ساكون صريحا كالعادة في كلامي مع كل الاخوة العراقيين وسوف لا تأخذني في الحق لومة لائم وانا اعالج هذا ” الموضوع ” مرة بعد أخرى ، وسانطلق من تفكير حر مستقل ومنّزه عن كل الميول والاتجاهات بالرغم من اعتزازي الشديد بكل الاطياف والمقدسات والعتبات والقوميات والاديان والالوان العراقية ، ولكن العراق مسألة وطنية قبل الجميع . وعلى من يخالفني في ذلك فليفعل من دون مواربة ولا مزايدة ولا مخاتلة .. وليعلن للملأ بأن العراق بالنسبة اليه مسألة ثانوية ! كنت أزمع ان اضّمن كلاما خصب المعاني قاله المتنبي قبل مئات السنين ، ولكنني عدلت عن ذلك ، فربما لم يشاركني الرجل محنة العراق اليوم بالرغم من كونه عاش محنة العراق ولكن من نوع آخر وليس وحده ، بل عاشها ثمة عشرات بل مئات والاف المثقفين العراقيين ممن شقوا في العراق من اهل العراق .. وانني متأكد تماما بأن اجيالا قادمة ستشقى هي الاخرى ما دامت هناك خفايا تحّرك النفوس ومسكوتات تطغى على عقول العراقيين وافئدتهم بعيدا عن ارض لا يعشقونها بقدر ما يعشقون أشياء اخرى تكبلهم من اعناقهم وتجعلهم اسرى ورهائن لها ، بل وحتى وتصنع منهم بيادق في خضم زمنها الكسيح ..
استميحك العذر يا سيدي يا ابا الطيب المتنبي ان يستمد مقالي اليوم من عجز احد ابياتك الشعرية الرائعة هذا المقال ، ان مسودة دستور ثانية قد انجزت من اجل عراق المستقبل وهي لا تفي أبدا بما نريده للعراق والعراقيين .. وسوف لا يدع هذا الزمن اي قرود تقهقه ولا اي عجائز تلطم الخدود وتشق الجيوب لما ستقود اليه سياسات بعض الاخوة العراقيين الذين لا يرون الا انفسهم اوصياء على العراق والعراقيين .. وان تكلموا فهم يتكلمون وكأنهم قد اجتازوا انتخابات حرة لم يشارك فيها نصف الشعب العراقي لاسباب قبلناها ام اعترضنا عليها ، فالعراقيون كلهم يمتلكون وطنهم ولا مزايدة لهذا الطرف على حساب الاخر ..
الوطنية لا تحتكر
مقولة فيها بعد نظر تنّص على ” ان الوطنية لا تحتكر ” ، والتي قالها أحد المثقفين العراقيين المعروفين في عشرينيات القرن العشرين ، وما احسنها من ” مقولة ” كان على العراقيين ان يتعلموها منذ عشرات السنين . نعم ، ان كل شعوب الدنيا تعتز بمبادئها الوطنية ولقد كان العراقيون على امتداد التاريخ يدافعون عن بلاد وادي الرافدين التي تستحق ان يكون لها مبادئ يعتز بها ابناؤها مهما اختلفوا على امور اخرى . ان ما يؤلم حقا ان يكون لبلدان جديدة وتافهة جملة مبادئ راسخة في حين يمتهن البعض من العراقيين مبادئ العراق العريق وغدا هذا البعض يستنكف منها لأنه يحمل تقاليدا وطقوسا يعتز بها اكثر من اعتزازه بالعراق . ان المبادئ الوطنية ليست اثواب عرس تتعبون عليها من اجل ليلة زفاف واحدة ثم تطوى ولا ترى النور .. واحلام العراقيين التي عاشت حية مخصبة تنبض بالحياة وضمخت بالدماء عبر القرن العشرين لا يمكن ان يخطفها الجهلاء والمتسلطين والمعممين بمسميات جديدة .. فليس من يخطف الانسان وحده مجرما آثما ، بل من يخطف المعاني ويسلخها ليخرجها ممسوخة حسب مزاجه .. ومجرم ذاك الذي يخطف وطنا لا يعترف بان للاخرين أي حق فيه . فهل يمكن ان ينجحوا في اي لعبة يريدونها للعراق ؟ هل ستنجح مساعيهم من اجل تقسيم العراق حتى يسهل على الاخرين ابتلاعها ؟ لن يمروا من تحت اسوار العراق كي يقدموا العراق منحورا الى الاخرين من المفترسين الجياع الرابضين من وراء الاسوار قبل الاف السنين .
ان المسألة ايها الاخوة ليست مسألة محاصصات وتوافقات .. الخ لقد اسموّها كما يريدون : سنّية وشيعية وكردية وتركمانية ومندائية وفويلية ويزيدية وآثورية وكلدانية وسريانية .. الخ ولأول مرة أحس بأنني افتقدت وطنا كالكنز منذ ان جرى التخندق الطائفي كي يجبرونني ان اكون في حفرة قديمة وسوف لن ينجحوا في ذلك ابدا فالجمال لا تدخل من خرم الابر ، ولا يمكنني هنا ان استقيم مع هذه الحفر والنقر والخنادق التي يسمونها بديلا عن العراق . ان مجرد الاعلان عن حفرة معينة جعل الاخرين يهرعون لتأسيس حفر اخرى لهم ، وهذا لا ينطبق علي لوحدي ، فمعي ملايين العراقيين الذين لا يقبلون ان يتخندقوا لمواجهة بعضهم الاخر في حفر آسنة ! انها مسألة وطنية تخص الجميع ، فلا يمكن لأي عراقي حقيقي حر ان يقبل بأي مشروع حتى وان اتفق معه ان يؤيده مستعجلا قبوله .. تذكروا ان من يشتري دارا له يتأنى كثيرا ايها العراقيون ، فكيف بكم تقبلون مشروعات تخص الوطن يعلن عنها قبل شهر واحد او شهرين !؟؟ والى كل اولئك الاخوة العراقيين الذين أخذوا يكرهون اسم العراق بسبب معضلاته الجسام عليهم ان يقولوا كلمتهم ، فالحق مشروع لكل العراقيين ان يدافعوا عن مصير اولادهم قبل ان يختطف العراق ، بل وقبل ان يفترس العراق على ايدي العراقيين انفسهم !
مسألة لا يمكن ان يحتكرها أحد !
أتابع كلما سنح لي المجال ردود افعال مختلف الاطياف من الاخوة الساسة والمثقفين العراقيين حول المسألة الدستورية التي تشغل اليوم بال كل من يحمل هم العراق ويفكّر في مستقبله . وعندما انتقدت مسودة الدستور العراقي الاولى التي خرجت بالية مهلهلة متعبة ، ايدني البعض وانتقدني البعض الاخر .. والحق مشروع في كل من يؤيدني او يخالفني، ولكنني اقول : ان المسألة ليست سياسية او دينية حتى تغدو هكذا مسألة وجهة نظر او لي ديني ولكم دينكم ، وانها ليست قضية عقائدية او ايديولوجية يختلف المرء حولها او يتفق عليها .. ولا ينفع هنا اي ( توافق compromise) لأن المسألة قانونية وواقعية وتاريخية ومستقبلية ومصيرية للعراق والعراقيين قبل ان تكون لشريحة معينة او لطبقة ما او لطائفة مسماة . ان من يعتقد بأن الدستور الدائم هو الذي سيحّل مشاكل العراق ، فهو واهم شديد الوهم ، ولكن السعي اللاهث بشدة وبسرعة بالغتين من اجل تكريس دستور دائم للعراق بالصورة التي هو عليها الان ، فهو بالتأكيد يحمل اجندة معينة يريد فرضها بالقوة على الشعب العراقي .
ان للشعب العراقي حق مشروع في ان يكون له شرعة ودستور ودولة ونظام سياسي جديد وعقد اجتماعي متطور ، ولكن هذا ” الحق ” لا يمكنه ان يتحقق ان لم تجتمع ارادة الشعب على مثل هذه المسألة الوطنية والتاريخية الصعبة التي لا يمكن ان تكون محتكرة من قبل فئة حاكمة او مرجعية دينية او حزب او حزبين سياسيين او حتى فئة منتخبة من قبل نصف الشعب العراقي ! ان اصدار اي دستور بمثل هذا الوضع من الانقسام حول المبادئ وليس حول الممارسات هو من الخطورة بمكان ان يكون . ان الذين يتعجّلون الامور لاصدار ” دستور” يحمل تابوت العراق اما يكونوا قد فقدوا الثقة بالشعب العراقي او انهم افتقدوا ثقة الشعب بهم ، فيريدون فرض ما يريدونه بسرعة خلال مرحلة زمنية معينة كما قالوا بذلك ، اي انهم يريدون انتهاز الفرصة السانحة كونهم يعتقدون انهم ليسوا براسخين في الحكم ولا مؤهلين لقيادة العراق والعراقيين باسلوب مدني ديمقراطي متحضر .. واما يكونوا اناس تستغل الظرف الاستثنائي الذي يعيشه العراق لاملاء ارادتهم على كل العراقيين ومن بعد يكون دستورهم مرجعا لكل العراقيين غصبا على الجميع وان اعترض احد في المستقبل ، قالوا : هذا نابع من الدستور باعتباره مرجعا سيغدو مقدسا ، كما هو الحال اليوم عندما ينتقدهم أحد يجيبونه : اتينا بمشيئة الشعب في انتخابات يعتبرونها شبه مقدسة . وبالرغم من مباركتنا لتلك التجربة الانتخابية التي ايديناها من اعماقنا – كيلا ينتقدنا المراوغون اليوم – ، الا انها لم تكن تمّثل كل الشعب العراقي مهما كانت الاسباب ناهيكم عن الاسلوب الذي جرى فيه استخدام الدين والمرجعية شعارا جذابا مما جعل ملايين الناس تنتخب مرجعية ائتلافيين ولا تنتخب زعماء سياسيين ! ان كثيرا من الذين انتخبوا وصوتوا لحكومة مؤقتة قد ندموا على فعلتهم .. وسيحدث الشيئ نفسه عندما سيندم كل الذين يقرون دستورا انقساميا .. ولات ساعة مندم !
الدستور : شرعة مبادئ ومنهاج عمل
لقد قلنا مرارا وتكرارا ان الدستور هو شرعة مبادئ وطنية ومنهاج عمل وطني ، فربما يختلف اي شعب او اية قوى سياسية على منهاج وممارسات أي نظام حاكم او أي وزارة او أي حكومة .. ولكن لا يمكن لأي شعب من شعوب هذه الدنيا ان يختلف على المبادئ الوطنية الا في حالة واحدة كالتي يعيشها العراقيون في حالة العراق – ويا للاسف الشديد – ، فهذا ليس دليل صحة ، بل دليل خطر شنيع . ان الاختلاف بين العراقيين على المبادئ يعد من اخطر ما يصادفه العراقيون اليوم كونهم لم يعيشوا اي مرحلة نقاهة انتقالية حقيقية بعد سقوط الجلاد يسوس العراق خلالها رجال خبراء في تشكيل العراق واعادة بنائه وانجذاب الناس اليه وممارسة القانون بفعالية .. ان الذي مر ويمر بالشعب العراقي يعد من اخطر ما يمكن ان يواجهه اي شعب من شعوب الدنيا . ان انقساما مريعا قد حدث في تفكير العراقيين عندما غدا العراق وطنا وارضا وشعبا في المؤخرة عند عراقيين يريدون ان يمتلكوا العراق باسماء من نوع آخر لا يعرفها العراق ! ولم يكن هذا الامر قد حدث مؤخرا حتى ندين امريكا او غير امريكا بالرغم من استغلال الامريكان هذا الانقسام المريع استغلالا محكما . لقد حدث هذا الانفصام على امتداد عقود من الزمن ولكن كان مسكوتا عنه خصوصا عندما يدمج حاكم جلاد اسمه بمصير العراق ، بل ولا يتورع ان يعلن للملأ : ان قال صدام قال العراق ! اي اصبح هو بمثابة الوطن كله ، فيغدو الوطن مكروها وكريها وتبدأ الناس تبحث لها عن منابت وهويات ومرجعيات اخرى غير المرجعية الوطنية .
ان المرجعية الوطنية عندما تتوقد في النفوس والقلوب والضمائر والعقول لا يمكن ان تتقدم عليها اي مرجعية اخرى ، ولا يمكن ان تستدعى اي مرجعية مع وجود الوطن / الام . ان من ابرز سمات انهيار المواطنة ضياع المبادئ الوطنية التي يمكن ان يجتمع عليها ابناء الشعب الواحد . فهل يمكننا ان نجد اليوم في ظل هذا الوضع غير الاحتقانات الاجتماعية والطائفية والاقليمية والعرقية التي تعبّر عنها انقسامات سياسية مريرة ، ولكنها تلبس شتى الالبسة بالوان مبهرجة لا يعرف عنها اي استقرار ولا اي ثبات؟؟! وعليه اقول لكل الاخوة العراقيين بأن اي دستور في هذه المرحلة الصعبة سوف لن يكون حلاّلا للمشاكل والمعصيات والامراض والارهاب والبقايا المتفسخة والمتوطنة وخراب العراق الذي استمر عقودا .. ارجعوا ايها العراقيون وفكّروا في كيفية انقاذ الناس من مشكلاتهم .. ليغدو الساسة والقادة الجدد اصحاب نخوة في ان ينزلوا الى ارض الواقع ويكونوا شجعانا في النزول الى الشارع ويعملوا على تقليص الازمات وحل المشكلات ومعالجة الخدمات ومساعدة الناس .. ليكونوا امناء على اموال البلاد ويحافظوا على الثروات .. ومن ثم على العراقيين جميعا ان يكونوا في وضع يساعدهم على ان يختاروا مستقبلهم ولكن بعد علاج حاضرهم وتضميد جراحهم وتأمين امنهم واستقرارهم . لا يمكن ابدا تكبيل العراقيين بدستور يحمل تناقضاته منذ لحظات ولادته ، فكيف ستسير البلاد عليه مستقبلا وهو يحمل تابوت العراق بيديه !!؟؟
من المحاصصات الى المقاسمات
المسألة ليست فقط مسألة اختلاف اجتماعي او تباين عرقي او انعدام تجانس بين اطياف الشعب العراقي كما هو الحال لدى شعوب اخرى ، ولكن المسألة قد تعقّدت واتسّعت لتأخذ لها ابعادا اخرى .. اذ فجأة انتقل الشعب العراقي من شعب مكّبل بالاصفاد يعامل معاملة واحدة باضطهاد منظم للجميع الى شعب منفلت لا يعرف الا المحاصصات الطائفية والفئوية والجهوية والعرقية باسم الديمقراطية .. وكأن كل عراقي انتقل من كونه رهين الاحادية الى رهان المحاصصات ليغدو اليوم رهين المقاسمات رغما عن أنفه ، فأي مبادئ عراقية نسأل عنها في خضم هذا الصراع الدموي ؟ انني اعتقد بأن ما يدور اليوم على ارض العراق هو مجموعة عنيفة جدا من ردود الفعل لما حدث من اسقاطات سياسية ودينية وطائفية وليس اسقاط طاغية وحده ، فسقوط طاغية وّلد قوى عنيفة تعمل بالضد من كل متغيّر وثمة جماعات استقطبها قياديون قدماء وبدأوا برنامجا ارهابيا يدركه الجميع . ولكن الامر اكثر تعقيدا مما يمكن وصفه .. ذلك ان ردود الفعل غدت عنيفة لكل فعل يعتبر بالضد منه على ساحة العراق .. فليس هينا ابدا على العراقيين كلهم ان يسمع كل منهم الاخر ما يدور في باله باسم الديمقراطية والرأي والرأي الاخر .. ان مجرد سماع اي عراقي ما لدى العراقي الاخر من افكار تضربه في الصميم من مشاعره الدينية والوطنية والطائفية والقومية يعدها سكاكين حادة تذبحه من الوريد الى الوريد .. وسيجعله هذا ندا وعدوا لذاك بدل ان يجتمع العراقيون على مبادئ وطنية في البداية . ربما سيأتي يوم من الايام يمنح فيه الاكراد حق تقرير المصير نتيجة تاريخية لقضية معقدة ناضلوا من اجلها زمنا طويلا ولكن ستبقى لها تداعياتها ومخاطرها الاقليمية .. ولكن الخروج بفكرة جعل العراق مجموعة ” فيدراليات ” لا مبررات لوجودها حقا ، وربما يخطئ بعض العراقيين عندما يعتبرونها علاجا للخلاص من ازمة الاحتقان التي سببتها سياسات المحاصصات ولم تنفع سياسة التوافقات التي جرب العراقيون الجدد فعالياتها ، فوجدوا امامهم صراعات اكبر حجمها من صيغة التعاقد ! وعليه ، فان العراق سيغدو مؤهلا للانقسام منذ اللحظة الاولى لولادة فيدرالياته ، وعند ذاك لا تجد العراقيين الا ويضيفوا مناحات وبكائيات جديدة الى تواريخهم من البؤس والتعاسة والشقاء .
العلاجات منذ اللحظة الاولى
ان العراقيين في مثل هذا الوضع لا تخلصهم الا القوى الوطنية المدنية والتكنوقراط بتجريد نظام الحكم من القوى العقائدية المؤدلجة باسم دين او طائفة او اي عقيدة تحمل تناقضاتها الى الواقع . لقد دعيت في العديد من مقالاتي المتواضعة منذ الساعات الاولى لسقوط الطاغية ان تتشكل قوى مدنية وقانونية لافراغ العراق من جيوب العقائدية السياسية المركزية التي حكمته عقودا طوال .. ولكن ذهبت صيحاتنا ادراج الرياح ، ثم نادينا بتأسيس حكومة تكنوقراط تأخذ على عاتقها بناء العراق وابعاد العراقيين عن شبح الانقسامات العقائدية .. ولم يأخذ احد بهذا الرأي أيضا وكان كل يوم يمضي تتفاقم الاحتقانات ويزداد البلاء وتتوالد الفجائع ويتأجج الارهاب .. ان من اسوأ ما ابتلي العراق به يتمثلّ بتكريس عقائديات جديدة عديدة بديلا لعقائدية بعثية واحدة ، واذا كانت العقيدة البعثية قد أكلت نفسها بنفسها بانفصام العراقيين عنها خوفا منها ورعبا من ممارساتها ، فان العقائديات الجديدة وميليشياتها ومناصريها أخذت تنمو بشكل خفي لا يمكن ان يقود الا الى هذا الانقسام المريع في البنية الفكرية والمبدئية للعراقيين جميعا . والمشكلة انهم يستعيرون ، بل دعني اقول يستنسخون ويمسخون المفاهيم بغير معناها الحقيقي ، ويحرفّون جملة هائلة من المصطلحات ليسوقوها برؤوس العراقيين فاذا قلنا تكنوقراط ( أي : قادة متخصصين مجردين من العقائد السياسية ) خرج علينا احد قادتهم ليقول بأن فلانا وعلانا تكنوقراط ونحن ندرك بأنهما من اعوانه ومن اعضاء حزبه !
ودخل العراقيون مأزقا آخر عندما خرجوا من الانتخابات العامة يوم الثلاثين من يناير / كانون الثاني 2005 وهم يدينون بعضهم بعضا ليس لأن الانتخابات لم تكن عادلة ، بل لأن الانتخابات لم تكن سياسية بقدر ما كانت دينية بين من قبلها وبين من رفضها . وبقي العراقيون يتلظون على احر من الجمر لانبثاق وزارة عراقية وطنية تخدمهم مهما كانت طبيعتها ، وبقي العراقيون الاحرار من المستقلين وبقية التقدميين والمناضلين المتمدنين يتمنون وزارة عراقية وطنية تخلو من اي محاصصات عرقية وطائفية ومذهبية وجهوية باستثناء التباينات السياسية التي اجدها حقا مشروعا في العمل السياسي .. ولكن بعد ايام طوال وايام حاسمة من الصراعات ولدت وزارة الاخ الدكتور ابراهيم الجعفري فباركناها وكتب كل الاخوة ينصحونها بما يمكن فعله ، ولكنها كما يبدو انها قد اخفقت كما اخفقت من قبلها وزارة الاخ الدكتور اياد علاوي .. وبدأت المسألة الدستورية تأخذ لها ابعادا صعبة نتيجة طبيعية لما كان هناك من مسببات اذكتها السياسات غير الحيادية التي اتبعت في العراق تحت مسميات مختلفة .
حدود المنطق وسداد العقل
لم يعد هناك اي حدود او سدود امام العراقيين وهم يعيشون هذه المرحلة التي تتضخم فيها التناقضات والانقسامات بشكل بشع وغير مقبول ، فكيف يمكنني وانا العراقي ان ادافع عن العراق والعراقيين امام كل الخصوم والغزاة والمفترسين على الحدود والعراقيون في الداخل يأكل بعضهم بعضا ؟ كيف يمكنني ان ابقى ساكتا وانا اقرأ لهذا وهو يستخدم كل ما لديه من خزين احقاد وكراهية تجاه العراقي الاخر ؟ كيف يمكنني ان ابقى منعزلا عن هذا الذي اجده قد ناضل عقودا طوال من السنين باسم مبادئ سياسية من اجل العراق وهو يجد نفسه مهملا اليوم من قبل اناس كانوا يقفون مع الجلاد في الداخل والخارج وقد استحوذوا على السلطة الجديدة في ظل المحاصصات المقيتة ؟ كيف يمكنني قبول ان يعفى عن قياديين سياسيين ومثقفي سلطة واعلاميين اقوياء وسلطويين سابقين ووزاء كونهم من طائفة معينة ولا يعفى عن زملائهم الاخرين لأنهم من طائفة اخرى ؟ كيف اقبل من قادة جدد ان يتقبلوا الاملاءات الامريكية ليل نهار ولا يقبلوا مجرد سماع او قراءة ما يريده المثقفون العراقيون الاحرار ؟ كيف اقبل ان تتفشى هذه الحرب الطائفية الكلامية القاسية بين العراقيين على مواقع الانترنيت وقنوات الفضائيات وكلها مغطاة باغطية دينية وطائفية وعرقية وانقسامية مريعة .. وكلها تمضي – ويا للاسف – باسم الديمقراطية ؟ سمعت احدهم يقول على قناة فضائية معينة بأن في العراق : الشيعة 60 % وان السنة العرب 20 % وان الاكراد 20 % ! طيب واين بقية فئات الشعب العراقي ؟ ومن سمح لأي من هؤلاء ان يتكلم احصائيا من دون اي وثائق احصاء سكاني ؟ ماذا تفعل مثل هذه السقطات في النفوس والمشاعر ؟ الا يشعر كل عراقي بأنه قد اهين في وطنيته اصلا ؟ ان مشكلتنا نحن العراقيين منذ القدم سايكلوجية اذ دائما ما تسبقنا عواطفنا وامزجتنا في صنع قراراتنا وبث تصريحاتنا وكتابة آرائنا .. وحتى البوح باسرارنا انتهاء باستخدام ابشع الالفاظ في السباب والشتائم التي تعّبر عن مواقف آنية .. سرعان ما تنقلب الى محبة ومودة وكـأن لم يحدث اي شيئ على الاطلاق .. او تبقى شعلة من الاحقاد والكراهية متوقدة في القلوب حتى الاخذ بالثأر او التشفي بالمصائب . فمتى نحّكم عقولنا في كل تصرفاتنا وافكارنا واقوالنا وحتى تعليقاتنا العابرة ؟؟
اليس للديمقراطية جملة منطقية من حدود وسدود ؟ اين حدود المنطق اذن ؟ انني اسمع كلاما منذ سقوط الجلاد حتى اليوم وكلها تضرب على اوتار انقسامية تزيد من الاحتقانات وتذكي النار سعيرا في الافئدة وكلها باسم الديمقراطية ؟ ما عواقب ذلك ؟ الم يفكر العقلاء من العراقيين في ما تجنيه كل الاختلاقات التي يصّرح بها البعض ضد العراقيين ؟ الم يفكر القادة والاداريون والاعلاميون والكتبة الجدد بان اطلاق الكلام على عواهنه ليس من سمات الديمقراطية ؟ ان لغة الاقصاء لم تبق على حالها بل وصل الحال بالعراقيين ان يستخدم البتر والنحر .. هذا ينحر رؤوسا يانعة ويشّوه اجسادا حية على قارعة الطريق وكأنه يصفّي حسابات ثأرية وسادية مقيتة والاخر ينحر ارضا وشعبا وكأنه يصّفي اليوم حساباته لكل احقاد الزمن ومكبوتاته ! عندما كان صدام يحكم العراق كان الجميع يسبح بحمده ولم يكن هناك من الكّتاب الاحرار الذين يكتبون مقالاتهم باسمائهم الصريحة الا ثلة معروفة للقاصي والداني ، اما اليوم ، فان القرائح قد تفجّرت كلها لا لتلعن صدام حسب ، بل لتلعن كل العراق ، بل وتتبجح باسم العراق وهي تريد ان ترسل العراقيين الى حتوفهم ..
مشروع الفيدراليات يفاجئ العراقيين
انني أسأل اليوم كل الذين يدركون ويتدبرون ما اقول : اين تلك الاصوات الشجاعة التي غنّت وصدحت والتي نشرت والتي قالت والتي حكت والتي كتبت والتي تظاهرت من اجل عراق حر مستقل ومتمدن ومتحرر من قبضة الجلاد ؟؟ لماذا سكتت اليوم على حساب اندفاع كل الطامعين والمغالين والمتعصبين والمتطرفين والارهابيين والانقساميين والانعزاليين والحاقدين والآثمين .. الخ ؟؟ من يراقب ما ينشره العراقيون على الملأ من كتابات وتصريحات سيجد العجب العجاب من استخدام كل الالفاظ المتاحة والافكار المباحة مهما كانت شناعتها باسم الديمقراطية وكلها تنصب ضد المبادئ الوطنية ! انني اتحّدى كل التجارب الديمقراطية المتقدمة في العالم ان تأتي بعشر معشار ما يستخدمه العراقيون ضد بعضهم البعض الاخر .. ربما نجد تناحرات حزبية وسياسية في تجارب اخرى ولكن ليس نحرا لمبادئ وطن رائع كما يفعل العراقيون . ان التحّول الاعلامي في العراق من حالة مركزية توتيتاليارية مرعبة الى حالة فوضوية غير مبالية قد انتج ركاما هائلا من الاحقاد ومزيجا فريدا من الكراهية .
ان مشروع الاضطهاد الذي كان تقسيمه بالامس قد اختار التوزيع بشكل عادل يقابله اليوم مشروع في الانتقام غير عادل ابدا ، بل وتحّول مشروع الكبت السياسي الذي يختزنه العراقيون عشرات السنين الى مشروع لاظهار الكبت التاريخي الذي يعلنه اصحابه لمئات السنين .. من رحم هذا التناقض المريع يلد مشروع ” الفيدراليات ” المفاجئ من دون سابق انذار ، وكأنه يستعد لتقسيم البلاد ويحفز كل المشاعر المضادة للتوحد والتقدم من اجل التفتيت ، او كأنه يبني بيوتا من رمل من دون اي احصاءات سكانية تثبت عدالة التوزيع كما يجري في العالم المتمدن . ويركض الاغبياء وراء هذا ” الاعلان المثير ” للفيدراليات من دون اي تفكير ولا اي تدبير بما سيؤول اليه مصيرهم قبل مصير العراق كله . ان سألتهم يجيبونك بأنهم يدركون مصلحة العراق ، ولكنهم ينظرون الى مصالحهم لا الى مصلحة العراق العليا . وهل من مصلحة العراقيين ان يقطعوا ارحامهم واوصالهم ، فالارض العراقية لم تكن يوما ملكا لطائفة او عرق او قومية او ملة او طبقة او عشيرة .. ولم تكن ابدا رهينة حزب اثيم او ملك رحيم او طاغية جلاد او امام معصوم .. وان كان حاكما قد طغى او حزب قد بغى ، فما شأن اقاليم معينة ؟ وما شأن طائفة معينة ؟ وما شأن مدن معينة ؟
لقد اشتركت كل اطياف الشعب العراقي في صناعة صدام وتجميله والتصفيق له والتغنّي به والرقص في حضرته ، فمتى كانت هناك طائفة من انقياء اتقياء ؟؟ ومتى كانت هناك طائفة من كفرة فجرة ؟؟ انكم بسعيكم جعل العراق ” فيدراليات ” تقرّون تقسيم العراق ، وبعملكم هذا انما تمنحون صدام حسين وانصاره وكل مؤيديه قصاصة حسن سلوك على سياساته التي اتبعها ضد مناوئيه وكنتم منهم ، فهل تبررون نضالكم من اجل هدف كسيح سيقضي على العراق مهما تقولتم من اقاويل ؟ ان مجرد الاستعجال في تقرير مصير العراق على ايديكم أمر مرفوض لأن ما تسعون اليه لا يمت الى المصلحة الوطنية بصلة ابدا . كنت اتمنى على القادة الجدد ان يتريثوا طويلا من اجل الحفاظ على وحدة العراق ، وان لا ينساقوا وراء اجندة لا ادري ان كانوا يناضلون من اجلها ام من اجل اسقاط طاغية وولادة عراق جديد حر متمدن مستنير ..
وأخيرا أقول كلمتي للعراقيين والتاريخ معا !
ان الامر في العراق اليوم يقتضي ارساء مبادئ وطنية لا يساوم عليها الانقساميون والانعزاليون .. ان اي دستور يولد من رحم متعسر الولادة سيغدو كسيحا ، وان الامر يقتضي من كل طيف او عرق او قومية او طائفة او مذهب في العراق .. ان تعترف اولا بالانتماء الحقيقي للعراق ومن لا يريد الانتماء يعلن للملأ ذلك بكل شجاعة واباء وساحترم كل من يعلن حق تقرير مصيره من العراقيين ان استطاع ان يفعل ذلك . ان مساعيكم ستؤذي العراق والعراقيين حتما .. واعتقد بأن الشعب العراقي سيقرر في نهاية المطاف قراره ، وسيقول كلمته في كل مكان .. وان مرر اي مشروع باسمه عليه ، فسوف يناضل من اجل وجوده وابنائه كلهم على ارض واحدة كما يشهد التاريخ بذلك ، ولكن بعد ان يكون قد دفع ثمنا باهضا من حياته ودمائه وكل ثرواته .. فهل تريدونه دستورا يحمل تابوت العراق ام تريدونه عراقا يبنى تجربة حضارية بين الامم ؟؟ اجيبوني حتى ان اختلفتم معي في الذي طرحته من مفاهيم ، فنحن في النهاية ابناء وطن واحد اسمه العراق !
نشرت في ايلاف وصحف اخرى في 20 فبراير / شباط 2005 .
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …