناته المتنوعة، لابد له من الاستقرار السياسي وان يجد في صفوفه من له القدرة على ان يقود دفته الى شاطئ الامان في خضم هذا العصف المأكول الذي يأخذ به من دون ان ينال طعم الاستقرار في اي يوم من الايام. ان العراقيين الجدد الذين تولّوا قيادة العراق ، كان عليهم جميعا ان يعلنوا عن اجندتهم الحقيقية قبل ان يتسّلموا حكم العراق وكان عليهم ان يعملوا بمبدأ الشفافية والصراحة لا ان يعلنوا مسمّيات عدة ويستعيروا جملة شعارات يوهمون بها الناس ردحا من الزمن كي يعلنوا اليوم عن اجندة اجدها ويجدها غيري لا تمت للهوية الوطنية العراقية بأي صلة! إن على من يحكم العراق والعراقيين ان يكون فوق كل الانتماءات وكل الاتجاهات والنزعات وضد كل التماهيات الا التماهي مع العراق والعراقيين.
ان ما اعلن في مسودة الدستور التي طرحت على العراقيين يشكل مخاطر جمة لا قِبَل للعراقيين بتحملها. وفي مثل هذا الظرف الصعب الذي تزداد فيه الاحتقانات والاضطرابات وتطغى عليه الاحقاد والكراهية بفعل الانقسامات التي اثارتها ممارسات المحاصصة الطائفية تحول العراق من سجن كبير عاش العراقيون في اقبيته على عهد صدام حسين الى كانتونات حزبية وطائفية تسعى جميعا باسم مسودة دستور دائم ان تمزّق العراق اشلاء من خلال مسمّيات شتى! ان العراقيين الذين نحرتهم التناقضات الاجتماعية العنيفة وزادت من تنافرهم جملة الانقسامات السياسية وخصوصا بعد سقوط الطاغية صدام حسين لا يمكنهم ان يبقوا ساكتين على مواد دستور غريبة جدا لا تمت لهم بأي صلة، بل لم يشعروا انهم امام دستور حضاري ووطني يحمل مشروعا لحياة جديدة للعراق والعراقيين.
العراق لم يكن في اي يوم من الايام جمهورية اتحادية اسلامية، اذ لم يكن منقسما في السابق حتى يعلن عن تركيب اتحادي لنفسه. ولم يكن في يوم من الايام دولة دينية يحكمها رجال دين (= ملالي) حتى يعلن عن ذلك في مسودة دستور تطغى فيها النعرات الدينية والنزعات الطائفية. ان العراق لا يمكنه ان يعيش تحت قهر اي اقلية او سطوة اي اكثرية. والعراق لن يعرف الاستقرار ان اقر اي دستور أن الدين هو المصدر الاساسي للتشريع! ولا ادري كيف يعلن “مبدأ” ان يكون العراق دولة اسلامية ومسودة الدستور تتضمن مواد دستورية مأخوذة عن دساتير غربية ومنها نصوص سويسرية ونيوزلندية وكندية وغيرها؟! لا ادري كيف يريد البعض تأسيس دولة اسلامية في العراق والعراق له قوانينه الوضعية منذ العهد العثماني وهو لا يعرف في تسيير شؤون الدولة المعاصرة اليوم الا القوانين الوضعية الغربية! ان من يريد دولة اسلامية، عليه الا يستخدم اي نص من نصوص الدساتير الغربية، بل عليه ان يرجع ليطبق الشريعة والاحكام الشرعية في كل شؤون الحياة السياسية والاقتصادية.
انني اتحدى اي نظام اسلامي (باستثناء “طالبان” في افغانستان) ان يجرّد نفسه من دساتير هذا العصر وقوانينه الوضعية كي يعيش وله برنامجه السياسي ودستوره الشرعي! لا يمكن أي قوة سياسية جديدة في العراق ان تخدع كل القوى السياسية والنخب المثقفة بدستور مشوه يدعو لجمهورية اسلامية وهو يسرق بنود دساتير غربية علمانية معاصرة! كيف لكم الادعاء ان يكون الشعب مصدر السلطات وانتم تعلنون عن جمهورية اسلامية؟ كيف لكم ان تعلنوا بأن الدستور يصون الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي وتضعون بين قوسين (باكثريته الشيعية وسنته) ويحترم جميع حقوق الديانات الاخرى؟! لماذا تنكرتم للهوية الوطنية العراقية؟ لماذا تؤكدون على الطائفية في العراق؟ لماذا اضفتم قومية اخرى (الفرس) الى قوميات العراق ووضعتموها بين قوسين اثنين ايضا؟ لماذا خلطتم الاديان بالقوميات وخرجتم على العالم وقد مزقتم العراق اربا اربا من خلال قوميات لا وجود لها اصلا؟ فاذا كان الاثوريون قومية لها معالمها وتميزها وهم اصلاء في العراق، فهل غدا الصابئة المندائيون قومية وهم عراقيون اصلاء ولكن لهم دينهم ولكم دينكم؟
لماذا جعلتم “الدولة العراقية جزءاً من العالمين العربي والاسلامي” من دون ان تحترموا ارادة شعب لا يمكن ان يتنكر لعروبته ولغته وتاريخه؟ فلماذا الدولة من دون الشعب؟ يبدو انكم لم تميّزوا بين “الدولة” و”القومية” و”العروبة”. كيف يمكنكم جعل الدولة العراقية وحدة واحدة ارضا وشعبا وسيادة وانتم لا تفرقون بين “الدولة” و”الوطن”؟ كيف تقررون ان يكون للمرجعية الدينية استقلاليتها وكأنكم تريدون فصلها عن العراق كما هي الحال في ايران؟ وكأن الدستور الدائم يمنحها حقا تمارسه في معزل عن العراق ازاء العراقيين؟ اين هي حقوق المرأة العراقية في مسودتكم؟ لماذا جعلتم الدولة كفيلة للحقوق الاساسية للمرأة من دون المجتمع الذي كان ولا يزال يقسو عليها؟ واين هو الشعب؟ اين هي البيئة والعناية بها؟ اين هي مستلزمات الحقوق المدنية إن ربطتم ذلك باسم دولة اسلامية؟ كيف يمكنكم ان تقرروا عن الآخرين وتصادروا رأي اجيال المستقبل بمثل هذه القيود الثقيلة؟
هذا قليل من كثير مما لابد ان يقال عن مسودة دستور دائم للعراق. فهل سنرى دستورا من نوع جديد يأتي من خلال اللجنة الحالية؟ اشك في ذلك! ولكنني اعتقد أن دستورا متطورا ومدنيا ومؤهلا لقيادة العراق ومستقبله لن يولد على ايدي اناس لم يدركوا بعد حاجة العراق الاساسية لمشروع مدني ووطني لا يفرق ولا يميز ولا يقّسم ولا يحاصص. وفي الحقيقة لا يخرب!
النهار البيروتية
الجمعة 5 آب 2005
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …