الرئيسية / مؤتمرات / البحث العلمي العربي والمستقبل.. مقترحات في الخوصصة وتطويرالبرامجيات والمؤسسات و الكفاءات استعداداً عربياً نحو فاتحة القرن الحادي والعشرين

البحث العلمي العربي والمستقبل.. مقترحات في الخوصصة وتطويرالبرامجيات والمؤسسات و الكفاءات استعداداً عربياً نحو فاتحة القرن الحادي والعشرين

ماذا يمكننا أن نقول ؟
إن فحص الإشكاليات المعقدة ونقد المضامين الضعيفة الواهية عند العرب، لمن أبرز السبل والأساليب في تنشيط الأدوار لدى القيادات والنخب والفئات ( وسيأخذ ذلك زمناً ليس بالقصير) وصولاً إلى أثمار لقاحاتها لدى الجماهير والعامة، وذلك أسوة بما يحصل اليوم ( وما سيحصل غداً) لدى مجتمعات أخرى تتباين في مستوياتها الذهنية والعلمية في العالم المعاصر، فضلاً عما سيتوالد من أحداث وأفعال وحركات وتيارات واتجاهات، تنضوي جميعاً في إطار التفكير الاستراتيجي والشمولي والمستقبلي والذي يحتاجه العرب قبل غيرهم من الأمم، لماذا؟
لقد اهتم العرب على مدة تاريخي طويل، كما تعلمنا مواريثنا العلمية والفلسفية العربية – الإسلامية، بترتيب العلوم وخصوصياتها والمعرفة العقلية، إلى جانب النقلية منها، فضلاً عن العلوم الفلكية وقضايا التنبؤ والقياس والمنطق والرياضيات، إلخ، في حين بقيت الأكاديميات العربية المعاصرة ضعيفة، واهية الإنتاج، مضطربة الخطوات، فلم يكن لها تأثير واضح على العالم المعاصر بجملة تطوراته المتقدمة.
الرؤية .. المنهج :
ستحدد أهمية ” المشروع” من خلال طرح بعض النقاط الأساسية في المنهج، الرؤيةوالنقد المقارن وصولاً إلى تحديد صيغ عملية تعالج مشاهد حاصلة، لا محالة نظراً لما تطرحه نماذج المستقبلات المتداخلة Interfuturs، وما تعكسه من المفارقات والتعقيدات الواسعة النطاق على ما سيحصل ويكون في حالة عدم إخضاع الموضوع للتطويرات، لقد نجح بعض العلماء في وضع جداول مقارنة لما أفرزته التكنولوجيا المعاصرة من معيطيات مؤثرة حديثاً، كانت لها أخطارها المتلازمة مع حركة التقدم في كل فروع العلوم بحيث توالدت الأزمات أيضاً – في المجتمعات المتقدمة، وتفاقمت فيها الحيرة والقلق، ولكن بدأ ا لعمل على امتصاص الأخطار المقابلة ( الأضداد)، ولعل أبرز عالمين أوضحا ذلك ” الدرس” المقارن هما : ويليس وهارمن (Willys and Harman) في أوراقهما البحثية المشتركة، وما يهمنا منهجياً في هذا الباب الذي نفتح إقفاله عربياً، ونعالجه فلسفياً ونقدياً، هو الإطار النقدي والرؤيوي / المستقبلي لشؤون البحث العلمي العربي، وهو موضوع يجد أن يعد -كما ذكرنا سلفاً – من استراتيجيات التفكير العربي. لقد توقف الاستاذ فيلخت هايم مطولاً عند تطور العلوم الإنسانية (Human Sciences) والعلوم الدقيقة ( Exact Sciences) فوجد اهتماماً متجدداً في العلوم الإنسانية، يعكس أزمة الإنسان المعاصر التي تفيدها هنا مكتسبات علوم الانثربولوجيا والسوسيولوجيا والسايكلوجيا لمعالجة الثقافات وتغطية الفعاليات العامة.
والسؤال المهم : إلى أين تسير العلوم الإنسانية عموماً والاجتماعية خصوصاً ؟ وكم تؤدي منتجاتها من الخدمات الإنسانية المعاصرة؟
إن الإجابة عن ذلك لكه، ستحدد صيغة بحثية ملائمة لتساؤلات جديدة يفرضها علينا واقعنا العربي، ويطالبنا بها مستقبلنا على أيدي أجيالنا القادمة! إن مواضيع سياسية (وليست اجتماعية) حفل بهال العقل العربي على مدى أكثر من مائة سنة ومنذ نهايات القرن التاسع عشر، ومارسها التفكير العربي، وبل ووصل الأمر في خمسينات القرن العشرين إلى أن السياسيات والشعارات والايديولوجيات والخطابات القومية التي طرحت بقوة وعاطفة على الرأي العام العربي، قد أثارت بعنف خيالات الجماهير، وأشعلت فيهم العواطف، وبواسطة تنوعات ووسائل الخطاب السياسي – العربي الذي جاء يبشر بالإصلاحات الاجتماعية ليعالج ويلات الواقع ومآسيه، وقد تحدث باسمه، ووصل السلطة على أكتافه، ولكنه أبى أن يجيب عن أسئلة ملحة فرضها عليه الواقع، بل وعجز عن أداء دوره في تطوير الحياة الاجتماعية، وخاب في رسم علاقات انسانية للمجتمع العربي، وانكفأ عن تحقيق أهداف نبيلة للثقافة العربية.
التفكير في التمايزات : التجديدات
ويمكننا القول من الجانب الآخر، أن الاجتماعيات العربية سواء كانت تربوية أم تعليمية أم بحثية أم تنظيرية، بقيت على مدى يقترب من قرن كامل، تسير وفق مسارات تقليدية كتلك التي سارت عليها الحياة العربية للألفسنة الماضية! وأقول – بصورة أدق- أن بنية الاجتماعيات العربية بأساليبها ووسائلها وعناصرها وتراكيبها، قد اعتمدت في توجهاتها وفلسفتها على المواريث الاجتماعية والتقاليد العامة، وكرست نفسها على التهيب والإعجاب والتفاخر بـ” التراث” وبما صنعه “الأجداد” وبما ” خلفه الآباء” قبل التفكير في التمايز والتجديد أو في التنمية والتحديث وصولاً إلى تنظيم وظائفي وبنائي جديد للحياة العربةي المعتمدة على الإنسانية قبل الذات، وعلى العقل قبل الخيال وعلى الواقع قبل أو المستقبل قبل الماضي، وماذا أيضاً؟
نعم، على التفكير العربي – اليوم – أن تلازمه دوماً أسئلة ملحة حول ما يمكن بحثه في تطوير الاجتماعيات ومستلزماتها الفكرية والثقافية والسكانية والسايكلوجية، أي بمعنى : العمل على تطوير القيم وتحديثها من خلال مسارات النمو الاجتماعي العربي، وبلورة عمليات الاتصال المتزايد مع العالم ضمن أطر الخوصصة العلمية، علماً بأن ثورة الاتصالات – اليوم – قد غدت مباشرة ومنفتحة وسريعة ومرئية بعد أن كان الاتصال مسموعاً ومقروءاً فقط.!
إن بقية المجتمعات الأخرى سواء كانت شرقية أ م غربية، لها تمايزاتها الاجتماعية وتنمياتها الثقافية، وأنها مستفيدة جداً من تنوع التخصصات والخوصصات على مدى خمسين سنة وبالذات: في العشرين سنة الأخيرة، فضلاً عن تأثير منتجات العلوم الاجتماعية التي باستطاعتها استبعاد المفاهيم القديمة من التفكير، واستئصال الرواسب والقيم الخاطئة من ثنايا العقل، ثم غسل الأذهان من أدران منطق القوة العسكرية والنزعة الرأسية / العنصرية. والبدء بتنمية التطلعات الإنسانية الموحدة والشاملة من أجل استمرار النهضوية المعاصرة والمتصاعدة، وتوظيف التطورات التكنولوجية والاقتصادية والاتصالاتية، عملاً من أجل تحويل الأرض كاملة، للمرة الأولى في تاريخ البشرية إلى حضارة اجتماعية متنوعة في إطار العقلانية الموحدة، وبالاعتماد على وسائل اتصالات حديثة جداً كالتي تشهد تطوراتها المعاصرة، أو تلك التي ستتوالد بشكل أكثر تضرراً في القرن القادم، وهكذا يمكننا القول بأن مثل هذا الموضع لا يقدم نتائجه بالصورة المرجوة دون رؤية مستقبلية لمشاهد حاصلة لا محالة، وذلك بناء على أطروحات نموذجية لا بد لها أن تمارس خوصصتها واستقلاليتها وحرياتها ومسؤولياتها، إزاء مختلف المفارقات والمتغايرات ضمن إطار المجتمع الواحد ببيئاته المتنوعه وحلقاته التاريخية المتقادمة، فالمطلوب في هذه الحالة : فحص رواسب الماضي مع تحليل انعكاسات الحاضر، لايجاد حلول سريعة ونافعة للتعقيدات الواسعة النطاق على ما سيحصل ويكون سواء ضمن حالات عدم إخضاع ” الموضوع للتطويرات”، أو ضمن حالات إخضاع الموضوع لمعالجات مبتسرة.!
وعليه، فإن أول ما يحتاجه المجتمع العربي في مؤسساته وأجهزته السياسية والتربوية والثقافية والإدارية هو ما يسمى بـ” المستقبلات البديلة” كمصطلح يدعى بالفرنسية (Futuribles) وهي تتضمن : مجاميع من حوادث وأوضاع وحالات ومفاهيم وأفكار، يمكنها أن تنمو في الحاضر، بعد استئصال كل الأمراض المتوارثة أو المتوطنة في شرائح المجتمع أو المركبات الذهنية لدى الفئات والنخب، نعم، إن المجتمع العربي بحاجة إلى مستقبل بديل، ولكنه لا يتحقق إلا بعد بنائه معرفياً في المجتمع، وسايكلوجيا في النفوس، وبيداغوجيا في الأذهان، وأن أبرز ميدان يحقق الجزء الفاعل من ذلك كله هو الذي تكرسه العلوم الاجتماعية سواء لدى القيادات أو النخب أو الفئات أو الشرائح أو الجماهير.
ثانياً : نقدات وتحليلات للتفكير العربي المعاصر :
الإشكاليات –> التناقضات –> التعقيدات –> الدوامات :
لقد ازدحم المجتمع العربي إبان عقود القرن العشرين، بالمزيد من المشاكل الفكرية والتناقضات الاجتماعية والتعقيدات السياسية والدوامات الايديولوجية، فضلاً عن الاختلاطات الثقافية التي حدت جميعها من تقدم الحياة العربية، وكانت ولا تزال تقيد بشكل عام، عمليات تطوير البحث العلمي العربي، ولقد أنتجت السياسات التربوية والتعليمات والقوانين الجامعية العربية بجملة بنودها وأصنافها، المزيد من المعوقات في دراسة العلوم الاجتماعية بشكل خاص، كما فشلت تجارب عربية عدة في إنتاجية البحث العلمي، ولم تؤد رسالتها بالشكل المطلوب، ولم تكتف بما زادته من مشاكل واضطرابات، بل أنها قيدت التفكير العربي بجملة من القيود القانونية والتقليدية سواء تحت غطاء الحفاظ على الذات، أو حجة احتدام القيم والموروثات، أو ذريعة معارضة السلطات، إلخ، فماذا أنتج ذلك؟
لقد تبلورت على امتداد خمسين سنة، معضلات جسيمة استمرت ترافق التجارب المجمعية والأكاديمية والبحثية العربية في أكثر من بلد عربي أو بيئة عربية، وفي حين تبلورت تجارب علمية وبحثية على صعيد العلوم الاجتماعية لدى شعوب أخرى، تقوقعت منتجات العلوم الاجتماعية العربية كثيراً، ولعل من ابرز المعوقات الخطيرة التي أثرت على مسيرة البحوث الاجتماعية العربية القيود الفكرية والسياسية والسلطوية التي كان لها أكبر الآثار السلبية على المؤسسات البحثية الرسمية العربية، وعلى طبيعة الكفاءات العربية التي اكتسبت خبراتها وتجاربها وأفكارها ومناهجها وفلسفاتها في جامعات متطورة، لماذا؟ لقد كانت منذ الحرب العالمية الثانية ولم تزل تعمل في ظروف صعبة للغاية، كما أنها تقيدت تحت وطأة قوانين رسمية وتعليمات شبه رسمية، دون أي تطوير على مستوى التفكير، أو على مستوى التحرر العلمي، أو على مستوى الخوصصة البحثية، ناهيكم عن فقدان المؤسسات الرسمية، لأية برامجيات وخطط تطورية للحياة البحثية والمنهاجية، مما أدى إلى معاناة البحث العلمي العربي والباحثين والعلماء العرب كثيراً من مصاعب شتى وضغوطات لا حصر لها، ونتيجة لهذا الخلل والاضطرات، وفرزاً لتلك القيود الصعبة، حدثت جملة من الأزمات العربية الحادة، يمكننا إدراج بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
1- هجرة واسعة للعقول العربية من بلدانها ومواطنها العربي إلى دول مختلفة وخصوصاً إلى أوروبا وأمريكا للعمل في جامعاتها ومعاهدها وأقسامها ومدارسها، وقد اشتهر عدد بارز منهم، خصوصاً في شؤون العرب وتواريخهم ومجتمعهم، بل وبرز آخرون منهم في علوم شتى وكان لهم دورهم العلمي البارز وغدت لهم مكانتهم الدولية، وخصوصاً من المصريين واللبنانيين والسوريين والعراقيين والجزائريين (باستثناء الفلسطينيين الذي حملتهم معاناة قضيتهم العادلة نحو الشتات)، وعليه ، فقد خسر المجتمع العربي في القرن العشرين نخبة رائعة من الأساتذة والعلماء والمفكرين والنقاد والمؤرخين اللامعين.
2- الانكفاء على الذات القطرية في البحث العلمي (الرسمي) العربي دون أية لقاءات أكاديمية أو بحثية، وزيارات علمية مشتركة، وتبادلات عربية للخبرات، ممارسات اجتماعية قومية حقيقية من خلال المؤتمرات والندوات ذات الصبغة العلمية الحقيقة، ولعل ما جرى من ذلك كله في الإطار الرسمي أو حتى النقابي العربي، لم يخدم المعرفة الحقيقية بتاتاً، مقارنة بما حققته تلك الممارسات العلمية العربية التي اضطلعت بتنظيمها المراكز العلمية العربية خاصة والمستقلة.
3- لقد أنتجت المعرفة الرسمية العربية تشوهات واسعة في التفكير العربي، وخلقت ذهنيات مركبة بعيدة عن روح العلمي والمعرفة الحقيقية، فلقد اضطرت القيم العلمية لدى العرب الذين مارسوا عملياتهم البحثية ضمن آليات ووسائل ومناهج مزدوجة، مما أدى إلى أزمة تناقضات حادة لدى الباحثين العرب الذين تباينوا عن غيرهم من العلماء الحقيقيين والمؤمنين بوحدة العلم وشموليته وحقيقته المدنية وخدماته الاجتماعية وأهدافه الحضارية في زحمة من الازدواجيات التي نراها تطغى على العقل العربي المنفصم على نفسه بين الموضوع والذات، بين السياسة والوطنية، بين العلم والأدب، بين الدين والدنيا، بين الإيديولوجيا والمعرفة، بين الثقافة والتقاليد، بين القديم والجديد، بين التراث والمعاصرة، إلخ من الثنائيات المتضاربة التي أضرت كثيراً بمنتجات البحث العلمي العربي في الاجتماعيات.
4- لم تحظ المعرفة العربية الرسمية بصداها وذيوعها لدى المدارس العلمية في العالم وخصوصاً منه المتقدم، بفعل انكفائها ليس على أساليبها التقليدية الهشة فحسب، بل على ما تعتمده من المراجع الذاتية، دون أي حوار حقيقي مع المراجع الأخرى في المواضيع نفسها، ونقد لأصولها، وتقييم حقيقي لمنتجاتها، أن عاملين أساسيين كانا وراء اغتراب خارجي وعزوف الآخرين في التعامل مع منتجات المعرفة الرسمية العربية، يكمن أولهما في بقاء العلماء والباحثين العرب أسرى لغتهم القومية فقط بالاعتماد على ما أنتجوه هم أنفسهم، ويعزي ثانيهما إلى اعتماد الكم لا النوع في إنتاجية البحث ( العلمي ) الرسمي العربي، مما أفقده المزايا الحقيقية التي كان لا بد له أن يتمتع بها.
5- الاغتراب الداخلي لمعرفة الرسمية العربية سواء من لدن القيادات السياسية أو النخب الفكرية، أو الفئات المثقفة، أي بمعنى آخر إن ما أنتجه العلماء العرب على مدى خمسين سنة من المنتجات البحثية في علوم اجتماعية عدة، كالتاريخ والفلسفة والاجتماع والآداب والاقتصاد واللغات والسياسة والتربية والفكر المقارن، إلخ، لم يكن له أي شأن يذكر في تطوير المجتمع العربي مقارنة بمجتمعات أخرى حيث كان لمثل تلك العلوم دورها الحقيقي في عمليات التنمية والتحديث والتغيير على مستوى التفكير والخطط والعلاقات والبرامج والمناهج والثقافة، لقد انتج الباحثون الرسميون العرب مئات الكتب وآلاف الأبحاث العلمية التي لم تلتفت إليها الدواخل العربية كثيراً، ولولا استنجاد بعض العلماء العرب بطلبتهم كي يتعلموا على بعض كتبهم المنهجية ( Text Books)، لبقيت منتجاتهم في منأى عن الاهتمام الحقيقي، والمعانة من ا لاغتراب الداخلي، مقارنة بما أنتجته دور النشر العربي الخاصة من كتب، أو بعض المراكز البحثية العربية المستقلة سواء في ما أنتجه من أبحاث ودراسات أو مجلات وكتب.!
6- إن الخاسرين في العالم العربي على مستوى البحث العلمي العربي في ( الاجتماعيات ) يبرزون بشكل واضح اليوم، ونحن عند نهايات القرن العشرين لدى معظم الجامعات والمجامع العلمية العربية سواء كانت في دول غنية أم فقيرة، أو كانت في دول عريقة أم جديدة، ونتيجة للأوضاع العامة العربية المشتركة سواء كانت في المشرق أو المغرب العربيين، وأشير في هذا الصدد إلى نقاط ضعف عدة يتمثل أبرزها في غياب الخوصصة في إنتاج الدراسات والأبحاث والكتب الجذابة والحرة، فضلاً عن الاعتماد على صيغ تقليدية وقيود شائكة، ناهيكم عن ضعوطات سياسية وسلطوية وسايكلوجية وتراثية واجتماعية! وفي هذا الشأن يمكننا أن نشي إلى ظاهرة عام لا يمثلها العرب لوحدهم بقدر ما يزاولها العالم الإسلامي بأسره، استناداً إلى واقع صعب ممثلاً بضغوطات أعداد هائلة من طلبة الجامعات، ونقص الموارد والإنفاقات، ومحدودية الإمكانات البحثية، ونقص التخصصات العلمية وازدراء بعض الحكومات العربية بقوى التغيير ! كيف؟
7- إن دولاً وحكومات ووزارات ومنظومات وقوانين وتعليمات ومؤسسات عربية وإسلامية، لم تزل حتى يومنا هذا، تجد صعوبة في التعامل مع ما أفرزه القرن التاسع عشر من مبادئ وقيم وفلسفات وأفكار ورؤى ! فكيف يمكنها أن تتفاعل اليوم مع ما أنتجه القرن العشرون من معطيات وقيم وبرامج ومناهج ومحددات وطاقات وقنوات ومنتجات ومهارات وأفكار وتجارب وحريات وفلسفات وثقافات ومدنيات، إلخ. لقد أثرت المواقف السياسية والقيمية والايديولوجية والعقائدية والمواريثية للحكومات وبعض القيادات والدول على الرأي العام وعلى مساويات الجماهير ومواقفها إزاء ( الآخر)، مهما كانت طبيعة هذا ( الآخر).
8- وعليه فإن حالة من الخوف بل من الرعب تسيطر على عقول العرب وأنفس المسلمين أزاء التجديدات، وهناك حالة الانكماش السوسيولوجي – الجماعي والتقوقع السايكلوجي – الفردي إزاء الغرب في قيمه وافكاره ومنطلقاته وايديولوجياته ومناهجه وأساليبه، وليس في معطياته وتكنلوجياته وصناعاته واختراعاته ومنتجاته المادية التي يسهل استلابها واستخدامها، لقد تبلورت هذه المعادلة الصعبة نتيجة لفقدان الثقة بين الطرفين العرب والمسلمون من جهة والأوروبيون الغربيون من جهة أخرى، وهي حالة لم تشهدها شعوب أخرى، ولم يألفها الدور الحضاري المتميز في القرون الماضية للعرب المسلمين الذين كانوا أكثر انفتاحاً على العالمين ( والغربيين منها ). ولماذا؟
9- لأنهم كانوا يؤمنون بمبدأ التمايز بين السلم والحرب، وبين المبادئ والمصالح، ويبن الخير والشر، وبين الدين والدنيا، وبين الشرق والغرب، وبين الروحي والمادي، وبين العلم والسياسة.. إلخ. لقد حدث ذلك كله قبل أن :
I- تهتز صورة المجتمع العربي – الإسلامي جزاء مشكلات التعصب وبأساليب التطرف.
II- يحل عصر الاستعمار بمآسيه ونتائجه المؤلمة، وهو العصر الذي خلط الأوراق في التفكير والأذهان بين الساسة والعلماء وبين النخب والجماهير.
III- تترسخ تفاوتات القدرات النامية لدى شعوب أخرى إزاء الاستجابة لتحديات المستقبل، ففي حين كثر الرابحون في المجتمع الياباني، كثر الخاسرون جداً في المجتمع العربي.
ثالثاً : مقترحات وآراء استعداداً للقرن الحادي والعشرين :
دعوة من أجل بناء خوصصة علمية عربية :
لا بد لي أن أقدم جملة من المقترحات والآراء التي أجدها ذات فاعلية، في إطار التبدلات السريعة والتطورات الخصبة، التي طرأت في السنوات الأخيرة على العلوم الاجتماعية التي وظفت لها عدة علوم مساعدة وتقنيات ومناهج وأساليب وبرامج متطورة في البحث العلمي، وخصوصاً في المجال المعرفي ( L’episteme) الموحد، ولما كان اهتمام البحث العلمي في القرن القادم سيرقى إلى إغناء ركائز أساسية ثلاث هي : البرامجيات والمؤسسات والكفاءات، فلا بد للمجتمع العربي من ملاحقة ذلك سعياً منه إلى تجديدها من أجل ملاحقة العالم المتقدم، فلا بد للمجتمع العربي بهذه الركائز الثلاث ضرورية لإغناء عمليات التطوير في الخوصصة العلمية – البحثية العربية، فضلاً عن اخضاعها جميعاً إلى قاعدة اتصالات ومعلومات متطورة ومستفيدة من الإمكانات الاقتصادية العربية التي يتمتع بها العرب اليوم، كيف؟
أ- البرامجيات : لابد من وضع الخطط والبرامج والمناهج بشكل مستقل تماماً عن السلطات الحكومية وعن التعليمات التي تفرضها الوزارات، ولا يمكن وضع برامج مستقبلية، وخطط رؤيوية في تطوير البحث العلمي العربي دون دراسات مستفيضة للواقع العربي المعاش في بيئاته المتنوعة، ذلك ” الواقع” الذي يتسم بالعموميات والرسميات والأصوليات والالتزامات الحكومية، والتقاليد الاجتماعية، والمواريث الماضوية، والتعليمات والتقييدات والتي حدت جميعها من حرية الباحثين وقيدت انطلاقة المعرفة العربية، وربما لم يكن الخلل كبيراً في تلك المحددات والتعليمات الرسمية بقدر ما كان يتأتى من خلال تطبيقاتها على أيدي أناس لا يتمتعون بأي نزعة علمية أو تطلعات معرفية، فكانوا بمثابة حجر عثرة أمام الآخرين من المبدعين والعلماء الحقيقيين. وقد يتأتى الخلل أيضاً من جراء سوء استخدام الأجهزة البيروقراطية في الإدارات الأكاديمية !
إن البحث العلمي العربي بحاجة ماسة إلى تحريره من القيود التي فرضتها عليه قوانين الدولة العربية، والتي كانت ممارساتها وتطبيقاتها تحد من أنشطته وفعالياته، إن القواعد المنهجية والنقدية القديمة التي أرساها – رغم وضوحها – الآباء في فترة ما بين الحربين العظميين، والتي استمرت لما بعد الحرب الثانية، وعلى مدى خمسين سنة حتى يومنا هذا، لا تنطبق البتة على الحالات المعاصرة التي تشهدها المجتمعات المتقدمة، فكيف ستنطبق الرؤى المستقبلية التي تعلمنا قوة سيناريوهاتها، عن مشاهد ثورة معرفية عارمة في المجتمعات العلمية- غربية كانت أم شرقية – ، ثورة برامجية تتحدى منابع الأصول ، ونظام القيم، وبوادر نظام اجتماعي وانساني له متغيراته الواسعة على مستوى البيداغوجية والمعيشة والتعليم والمرأة والسياحة والاتصالات والعلاقات العامة والمستويات الفكرية والمنتجات الثقافية، فضلاً عن نظام معرفي يختلف عن كل ما عرفناه من المعرفة، ويمزق كل ما صادفناه من الحجب والأخيلة والشعارات والايديولوجيات، ويخرق كل ما ألفناه من القيم والعادات والأعراف والقوانين، فالعلوم المستقلبلية ستتمتع بخصائص منهاجية وبرامجية، لا يمكن تصور نتائجها وإفرازاتها على التكوينات الفكرية والاجتماعية.
إن العرب بحاجة إلى برامجيات عدة في العلوم الاجتماعية تطال جميع بيئات الأمة العربية وقسماتها التي تعيش اليوم عند نهايات القرن العشرين عند مفترق طرق صعب، وتختص المتطلبات المستقبلية بـ” البيئة العربية” التي تتضمن الجوانب الجغرافية والبيئية، والتكنولوجية والجوانب السكانية والاقتصادية، والتفاعلات الاجتماعية، والتنميات السياسية باتجاه تحرير الإنسان العربي من كل الرواسب التاريخية، والقيود الاجتماعية، والسلطويات السياسية والمواريثية. ناهيكم عن برامج حياة المجتمع من خلال النخب والفئات والجماعات، على أن تترافق تلك البرمجة مع تطوير الآليات والمنهجيات المستخدمة في المؤسسات والأجهزة والهيئات والمنظمات والاتحادات والمجامع والأقسام والدوائر. إن استخدامات مستقبلية ومتحررة كهذه، لا يمكن لها أن تحل جميع الإشكاليات إلا من قبل القيادات، صاحبة القرار والتي تتحكم في الاتجاهات والقيم والممارسات والتطبيقات
إن تركيزاً أساسياً لمثل هذا كله، لا تنجح عمليات الفعالة البتة دون دراسة ” الاجتماعيات العربية” كافة والمعرفة بمحيطاتها أجمع لبناء تراكيب حديثة في الحياة العربية، والتي تعد بدائل حقيقية وصادقة ومتباينة عن كل ما حفلت به الحياة العربية في القرن العشرين، إنها حقاً المستقبلات البديلة التي لا بد من تكريس دراسات جدية حول فرضياتها وتطبيقاتها معاً، بحيث تحلل مدخلاتها ومخرجاتها على الواقع، ومعرفة مستويات التغيير لاستكشاف قوة التحولات التي ستقف عليها الأجيال القادمة، من خلال تجاربها مقارنة بتجارب غيرها تحسباً للتقليل من العثرات والكبوات الداخلية، ومجابهة التحديات المضادة، والتي هي داخلية قبل أن تكون خارجية!
ولعل من أبرز ما ينفع في مواجهة تلك التحديات هي منتجات العلوم الاجتماعية العربية التي باستطاعتها، إشاعة ثقافة عامة متكاملة ورصينة في أي مجتمع، إنها علوم بحاجة إلى أن تطلق حريات العمل بها من قبل أصحابها، وأنها علوم بحاجة إلى خوصصة عربية فعالة دون أية قيود رسمية، أو جامعية أو مجمعية أو حكومية أو سلطوية أو أمنية، وأنها علوم بحاجة إلى منهجيات وبرامجيات متطورة، تساعد أصحابها في تعالمهم مع لغة وروح ومنتجات العصر، وأنها علوم بحاجة إلى تطوير برامجي كبير كونها من الحاجات الحقيقية في المجتمع العربي الذي تفاقمت فيه كثيراً المشاكل الاجتماعية، والمعضلات الثقافية، والأزمات السياسية، والكبوات الايديولوجية، وأنها علوم لا بد أن تغني نفسها بالمناهج الحديثة، وأن تخطط لبناء مؤسسات جديدة وخاصة لكي تحل بديلة عن المنظومات الرسمية القديمة، وأنها علوم لا بد أن يتوفر فيها عنصر المرونة والحيوية في المناهج والبرامج لكي يتمكن الإنسان العربي معها أن يتعايش مع التغيرات الجذرية السريعة في العالم.
2- المؤسسات : وأقصد بها تلك الدوائر والمراكز والأقسام العلمية والبحثية التي لا يمكن لأي مجتمع يطمح إلى التقدم والتغيير والتحديث دون أن يعتمد عليها، ولقد غدت أغلب المؤسسات العلمية والبحثية ( الرسمية ) غير ذات فائدة تذكر، خصوصاً إذا علمنا – من خلال التجربة المرة – بانتشار عدة مراكز ومجامع بحثية رسمية على الساحة العربية، في حين نجحت مراكز بحوث ودراسات بحثية عربية مستقلة، نجاحاً منقطع النظير، وذلك لأنها تتمتع بالاستقلالية والحرية والإرادة المنفصلة عن سياسات الحكومات وتعليمات الوزارات ! ويأتي في مقدمة هذه المراكز والمنتديات والمؤسسات المستقلة:
1- مركز دراسات الوحدة العربية : فيما أنجزه من دراسات وكتب وبحوث ومشاريع استشرافية للمستقبل العربي، وأسهم فيه نخبة من العلماء والمفكرين العرب المشهورين، ومن خلال مجلته الرصينة ” المستقبل العربي” ناهيكم عما نظمه على مدى ربع قرن من مؤتمرات وندوات وحلقات دراسية وملتقيات وبفضل مؤسسه ومديره العام الأستاذ الدكتور خير الدين حسيب، في بيروت رغم كل ما صادقه ” المركز” من تحديات وأحداث عاصفة أبان الثمانينات.
2- مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ( متبعم ): كمؤسسة علمية عربية راقية، ولدت قبل أكثر من ثمانية أعوام على يد مؤسسها العالم المؤرخ العربي الأستاذ الدكتور عبد الجليل التميمي في زغوان بتونس، وقد نجح الرجل من خلال مجهوداته الذاتية، أن يؤسس أولاً مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية والتوثيق والمعلومات ( سيرمدي ) وتفوق بعقد وتنظيم عشرات المؤتمرات العالمية في التاريخ والمجتمع والوثائق والمكتبات والمعلومات والبحث العلمي، وأصدر العشرات من الكتب وأعمال المؤتمرات وبلغات أربع: العربية والانكليزية والفرنسية والإسبانية، وأصدر أشهر المجلات المتخصصة العلمية الحولية الرائدة اليوم، المجلة التاريخية المغاربية منذ اثنتين وعشرين سنة والمجلة التاريخية العربية للدراسات العثمانية منذ ست سنوات.
3- مركز الإنماء القومي : في إصدارات عدة له حول ” المستقبليات” وخصوصاً مجلته المعروفة الفكر العربي المعاصر، والكتب التي نشرها، والبحوث التي أذاعها وذلك بمشاركة أسماء عربية معروفة.
4- منتدى العالم الثالث : كجمعية دولية يقف على رأسها أمين عام المنتدى المفكر المعروف الأستاذ الدكتور سمير أمين في داكار بالسينغال ، ويضم المنتدى حوالي ألف مثقف من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويهدف إلى تحفيز النقاش، وإنتاج تحليلات نقدية غايتها تطوير تنمية العالم الثالث، وللمنتدى برامجه ومشاريعه المستقبلية والاستراتيجية الرائدة.
5- وهناك مراكز علمية وجمعيات عربية مستقلة عديدة في أماكن محدودة من العالم العربي، فضلاً عن العشرات من دور النشر ( وخصوصاً ببيروت في لبنان)، كان لها دورها الكبير والاستقلالي في نشر المعرفة العربية وتطوير الثقافة العربية واللغوية والقاموسية والأدبية والسياسية، مثل : دار العلم للملايين، ومؤسسة الأبحاث العربية، ودار التنوير والآداب وغيرها.
إن أهم ما يستوجب التفكير فيه، والتخطيط له، والعمل من أجله، هو تحرير المؤسسات العلمية – العربية من قيود السلطات الحكومية في عدة دول لها ثقلها ووزنها عربياً، وإطلاق إرادتها المستقلة في رسم المعالم الحقيقية للاجتماعيات العربية، وهو ما يعد من أبرز العوامل الدافعة نحو التحديث والتقدم العربيين، إن تيبساً وجفافاً قد لحق بمؤسسات علمية عربية معروفة، كان لها دورها البارز والحقيقي عند نشأتها، وهي تعاني اليوم من مشاكل لا حصر لها نتيجة المداخلات الرسمية والهيمنات السياسية والسلطوية.
إن المؤسسات (العلمية) الرسمية العربية ( الجامعية والمجمعية والنقابية )- في مجملها – غير مستعدة أبداً للسير نحو القرن الحادي والعشرين، إذ أن ثمة أعباء تحملها على كواهلها، مما يجعل انطلاقها صعباً للغاية، وعلى الرغم من أن بعضها آخذ في النمو والتوسع نظراً لما تكيفت له من آليات وخدمات وبنايات، فإنه ضعيف جداً في عناصره وكفاءاته ومنتجاته وكوادره!! وأن ثمة مؤسسات ( علمية عربية ) أخرى تتغلب عليها الفوضى ويستشري فيها الارتباك، وأخرى تصطبغ بصبغات دينية أو مذهبية أو ايديولوجية أو أجنبية، مما لايدع مجالاً للاهتمام المؤسساتي الفعال بالمعرفة الحقيقية للاجتماعيات العربية، ناهيكم عن ضعفها إزاء التكيف ضد التحديات الراهنة والقادمة، والتي لا تنفك عن تأثيراتها الخطيرة على المجتمع العربي.!
3- الكفاءات : لابد لنا أن ننظر بعين الإعجاب إلى موضوع نجاح الكفاءات المعرفية في مختلف الآداب والعلوم والفنون والذي حققته اليابان وغيرها في هذا المجال، وإن تجربة كهذه تمارسها اليوم عدة دول نامية لأسباب واضحة، ذلك أنه لا يمكن ألبتة اجتياز القرن العشرين نحو المستقبل، دون كفاءات جديرة تمتلك رصيدها الحيوي من الأساليب والمناهج والخبرات والثقافات التي تتمكن من تحقيق المزيد من التباينات عما كان عليه الوضع “Statu ” في القرن العشرين! ولكن؟
إن مشكلة الكفاءات العربية تكمن في أنها ، نفسها ، غير مجددة لذاتها بل بقيت – في أغلبها الأعم- تقليدية المضامين، وغير حرة في التعبير الحقيقي عن الرواسب التاريخية، أو التناقضات الاجتماعية، أو المعضلات السياسية، إلخ. وكلها بحاجة إلى معالجات جديدة، تتبناها كفاءات متطورة في تفكيرها النقدي، واستشرافها المستقبلي بعد رصد العوائق الضارة، والتعمق الذاتي والموضوعي والمنهجي في أعماق مشكلاتنا الداخلية العربية. وهذا الأمر لا يتم إلا عند ذوي التخصصات التي ترسخت عندهم النزعة العلمية الحقيقية وتجذر لديهم التفكير المدني الخالص. إن مسألة تطوير الكفاءات حاجة ملحة لجميع النخب العلمية والمفكرة والمثقفة العربية والتي لا يمكنها التفكير إلا بعد التشبع بالاجتماعيات العربية، ولا يمكنها العمل إلا في ظل خوصصة علمية صرفة، تترك المجال المعرفي فسيحاً لتشجيع المبادرة، وخلق الابتكارات، وتنمية الإبداعات من أجل إغناء المشروع النهضوي العربي المعاصر، إن التفكير اللازم للتحرر من التخلف الذي يعشعش ف العقل العربي المعاصر، لا بد أن يسحب ( الكفاءات العربية ) من اغترابها الداخلي في الماضوية – التقليدية ويطلقها حرة نحو الرؤيوية – المستقبلية، وأن لا تكتفي المعرفة العربية بالوقوف عند التطلعات أو توريد الأماني والتعجبات لما لدى الأمم المتقدمة، أو صياغة الخطابات العصماء والشعارات الجوفاء، بل يتطلب الأمر إيجاد صيغ نقدية صارمة للتعامل مع تجارب الآخرين الذاتية منها والموضوعية، كما ويتوجب على الكفاءات العربية أن تتوفر لديها ثقافة الرؤية بعواقب الأمور مقارنة بما كان ويكون في الدواخل أولاً، ومقارنة بما كان ويكون لدى الآخرين ثانياً.
وأخيراً، أقول بأننا بحاجة إلى كفاءات تدرك فعلاً معنى فهم الذات، والتأهل الحقيقي علمياً ولغوياً وثقافياً دون أي وازع آخر من أجل العمل في إطار الخوصصة المنشودة، لتعزيز التغييرات الجديدة بما ينسجم وحياتنا الاجتماعية ونزعتنا العربية، وتكويننا التاريخي، حتى يمكن تحقيق التوازن المنشود، والوقوف إلى جانب الشعوب الأخرى عند أبواب القرن الحادي والعشرين.
استنتاجات مختزلة :
واخيرا ، لابد من التوقف عند فقرة قلتها في واحد من كتبي الجديدة ، واعتقد متواضعا انها تجسد طموحنا المستقبلي من اجل رفعة العرب والتسامي بكل ابناء العالم الاسلامي ، اذ أقول متسائلا وأجيب : ” فهل يمكن بعد كل هذا وذاك ان يتبلور أي مشروع حضاري عربي اسلامي جديد يمكنه التلاؤم مع العولمة الجديدة ومدياتها الكونية السريعة ؟؟ ولكن كيف ؟ يتم ذلك حقيقة ، بخلق منظومات تربوية حديثة ، وتشريع قوانين معاصرة ، وتنمية تفكير نقدي عملي براغماتي حر ، وخلق مشروعات لكتلويات اقتصادية متطورة في استثمار الموارد وتطوير الانتاج ، ثم تعزيز التضامن العربي باساليب حضارية وعملية بالغاء الجمارك وفتح الحدود ، وتحديث ذهنية منفتحة في التعامل مع الذات والاخر ، وتطوير اعلاميات واسعة ، وبناء قواعد معلوماتية عربية واسلامية عولمية ، وابداع خطط منهجية معرفية اكاديمية لتطوير المؤهلات داخليا ، واستخدام اليات سياسية حضارية في بناء المؤسسات الدستورية واحياء مناخ الديمقراطية والتعددية والشفافية واحترام الاقليات ، والقوميات وتجديد الحياة الاجتماعية في المدن والقصبات والارياف والبوادي ، واحترام الزمن والكفاءات والابداعات ، وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة للانسان والمجتمع .. مع الحفاظ على البيئة والصحة .. الخ أي باختصار : البدء باستراتيجية تفكير مستقبلية يمكنها ان تواجه العولمة بخطوات حضارية وعقلانية متطورة يمكنها ان تجعل من العرب ومعهم بقية شعوب العالم الاسلامي على قدر من المسؤولية والمشاركة والتعايش والتفاعل في بناء التاريخ وتطور المستقبل ” .
ان هذا كله ، هو بمثابة محاولة متواضعة لرفد مشروع عربي عملي لما يمكن عمله وتأسيسه عربيا من اجل ان تكون للعرب خصوصا ومعهم شعوب العالم الاسلامي عموما ادوارهم التاريخية الفاعلة في القرن الحادي والعشرين . وبرغم ازدياد تشاؤم القلة على تفاؤل الكثرة ، فلابد ان ننبه الى اخطار تحديات غاية في الاهمية .. كما لابد من ان نجانس بين الحالات ونشدد على الاهم من الامور ، ولا نتكتم على ما هو ضار وفاسد اذ لابد من تأسيس الناقد الحاذق لكل ما يجده من السوالب والنواقص في حياتنا العربية .. وهو يتطلع الى ان تكون الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الحادي والعشرين ارقى بكثير من اجيال القرن العشرين .
المجايلة التاريخية : تحقيب لابد من الانتفاع به
لعل أبرز ما يلفت النظر في هذا ” المنهج ” محاولة مؤلفه فصل حياة التكوين في المجايلة التاريخية لثقافتنا العربية ومعرفتنا الإسلامية بين الأربعين من الأجيال التي عاشت بين سنتي 599 م و 1799م ، كونه رآها جامعة من السلاسل العنقودية وأشجار العواصم الثقافية التي تميزت بها حياة العرب والمسلمين على امتداد العصور الأربعة الأولى ( = 1200 سنة ) ، ولكنه يفصل الأجيال اللاحقة في تكويننا الحديث إبان العصر التاريخي الذي نعيش فيه ونعاصره اليوم نحن أبناء الأجيال الحديثة .. وهو العصر الذي يعّمر 300 سنة أيضا ضمن مسمّيات متعددة كالنهضة والتحديث ، فيرى بأن سقفه الزمني بين سنة 1799م وبين سنة 2099م ؛ وان ثقافتنا وتكويننا في العصر الحديث قد اختلفا في مدياتهما وعناصرهما عما حفلت به تكوينات تاريخنا الطويل المؤلف من أربعين جيلا حتى سنة 1799م . ومنذ هذه النقطة التاريخية التي تعد مفصلا في المجايلة والتحقيب ، كانت هناك سبعة أجيال على امتداد مائتي سنة للمرحلة 1799ـ 1999م (= 200 سنة ) ! وان الجيل الحالي الذي نعايشه اليوم هو الجيل السابع والأربعون من حياة المجايلة التاريخية الكاملة والحافلة ، ولكنه الجيل السابع في إطار الوحدة التاريخية لحياة العصر الحديث ، وستتلونا في القرن الحادي والعشرين ثلاثة أجيال ، فالجيل الذي يتكون الان سيبدأ فعله في الانتاج بين 2009- 2039م ، وسيتلوه جيل آخر سيشغل ميادين الحياة العربية بين 2039-2069م ، وسيختتم حياة العصر الخامس الجيل الخمسون الذي سيأخذ فرصته في الحياة التاريخية للفترة 2069-2099م ، وسيقفل به القرن الحادي والعشرين . ويمكن ان نتصور من خلال هذا المنهج في التحقيب جملة من الرؤى والتنبؤات عما سيحدث في القرن الحادي والعشرين من خلال سلسلة ثلاثة اجيال عربية قادمة !
هنا لابد من المطالبة بتوظيف الاساليب الجدولية والحسابات الإحصائية والقياسات الزمنية الثابتة ، وأن نحدد المتغيرات في حركة المجتمع وتطوره او تخلفه ، مستفيدين من المنهجية البنيوية والقياسات الكمية والإحصائية في بناء فلسفة عربية جديدة .. والتي لا أدري كيف ستفرض نفسها في الميدان العربي الثقافي والأكاديمي اليوم ، وعند أبناء الجيل الجديد الذي يتربى اليوم عند فاتحة القرن الحادي والعشرين – مع الاسف – على مناهج وتقاليد ربما تخالف الى حد كبير الرؤية العلمية والوظائف النقدية في المناهج المستخدمة وتطلعاتنا إلى التاريخ والمستقبل بشكل عام ، والى الحياة العلمية والفلسفية بشكل خاص .. وقد ولدت سلفا عند العرب وربما تولد اليوم في عصر عربي متخلف وبالذات في السنوات الاولى من القرن الحادي والعشرين جملة من الافكار الرصينة التي لم يلتفت اليها أحد ، ولكنها إشارات ضوئية ستلتفت إليه الأجيال القادمة حتما عندنا في المستقبل ..
تعاقب سلاسل الاجيال : العصر الحديث
نحن الان في الجيل السابع والاربعين 1979ـ 2009 م ، وستتلونا ثلاثة أجيال حتى عام 2099 م حتى يكتمل العصر الخامس الذي بدأ عام 1799م بالجيل الحادي والاربعين وهو جيل التأسيس النهضوي.. ثم تبعته حتى جيلنا الحالي الذي بدأ عام 1979 أي على مدى 220 سنة ستة اجيال هي : جيل التنظيمات والاصلاحات وجيل الدستور وجيل الاستنارة الفكرية وجيل التكوينات الوطنية وجيل الثورة القومية وجيلنا اليوم هو الذي يبحث عن ذاته واستقلاله التاريخي في اخطر مخاض بدأ عام 1979 وسينتهي عام 2009 ، كي تبدأ حياة ثلاثة اجيال اخرى في القرن الحادي والعشرين على امتداد تسعين سنة قادمة ستقفل نفسها وستقفل تاريخ عصر كامل عام 2099 ؛ وقد أعطيت بعض الاستنتاجات والتنبؤات لما ستؤول اليه الاحوال حسب الرؤيوية التاريخية .. وستجد تفصيلات اجيالنا الحديثة والقادمة في كتاب المجايلة التاريخية .
لقد افصحت عن بعض النتائج في عدد من الدراسات والبحوث والكتابات قبل نشر كتابي ” المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي ” ، فبدت للبعض من المتابعين انها مجرد تخمينات وفرضيات .. ولكن دع الحياة ماضية في طريقها، وعند ذاك ستطمئن الاجيال القادمة الى ان جملة من هذه ” الافكار” ليست مجرد تخمينات وفرضيات ، بل انها استنتاجات معرفية من خلال تطبيقات وحسابات وقياسات رقمية في نظرية فلسفة التكوين التاريخي . ربما ، اقول بان الاجيال الثلاثة القادمة في القرن القادم ستكون افضل من الاجيال الثلاثة التي اطّرت حياة القرن العشرين ، اذ اعتقد وربما كنت مخطئا بأن الجيل الخمسين في حياتنا التاريخية عند نهاية القرن الحادي والعشرين سيكون افضل من الذي سبقه .. اذ ستفرض عليه الحياة والعالم والظروف اجمع بأن يعتمد على نفسه في الانتاج والعمل والاعتماد على النفس وتقديس الزمن ، وستدين الاجيال القادمة الاباء والاجداد لما ضيعوه من الزمن والموارد والحياة على الاستهلاكيات والحروب والانقسامات ! ولابد ان تحدث تغييرات واسعة في الذهنية والتفكير العربيين وحتى على امتداد عالمنا الاسلامي ازاء متغيرات العصر ! صحيح ان رعبا يتملكني بعض الاحيان لما ستؤول اليه الامور سياسيا في عالمينا العربي والاسلامي ، نتيجة حدة التناقضات والاستلابات التي عاشتها اجيالنا الثلاثة في القرن العشرين وبواقعنا المعاصر وتفكيرنا الذي تستلبه بعض المواريث البالية والاحتقانات السالبة ازاء التحديات القوية والضاغطة التي تواجهنا على ارض الواقع .. ولكنني مؤمن بأن ارادة الخير ستنتصر من خلال المعرفة في نهاية الامر ، ليس في الثلاثين سنة القادمة بل عند نهاية القرن القادم !
هل هو تغير أم تحول أم تطور .. ؟؟ سّمه ما شئت ، ولكن الاجيال القادمة ستذكر ذلك ان جدّ جدها والتي ستدرك ان المعرفة والمنهج والتخطيط والتمدن والمؤسسات والانتاج والتكتل والحوار والتعددية والعلم .. هي التي ستنفعها في بناء المستقبل واستقلال الذات بعيدا عما يقوله المؤدلجون والخياليون والشعراء والنصيون والتقليديون والمتزمتون .. اننا سننهي حضارة الغرب وسنكون عمالقة في السنوات القادمة !! بل استطيع القول ان العرب والمسلمين أجمعين باستطاعتهم ان يرسموا اولى خطواتهم بعد 2099م أي بعد قرن من الزمن وقد صحوا فعلا على واقعهم بعد نضوب افكارهم وسوالبهم وتواكلياتهم ومستهلكاتهم وبترولهم ، وقّلت نسبة الامية فيهم وتعددت مشاربهم واحترموا ارادتهم وفهموا تاريخهم وحققوا معرفتهم واستقلاليتهم وقدروا منزلتهم واقلياتهم واسسوا مدنيتهم ومؤسساتهم وكوفئت نخباتهم المبدعة ! هذه هي استنتاجاتي المتواضعة ازاء مستقبل العرب والمسلمين .

شاهد أيضاً

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا يسرّنا جدا دعوتكم الى الحضور والمشاركة في الاجتماع التأسيسي …