لقد بقي هذا الموضوع الحيوي الذي يختص بالمنتج العربي المعاصر في التاريخ حبيس صفحات الكتب والمقالات التاريخية ، إذ لم يعالجه أي مفكر أو ناقد عربي حتى هذا اليوم، معالجة نقدية أو معرفية تفكيكية على درجة من اللقانة والتدقيق، برغم الكتابات العربية النقدية المستحدثة للخطابات النهضوية والقومية والأدبية وغيرها .. ويبقى الخطاب التاريخي بحاجة إلى المزيد من الفحص والتفكير والتدقيق والعناية النقدية، نظراً إلى أهمية الذاكرة التاريخية في حياة العرب ، إلى جانب أدواتها ووسائلها وعناصرها ، خصوصا وانهم يمتلكون عمقا معرفيا ومنهجيا وفلسفيا في كتابة التاريخ منذ القدم .. ولم يخل أي عصر من العصور من مساهماتهم في اغناء الذاكرة التاريخية به ، ليس لهم وحدهم حسب ، بل للعالم اجمع . وان سجل المؤرخين العرب والمسلمين غني باسمائهم العريضة واعمالهم الكبرى وموضوعاتهم المتنوعة على امتداد العصور.
أولاً : المصطلحية : تفكيك عنوانية الخطاب
سأحاول إثارة بعض “الإشكاليات” الخاصة بمشروع الخطاب التاريخي العربي خلال المرحلة المذكورة أعلاه، كي أعالج طبيعة “الخطاب” بصورة مختزلة، دعوني أتوقف قليلاً عند إشكالية “مصطلح الفترة” قبل كل شيء، ودعوني أتساءل معكم : ماذا نقصد تاريخياً بـ”فترة ما بين الحربين العظميين “؟
علينا أن نعرف قبل الإجابة الابستيمية (المعرفية) عن هذا السؤال.. بأن ليس هناك مدرسة تاريخية فلسفية نقدية عربية متقدمة في القرن العشرين ، يمكننا التعويل عليها نقدياً، أو التطلع من خلالها استجلاء المعاني المعرفية، وتشخيص الدلالات المنهجية، فلا مراء أو جناية إن اعتمدنا على مناهج ومفاهيم انكلوسكسونية أو فرنكوفونية أو جرمانية، نظراً إلى ما قدمته من إشارات ومقاربات معاصرة وثرية ، وربط ذلك كله مع ما طرحه المؤرخ ابن خلدون كفيلسوف عربي متميز رغم كلاسيكيته.
فماذا سنجد ؟
إن مصطلح “ما بين الحربين” هو المشاع عربياً من دون تحديد علمي، فكثيراً ما يقع المفكر العربي – مع الأسف- بإشكالات ونقائص فيما يخص محددات “الفترة” وكم هو عمرها كفجوة زمنية، عقدان أم ثلاثة عقود؟ والفرق كبير بين الاثنين، أي أن حاصل فرق التداخل التاريخي هو عقد كامل من الزمن، وهذا ما يجب الانتباه إليه وتداركه، وخصوصاً عند المؤرخين والمفكرين والسوسيولوجيين العرب وصناع الاستراتيجيا.. ولكن كيف ؟ هناك إجماع شبه مؤكد في الثقافات العالمية المعاصرة. على أن فترة “ما بين الحربين” إنما تحدد بـ “ثلاثة عقود” أي اعتبار انفجار الحرب العظمى الأولى عام 1914 هو البداية المرحلية للفترة التي تختتم بالعام 1945 مع نهاية الحرب العظمى الثانية، ولكن لو أخذنا بتحليل دلالات : فترة + ما بين + الحربين ، لوجدنا أن هناك عجزاً زمنياً يقدر بـ” عقد ” من الزمن (= 10 أعوام) أي :
1914 ( = بداية الحرب الأولى )
1918 ( = نهاية الحرب الأولى)
1939 (= بداية الحرب الثانية )
1945 (= نهاية الحرب الثانية )
1918-1914 = 4 (= تداخل تاريخي أول ).
+
1945-1939= 6 (= تداخل تاريخي ثان)
________________________________
= 10 ( = العجز الزمني )
هذا معناه أن ” فترة ما بين” هي عقدان من الزمن وليس ثلاثة عقود، أي تكون البداية مع نهاية الحرب العظمى الأولى وتكون نهاية ” ما بين ” هي بداية الحرب العظمى الثانية. وعلى أية حال ، هذه ليست إشكالية في الأدبيات التاريخية – الغربية، ولكننا لم نزل نعاني الكثير مصطلحياً في ثقافتنا التاريخية العربية. وعلى العموم، يؤخذ الحدث التاريخي كبداية وتقفل الفترة بحدث أساسي آخر. وعلى هذا الأساس، يعتبر السوفيات عام 1917 بداية فعلية للفترة، نظراً إلى انفجار الثورة البلشفية خلالها؛ وقفلت الفترة مع نهاية الغزو الهتلري لروسيا . أما العرب، فيمكنهم على هذا الأساس : اعتبار عام 1916 بداية تاريخية للفترة نظراً إلى انفجارهم بثورتهم المعروفة ضد الأتراك . أما نهاية الفترة فتقاس على نتائج الحرب العظمى الثانية في عام 1947، أي العام الذي تأسس فيه كيان الصهيونية العالمية “إسرائيل” في قلب العالم العربي المعاصر .
أما كيف نحدد ” معرفياً” جيل ما بين الحربين العظميين ؟ أو أولئك الذين شغلوا هذه الفترة المعنية بخطابهم وبأعمالهم وممارساتهم ونتاجاتهم؟
لو رجعنا قليلاً ودققنا النظر في أعوام ولاداتهم “العربية” لوجدنا بعد تفكير هادىء ان أغلبهم قد ولد في عام 1889 أو قريب منه بكثير. وهذا أمر يثير الغرابة فعلاً، أي أنه عاش لفترة تقرب من عقد زمني نهائي للقرن التاسع عشر، وأنه تخضرم بين قرنين اثنين ، ووجد عمره 25 مع بداية الحرب العظمى الأولى في حين انه سيغدو صاحب عمر يقدر بـ 55 عاماً مع نهاية الحرب العظمى الثانية، أي أنه يعيش أعوام نضوجه خلال فترة ما بين الحربين العظميين.
لنتوقف قليلاً عند سنة “الولادة” (=1889) وأخذها كأساس للتشكيل الفلسفي التاريخي في تطبيق رؤية ابن خلدون القائلة بعمر الدولة الاعتيادية في التاريخ هو 120 عاماً. هذه الرؤية التي صادق عليها كثيراً المؤرخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي وجماعته من المؤرخين علماء اللاهوت (التيولوجيين) المحدثين. اذ تصدق رؤية ابن خلدون كثيرا بتقسيم عمر المجتمع ( أي مجتمع ) إلى أربعة أجيال، بمعنى :
120 =30
4
أي نستنتج أن كل جيل اقتضى نحو 30 عاماً (= ثلاثة عقود). أما قياس ذلك تطبيقيا ، فيمكننا أن نستخلص الأجيال العربية التالية :
1- جيل الاستنارة الفكرية : اليقظة في الخضم العثماني 1989-1919.
2- جيل الليبرالية الوطنية : (= جيل ما بين الحربين ) 1919 – 1949 .
3- جيل الثورة القوموية : نحوالاستقلال القومي والتوحد 1949-1979.
4- جيل الثورة الاسلاموية : الحروب والصراعات المعاصرة 1979- 2009.
ثانياً : إشكالية المصطلح ومواطن الفكر
انتقل الآن إلى طرح إشكالية أخرى ضمن المعالجة المصطلحية : نأخذ مثلاً، كلمات كثر شيوعها وتداولها في الادبيات المعاصرة العالمية هذه الأيام، ويتداولها العرب بعد استعارتها ، فمنهم من يدرك معانيها ومنهم من لم يدرك ذلك ومن تلك المصطلحات ذات المفاهيم المحددة : الخطاب والريادة والأفق الفكري…إلخ.
إن مصطلح ” الخطاب” مفهوم نقدي كامل الابعاد مشاع حديثا في الأدبيات الفرنكوفونية، في حين أن مصطلح ” الريادة” هو مفهوم سياسي محدد الاستعمال ومشاع في الأدبيات الجرمانية، أما مصطلح ” الأفق” فهو مفهوم متقدم له دلالاته الفلسفية ذات شيوع كبير في الأدبيات الانكلوسكسونية .. في حين ان مصطلح ” الاشكالية ” هو مفهوم حديث معاصر كثر استعماله عند نهايات القرن العشرين في العالم اجمع ، ويعني بالتحديد : اثارة الباحث لقضية بحثية معينة وغير معروفة ولا مفكر فيها ، فيختلف في ذلك عن مصطلح ” المشكلة ” الموجود اصلا في أي موضوع .. اما مصطلح ” التفكيك ” ، فهو مفهوم اداة نقدية راج استعماله في النقد الادبي في نهايات القرن العشرين .. وهكذا، لو قدر للعربية أن تستخدم مفاهيم ودلالات الأدبيات الأوروبية والعالمية استخداماً أمثلا وذكيا لاستطاع العرب أن يصهروا ثقافات متقدمة في فكرهم العربي الحديث الذي وجد له أكبر متنفس له خلال فترة ما بين الحربين العظميين، وعلى أيدي العديد من الرجال العرب الأكفاء من ذوي النزعة العقلانية. وكان على ابناء الجيلين التاليين ان يكونوا اكثر كفاءة في التفكير والنقد والمعالجات ، ليس لاستعارة المفاهيم والمصطلحات حسب ، بل للتمكن منها واغنائها بالمزيد من الابداعات المخصبة .
إن “الخطاب” (Discours) هو مقول القول يطلقه صاحبه بلغته القومية وضمن الأفق الفكري الذي يتعامل معه. أما الأفق (Horizon ) الفكري العربي الذي تجلى لجيل ما بين الحربين العظميين ، فقد تخلص كثيراً من الحالة التقليدية التي ألفها على مدى زمني طويل، إذ قام جيل الاستنارة الفكرية المخضرم بين قرنين بزحزحته عن الروتين المتهالك الذي كان يقبع في جنباته ، وبدأ ذلك الجيل المخضرم يؤكد خطابه المتنوع في إطار إرهاص بغية التوصل إلى تحديد الأفق الفكري من الحالة العثمانية إلى الحالة العربية.
أما مفهوم الريادة (Charisme)، فمن النادر ما يطلق على رجل فكر لأنها في دلالاتها، لا تتصل بأي من العناصر الفكرية التي تحدد مغزاها مصطلحياً بعيدا عن ذاك الذي يروج اسمه سياسيا . إن رائد الفكر هو الذي يستطيع أن يستقطب أحد تلك العناصر التي تمت بصلة الى تأسيس ” ايديولوجية ” معينة ، ويستطيع من خلالها أيضاً أن يغير بـ”خطابه” من واقع الفكر وواقع الحياة، كالذي أحدثه العديد من رواد الفكر الفلسفي والنقدي الحديث ، امثال : كارل ماركس او دارون أو كينز أو سارتر أو ميشال فوكو او دريدا وغيرهم. إن عناصر مفهوم “الريادة” كما يحددها الفيلسوف الالماني ماكس فيبر ، هي ثلاثة : مرسل من السماء أولاً ؛ محارب عنيف ثانياً؛ زعيم وطني (كالفوهرر) ثالثاً. على هذا الأساس، لا يمكننا اعتبار السيد جمال الدين الأفغاني أو عبد الرحمن الكواكبي أو طه حسين أو عباس محمود العقاد أو غيرهم من العراق أو بلاد الشام أو بلدان المغرب العربي … رواد فكر بأي حال من الأحوال ! لقد أفادوا من خلال نتاجهم وثمارهم، واستطاعوا أن يغيروا قليلاً من المفاهيم من خلال ادوات خطاب وليس من خلال خطاب معين ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يغيروا من واقع الفكر والحياة إلى الأمام . على العكس، لقد زرعت عند “علماء” الإسلام خلال فترة ما بين الحربين العظميين النظرة الورائية اعتماداً على الأفكار الماضوية التي نشرها السيد جمال الدين الأفغاني. والتي اعتمد فيها على كل من منتجات الإصلاحيتين القديمتين في القرن التاسع عشر : العثمانية “المدنية” و” العربية “الدينية”.
من خلال ما أوضحناه سلفاً، نتساءل : ما هي مواطن فكر العرب خلال فترة ما بين الحربين العظميين ؟
إذا أعددنا أسماء أولئك الذين شغلوا حيز الفترة المذكورة بالعديد من النشاطات والأعمال الفكرية الناضجة والمثمرة، وكانت لهم جهودهم وأتعابهم ضمن مخاض عسير في فترة تهيمن عليهم فيها قوى استعمارية أجنبية لوجدنا أن جل ” الأسماء” قد تركزت في مصر، بعد أن استقطبت هذه الأخيرة مركزية الفكر العربي في فترة ما بين الحربين العظميين ، وتمتعت بعلاقات ممتازة مع مواطن إشعاع فكري عربية، لها ظروفها القاسية هي الأخرى، ومنها : العراق وسوريا ولبنان، ثم تونس والجزائر والمغرب، هذه المواطن الستة كانت لها علاقات مع المركزية الفكرية التي استقطبتها مصر وخصوصاً بواسطة الصحافة والكتب والفن . وكانت مصر قد استفادت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من حركة الهجرة اليها ، اذ وفد الى القاهرة عشرات اللبنانيين والسوريين والعراقيين والمغاربة ، في حين وفد الى الاسكندرية عشرات من الخواجات اليونانيين والطليان ..
إن التكوين الوطني – السياسي الذي وُلد على يد محمد علي باشا في رحم النظام العثماني، قد سبق غيره من التكوينات السياسية الحديثة في المنطقة العربية ، وقد ساعد النظام السياسي الذي أوجده محمد علي باشا، وسلالته من بعده، على تحويل المجتمع المصري في المدن الاساسية خصوصا ، بشتى طبقاته وفئاته وصنوفه، إلى نمط جديد من العلاقات الاقتصادية البرجوازية . لقد تحولت فيه أنماط ووسائل الإنتاج من الإقطاعية الآسيوية – الشرقية إلى نوع من الرأسمالية الجديدة. وخلقت صنوفاً جديدة في المجتمع، ناهيك عن تغير طبيعة العلاقات الاقتصادية القائمة على استعارة بعض اشكال النموذج الفرنسي ، وخصوصا في الثقافة والصناعة .
ثالثاً : العقلانية العربية : المشروع المقبور
كان لرجال الفكر العربي خلال فترة ما بين الحربين العظميين ، مساهمات عديدة في بناء معرفي طويل الأمد امتدت جذوره إلى الحركات الإصلاحية التي ميزت القرن التاسع عشر، وكان من أهم الأسباب كي يبرز أولئك الرجال بعد الحرب العالمية الأولى : ولادة التكوينات السياسية العربية المعاصرة التي طالما أطلق عليها : أنها من صنع “الاستعمار” ! ونحن في هذا المطاف من محاولة فهم طبيعة الخطاب التاريخي العربي لا تفيدنا دراسة الواقع التاريخي بل يفيدنا ما عبر عن ذلك ” الواقع” من قبل المؤرخين والكتاب العرب خلال الفترة المعنية . لقد كان خطابهم التاريخي هو خطاب الضد يعكس ” واقع الضد” ذلك الواقع المرير الذي مثلت تاريخيته الهيمنة الاستعمارية لكل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
ولا يمكننا أن ننسى الدور المؤثر لـ النزعة العقلانية التي افتتحها القرن الجديد بالمزيد من الأفكار والأعمال والنتاجات، وعلى الأخص في المجلات طليقة اللسان، فيما تحكيه وتكتبه أو فيما تترجمه عن الغرب، ومن أبرز الرجال الذين ساهموا في إثراء المعرفة التقدمية بمصر، إسماعيل مظهر ، وشبلي شميل ، وسلامة موسى وغيرهم .
إن الخطاب التاريخي العربي خلال تلك الفترة لم يكن متحجراً في مكانه، أو محبراً على الأوراق فحسب، أو أنه يقصر نفسه على ثلة من المتخصصين فيه، فسواء أكان خطاب مع أم ضد، فهو قد أثرى من قبل رجال فكر لم يتخصصوا فيه أصلاً، سواء أكان ذلك التخصص عن الشرق أم عن الغرب، ففي مصر – مثلاً- التي تركز فيها ” الخطاب التاريخي العربي” لم يقتصر ذلك ” الخطاب ” على كل المؤرخين: محمد شفيق غربال ومحمد صبري (السوربوني) ، فقد ساهم فيه أدباء ونقاد وكتبة تراث وفلسفة وعلم جغرافية .. ، دعونا نتأمل ما كتبه طه حسين وأحمد أمين وعباس العقاد – على سبيل المثال لا الحصر- سنجد أن خطابهم التاريخي هو غير خطاب غربال وصبري، ولكن الثلاثة الأوائل يختلفون في “خطابهم” نفسه أشد الاختلاف. إن معرفية طه حسين تختلف كثيراً عن كتابية أحمد أمين ، وكلتا الاثنتين تختلفان عن بيوغرافية عباس العقاد في “عبقرياته”.
ولكن، ربما هناك سائل يسأل : لماذا لم تزل كتابات العقاد مشاعة حتى يومنا هذا عند القراء وعلى حساب استنتاجات طه حسين ورؤى أحمد أمين العلمية ؟ أجيب عن ذلك بالقول : لقد حدث ذلك – مع الأسف– بحكم التراجع المهول عند العرب في تفكيرهم عن طور الاستنارة والحرية ذلك الطور الذي تمثله فترة ما بين الحربين العظميين أصدق تمثيل. يقول المؤرخ عبد الله العروي :” ولم يكن لسلالة العقلانية المجردة من الحظ أكثر مما كان لها في القرن الثالث الهجري، فهي ما كادت تبدأ في توليد اتباع لها في فترة ما بين الحربين، تحت إشراف مصطفى عبد الرزاق وأحمد أمين، حتى وجدت نفسها عديمة القوة، وقد خانها الاقتصاد والمجتمع كما حدث لها في زمن المأمون” . إذاً، هنا تكمن أهمية “الفترة” بالنسبة إلى حياة الفكر العربي المستحدث الذي مثل خلالها إرادة العرب في “الاستنارة ” الفكرية قبل الإجهاض الذي سيتم على ايدي المؤدلجين الذين غلبوا السياسة على الفكر ، والعام على الخاص .
نجد، أيضاً، أن مصطلحات ، مثل : الحر والحرية والتحرر والحريات إضافة إلى الديمقراطية، كمفاهيم ولدت لأول مرة عند العرب المحدثين في بداية القرن الجديد، وزاد العمل بالمطالبة بها أو تحقيقها خلال فترة ما بين الحربين العظميين، وخصوصاً في ” الخطاب السياسي” العربي، وقد دفع بذلك كله النفس الليبرالي الذي تمتعت به مواطن عربية عديدة وخصوصاً في الكيانات السياسية العربية المحدثة التي انبثقت بعد زوال النظام العثماني مثل : العراق ومصر وسوريا ولبنان. وبنى الجيل الذي تلا الحرب العالمية الثانية على أكتاف أولئك الرجال المستنيرين خلال فترة ما بين الحربين العظميين . أما الشيء البارز الذي يلفت النظر في مقابلة الأدبيات العربية بمواطنها خلال الفترة المذكورة، فيكمن في الكتابات الأدبية والتاريخية احتلت مجالات واسعة في مصر، في حين احتلت الكتابات اللغوية مجالاً واسعاً في كل من العراق وبلاد الشام.
إن ما يمكن قوله كاستنتاج معرفي في معالجة نقد فكر عرب ما بين الحربين العظميين : إن الخطاب العربي الحديث كان خطاباً مضاداً في سيرورته العنيفة بمواجهة الخطاب السلطوي المنبثق عن المؤسسات السياسية. كان خطاب تصادم ومواجهة ساخنة لترتيب ما سيلد في رحمه من تيارات تقدمية. وكان رجال الخطاب العربي في مواجهة اللافتة السلطوية التي كانت تستقطب القوة والمصالح، ناهيك عن مجمل ارتباطاتها بالأجنبي المستعمر. لقد قبر الخطاب “الفكري” العربي خلال هذه الفترة المهمة والحرجة بكل ما كان يحمله من نزعات عقلانية ومعرفية تقدمية . ونضجت على مهل التيارات الاصلاحية الماضوية المعززة للسلفية والسلفوية، ولتبدأ أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية النزعات الايديولوجية الجديدة ذات القناع ” التقدمي” وخصوصا القومية منها ، تلك المعززة للاتجاهات الأصولية، والمحركة للماضوية باسم ” التراث” والقابرة للخطاب المعرفي – العقلاني.
رابعاً : اللغة – التاريخ : لماذا ( مهمة الانتلجنسيا)؟
إن ظهور الاهتمام التاريخي بين العرب المثقفين المحدثين، إنما يعود في مواطنه المختلفة إلى يقظة النزعة الوطنية – القومية. لقد أصبح التاريخ بمثابة شهادة صحية يحملها بأيديهم أولئك الذين ينتمون إلى البلدان العربية الوليدة الجديدة. تلك الشهادة التي تهدف أول ما تهدف إلى نشر المبادئ التاريخية في المجتمع وشرائحه المختلفة، كل شريحة ونسبة ما تحمله من فهم وثقافة وإدراك ومواطنة. كما تهدف أيضاً إلى تمكين حالة البطولة في الأذهان نقلاً عن الماضي الزاهر. لقد اتخذت مادة ” التاريخ” أساساً للبرهنة على شرعية الحاضر ووضعه المعاصر بالشكل الذي يطلقه نحو المستقبل بأسلوب شرعي لا شائبة فيه. ولكن من كان وراء ذلك؟
لقد لعبت مؤثرات الغرب دوراً كبيراً في هذه العملية، باعتبارها نتاج المؤسسة المسؤولة والمتحدية في آن واحد بالنسبة إلى حالة ” التطور” التي عليها الغرب، مقابلة بحالة ” التخلف” التي عليها العرب، هؤلاء الذين ينشدون الرقي والتقدم والإنشداد الحضاري أسوة بالأمم الأخرى. وهنا يأتي دور النخبة المثقفة الطليعية ( = الانتلجنسيا العربية) التي قادت حياة الثقافة العربية على مدى زمني طويل، وخاضت صراعات متعددة في ما بينهما من طرف أو بينها وبين الأجهزة السلطوية من طرف آخر.
إن ” النهضة العربية” الأولى هي نقطة جامعة سجلت بداية حالة تاريخية جديدة من دون شك، ولم تزل حتى يومنا هذا تسجل نهاية الحالة نفسها كنتيجة ذات مخاض صعب عسير، هي بداية عربية + غربية، وهي نتيجة عربية + غربية. فالعلة والنتيجة هنا هما : حاصل جمع الاتصال بين الغرب المتطور والوطن العربي المتخلف. وبطبيعة الحال، ان الفرق شاسع بين الدينامية التي يتمتع بها التطور الغربي، وبين الجمود الذي يثوي في مرتعه المجتمع العربي. هكذا ، سنعلم أن المواجهة ستحصل لا محالة بين أنصار القديم وأنصار الجديد، بين المحافظة والحرية، بين الإتباع والإبداع… إلخ، من المسميات المزدوجة المحدثة . المهم أن إشكالية “التغريب” و”العصرنة” و”التحديث”… لم تزل مطروحة على بساط البحث العربي والأجنبي في ما يخص المجتمع العربي وغيره من المجتمعات الإسلامية، وذلك منذ بداية عصر “النهضة” عند مطالع القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، وهي المواجهة الصعبة التي لم تحسم حتى اليوم، بل – مع الأسف – أخذت لها طابع التزمت القاتل بفعل فساد الواقع السياسي وانحسار تطور المجتمع العربي، ولكنها ستبقى رهينة المواقف المرحلية من دون الوصول إلى حالة انقشاع لمصلحة تقدم العرب ومراعاة الشأن العام لهم ومسيرة تطورهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً نظراً إلى هول المتاهة المعاصرة.
لقد وجدنا من خلال دراستنا المتواضعة لادبيات الفترة المعنية، ثمة اختلافات واضحة في المواقف العربية حيال الغرب، وقد وجدت بعض تلك الجماعات المتنوعة والقليلة معاً في تاريخ الشعب العربي وثقافته الإسلامية، المحور الأساسي والطبيعي والمعروف في تحقيق الأهداف المنشودة . لقد قاد كل من المحافظين والراديكاليين العرب إلى الاهتمام العريض بمادة ” التاريخ الإسلامي” الذي سيغدو مع تداول الأيام تحت مسمى ” التاريخ العربي” في حين يصبح ” التاريخ الوطني” إحدى العلامات البارزة ليس للمصطلح الجديد الوطن العربي، بل لأسماء “الأوطان العربية” بحيث تربت اجيال ثلاثة على نشيد : ” بلاد العرب اوطاني .. ” وذلك منذ عقد العشرينات من القرن العشرين حتى يومنا هذا. وخصوصاً عندما أسست أول مؤسسة عربية – لغوية في دمشق عام 1919 ، واطلق عليها اسم ” المجمع العلمي العربي” بهدف تعميم اللغة العربية، وكان هناك إلى جانب اللغة كل من : التاريخ العربي والثقافة العربية والتراث العربي، أما حق العضوية فيها، فعلى المترشح، إضافة إلى معرفته الواسعة باللغة العربية، أن يكون مقتدراً وماهراً في البحث العلمي، الذي يزاول بواسطته تدوين التاريخ العربي – الإسلامي. وقد خصصت “مجلة المجمع” المذكور قسماً معتبراً للموضوعات التاريخية.
أما في مصر، فكانت هناك ” لجنة التأليف والترجمة والنشر” التي تأسست عام 1914. هذه اللجنة التي نشرت عدداً كبيراً من الأعمال والنتاجات المتعاملة مع موضوعات تاريخية ومشروعات تراثية تتصل بمواد التاريخ العربي اتصالاً مباشراً، إذ كان هناك اهتمام كبير بنشر وتحقيق المخطوطات العربية التي وجدت عناية علمية بها، لأول مرة، في المراحل الحديثة على الأرض العربية. أما في عام 1918، فقد تأسست “الجمعية التاريخية الملكية” في مصر، ونشرت مجلتها فور تأسيسها :” المجلة التاريخية – المصرية”.
أما في العراق، فقد غدا الاهتمام بالتاريخ من التقاليد الحسنة والمميزة، متخذاً له صبغة وطنية وعروبية، وعلينا أن نشير إلى أن المجلة التي كان يحررها العالم اللغوي انستاس ماري الكرملي بعنوان ” لغة العرب” ببغداد في كل من العقدين الاول والثاني من القرن العشرين ، أي قبل تأسيس “المجمع العلمي العراقي” . وكان “النادي العلمي” قد بدأ نشاطاته وأعماله بالموصل عام 1919م معتنياً بتاريخ اللغة العربية وتاريخ الآداب والمعرفة العلمية. لقد شع الاهتمام التاريخي في عدة مجالات حيوية داخل البنى الاجتماعية للبيئة العربية. وبدأ الشعور الوطني ثم القومي بالفخر والمجد لما كان قد كشف عنه من آثار عظمى تركها الماضي السحيق والوسيط والقريب . وعليه، فقد تأسس العديد من المتاحف ومراكز الآثار والبيوت الكلاسيكية وخزائن المخطوطات والكتب والمأثورات وخصوصاً في مصر والعراق وسوريا.
خامساً : الخطاب التاريخي العربي
كانت هناك ثلاثة اتجاهات عربية تعالج مادة ” التاريخ” خلال المرحلة المعنية، كما تحاول أن ترسم رؤى تفسير عربي للتاريخ بمعزل عن مدرسة عربية أو منهج تاريخي عربي. لنتوقف قليلاً عند الاتجاهات الثلاثة التي ميزت التاريخية (Historiography) العربية المحدثة، والمتصفة بغيبوبتها عن معرفية علم التاريخ في أصوله ومناهجه وأساليب تعلمه وتعليمه…. إلخ. سنجد في البداية أمامنا ما كتبته التقليدية – الأصولية الإسلامية التي عنيت بتشديد ومفاخرة فوق العادة بالجانب اللامع من تاريخ الإسلام الذي يعتبر حقاً مشرباً بالقوة والازدهار والمنعة، من دون امعان النظر إلى الجانب المظلم من تاريخ دول الإسلام ودويلاته وأحداثه القاسية. ويصر أتباع هذا الاتجاه على الاعتقاد القوي بانبعاث قوى الإسلام من جديد لتأخذ دورها في الحياة الحديثة وتحقيق أمل الملايين بـ ” الدولة الاسلامية ” التي يعتبرونها تحصيل يجب تحصيله ما دام هناك وجود حقيقي لـ “الأمة الإسلامية” التي تعيش كمكمن في اللاوعي، كجانب غير صحيح من “التفكير الديني” الذي يتلذذ بسماع “النصوص التاريخية اللامعة” ويقدسها ويكيل العواطف نحوها من دون أي اعمال للعقل وادوات النقد .. اذ انهم يخلطون بين ” الدين ” وبين ” التاريخ ” ، فالدين الاسلامي الحنيف شيىء والدول التي تسمت بـ ” الاسلامية ” شيىء آخر!
أما الاتجاه الثاني فقد تنصل في ظاهرته عن ” التقديس” إلى “الاحترام” إنه الوطنية الاحترامية الذي يؤكد أصحابه، قبل كل شيء، على ” الأوطان” كبديل للعقائد الدينية، ولا يربطون تاريخية أوطانهم العربية بتاريخ الإسلام فحسب، بل على عكس أصحاب الاتجاه الأول يبحثون عما قبل الإسلام من جذور ترتبط بماضي تلك الأوطان، في حين أن أصحاب الاتجاه الأول لا يتوغلون في ما كان من تواريخ كلاسيكية قبل الإسلام. وإذا كان أصحاب الاتجاه الثاني يحترمون التاريخ الإسلامي باعتباره عقيدة لا تاريخ أوطان.. فإنهم قد اكتشفوا تاريخ أوطانهم في الكلاسيكيات القديمة التي ضغطوا عليها كثيراً في إطار ما قدمته الثقافة الاستعمارية، فلا غرابة أن يتم التأكيد، في إطار التواريخ الوطنية، على فرعونية مصر، وسريانية الهلال الخصيب، وفينيقية لبنان، وآشورية نينوى، وسومرية وكلدانية وبابلية العراق، وسبأية اليمن، ودلموندية البحرين، وقرطاجية تونس، وامازيغية الجزائر والمغرب ، ونوميدية ( بداوة ) شمال غربية إفريقيا… إلخ.
أما الاتجاه الثالث، فقد حاول أن يوفق كثيراً بين مختلف المحاولات التوفيقية باعتبارها مناصرة للعروبة ( Pan Arabist ) وأساساً في التعامل القومي في تفسير التاريخ، إنه الاتجاه القومي التوفيقي الذي يحاول أن يقدس التاريخ ويحترم روح التاريخ بمعزل عن الاحتراز المنهجي العلمي، فهو يؤكد كثيراً على وحدة التاريخ العربي، ووحدة الشعب العربي الذي صنع ذلك التاريخ، كما يؤكد على اللغة العربية والثقافة الأحادية العربية التي نشأت وتبلورت في ظل تاريخ واحد لدولة قومية سحيقة القدم منذ عصور ما قبل الإسلام. أما الفترات الإسلامية فيصبغها هذا الاتجاه بالصبغة العربية القومية التي تميل الى الوازع العنصري، ويعتبرها ذات أهمية بالغة مع ما خلفته من تراث أصيل في اللغة العربية التي تتمم الفهم الحقيقي للتقدم التاريخي الذي أحرزه العرب في جميع الميادين. والنتيجة ، أن ” المخيال الديني للتاريخ” في الاتجاه الأول يرنو تاريخياً إلى تحقيق ما يدور في الذهنية الجماعية – الإسلامية ( = الأمة الإسلامية). أما الممكن التاريخي الذي يطمح الاتجاه القومي الثالث لتحقيقه مهما طال الزمن، فهو ” الوحدة العربية ” التي تعيش كمكمن ممكن التحقيق تاريخياً ما دام مستقبل العرب متوقفاً على هذا الرهان الصعب باتجاه الاستعمار والامبريالية، أما ” الواقع السياسي” المعاصر فهوالذي يريده ويطمح اليه اصحاب الاتجاه الثاني تعزيزه تاريخياً وتمكينه في الأرض والزمن ما دام يعتمد على كيانات سياسية جديدة خلقها التاريخ الحديث في معاصرة القرن العشرين . لذا يريد الاتجاه الثاني أن يبحث لها عن جذور عميقة تصل بالتاريخ القديم، إنها ” الوطنية” كما يصفونها وسحب التاريخ القديم إليها لتبريرها شرعياً.
أما أسماء المؤرخين العرب الذين يمكننا ذكرهم في هذه العجالة، فيمكننا التوقف عند : محمد كرد علي، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، ومحمد فريد وجدي، وعباس محمود العقاد، وأنيس زكريا الصولي، وأحمد توفيق المدني، وعباس العزاوي المحامي، وأمين سعيد، وساطع الحصري، وعبد الرحمن الرافعي، وفيليب حتى، وجرجي زيدان، ومصطفى جواد، ومحمد عبد الله عنان، ومحمد شفيق غربال، ومحمد صبري، وطه الهاشمي، وسامي شوكت، وقسطنطين زريق، ومحمد بهجة الأثري، ومحمد مبارك الميلي… وغيرهم.
لقد كان التخصص التاريخي مؤشراً عند ثلاثة أو أربعة من الأسماء المذكورة أعلاه ، ولم تخلُ أفكار هؤلاء أنفسهم من التقليدية أو الاحترامية أو الوجدانية إلا بعد تغيير الرؤية مما هي عليه إلى الضد، برغم أنها لم تخلُ أيضاً من نقاط ضعف على مستوى الأدلجة أو الخطاب، أو كليهما معاً. أما البقية من الأسماء، فقد ساهمت في الخطاب التاريخي العربي في إطار الاتجاهات الثلاثة المعلنة أعلاه ، أو انتقالاتها عبرها، خصوصاً في مرحلة التحول من الإستنارة إلى الليبرالية.
سادساً : التشكيل القومي – العربي : لماذا ؟
اقتضى تشكيل الاتجاه القومي – العربي في التاريخ زمناً طويلاً كي يتبلور بالصورة التي سيجد صورته عليها خلال ثلاثة عقود زمنية لاحقة من عمر المعاصرة العربية ( الخمسينات + الستينات+ السبعينات ) ، أي جيل 1949 – 1979. لقد تشكل الخطاب القومي – العربي في التاريخ بعد مخاض عسير من الصراع الفكري ضد عوامل الهيمنة الاستعمارية والتيارات التي ولدتها على الساحة العربية منذ القرن التاسع عشر حتى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ( = مرحلة الاستقلالات الوطنية ). إذاً، كيف نبني رؤيتنا عن التشكيل القومي – العربي في الخطاب التاريخي؟
دعونا نسترجع ما عالجناه من إشكالية “المصطلح ” في بداية هذا الفصل ، وتحديد الفترة الزمنية مقابلة ” ابستيمية” لزمن ما بين الحربين العظميين ، كجزء مرحلي ( = 30 عاماً) من أصل عصر خلدوني كلي ( = 120 عاماً) . ويمكننا أن نتوقف قليلاً عند أجزائه وصفاتها على الصورة التالية :
اليقظة التنظيمات الدستورية الاستنارة الليبرالية القومية الماضوية
1799-1829 1829-1859 1859-1889 1889-1919 1919-1949 1949-1979 1979-2009
30 سنة 30 سنة 30 سنة 30 سنة 30 سنة 30 سنة 30 سنة
الجيل التاريخ السنوات الظاهرة التكوين
الاول 1799-1829 30 التأسيسية حديث
الثاني 1829-1859 30 التنظيمات حديث
الثالث 1859-1889 30 المشروطية /الدستورية حديث
الرابع 1889-1919 30 الاستنارة الفكرية حديث
الخامس 1919-1949 30 الاستقلالية الوطنية معاصر
السادس 1949-1979 30 الثورة القومية معاصر
السابع 1979-2009 30 الحركات الأصولية معاصر + مستقبل منظور
الثامن 2009-2039 30 ؟ مستقبل منظور
التاسع 2039-2069 30 ؟ مستقبل بعيد
العاشر 2069-2099 30 ؟ مستقبل بعيد
10 أجيال 3 قرون 300 سنة
لقد شغل التشكيل القومي العربي منذ اليقظة العربية حتى يومنا هذا، أي امتد تبلوره طويلاً وعلى مدى زمني يتجاوز ثلاث مراحل حتى يصل إلى الحالة التي وصلها خلال عهد جمال عبد الناصر التي تسمى بـ” فترة المد القومي – العربي”.
كان لابد من التقديم أعلاه بغرض توضيح أوليات ما سنبينه أدناه كأساس للاتجاه القومي في كتابة التاريخ العربي الذي فرض نفسه كالرجل القوي في الميدان، ليس على أساس المنهج بل على أساس التفسير، إنه الاتجاه أو الميل الذي استهل حياة العرب المعاصرة من أجل أهداف رسمها أصحابه كي يساهم “التاريخ” في تحقيقها مادام هذا “التاريخ” هو إحدى ثلاث أدوات فعالة من المقومات: اللغة والتاريخ والثقافة. إنه الاستهلال الأمثل الذي يرسم رجوعاً حول مائة عام (قرن من الزمان)، عندما حدد مفهوم القومية العربية من أجل تحقيق الممكن التاريخي للأمة العربية. إنه الأمر الذهني الذي اختلف فيه العرب عن تفكير الجماعة الإسلامية المتشبثة بمخيالها الديني من أجل إظهار مملكة الإسلام أو الدولة الإسلامية. وهي افكار بزغت لأول مرة مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
على العموم، نجح العرب في إدماج الثقافة السياسية والتراث الاجتماعي للإسلام مع هيكل ثقافتهم الحديثة، وذلك دون أي رد فعل عنيف من قبل المتدينين الأصوليين، كما استطاع المستنيرون العرب ككتاب ورجال أدب وصحافة وساسة وعلماء وأساتذة أن يتجاوزوا بزوغ اليقظة نحو الاستنارة، ويلحقوا تطورات لم يشهد مثلها العرب في ثقافاتهم قبل هذا التاريخ.
لقد اعتبرت اللغة والتاريخ، إضافة إلى الدين أعمدة أساسية للدولة القومية. لقد نجحت تركيا، كبلد أول، في رسم تخوم أو فجوات أو حدود معينة الخطوط بين التاريخ الإسلامي وتاريخ القومية التركية، وذلك قبل بروز المشروع القومي – العربي بفترة طويلة من الزمن. جاءت البداية بواسطة علماء دنيا العلم كي يشرعوا في كتابة التواريخ وبناء المفاهيم على اساس الفكرة الدنيوية ” الوطنية – القومية” ( غير الدينية: السكونية أو اللاهوتية أو الاكليركية).
على الاعتبارات الأثنية، بدأت الاهتمامات باللغة والتاريخ بعيداً عن المفاهيم والاتجاهات الدينية، وقد احتفظ الأتراك بلغتهم التركية، ولكن خطة أتاتورك لم تقتصر على ذلك، بل نجح في اقتلاعها من مهدها الشرقي وطابعها العثماني – الإسلامي باستخدام الأحرف اللاتينية بدل الأحرف الأبجدية – العربية. لقد بدأ الأتراك يفتخرون، قبل العرب، بانحدارهم القومي والعرقي في آسيا الصغرى- وحسب رأيهم – أنهم ينتسبون إلى السومريين والحثيين، لقد بالغوا كثيراً حتى جعلوا اللغة التركية أم الألسنة، وتاريخهم هو الملتقى الذي تجمعت حوله الشعوب كونه يفيض بالنهائل.
بطبيعة الحال، كان العرب من أبرز الأعراق في المنطقة وأقدمها، وكانوا أصحاب جيرة وشراكة تاريخية وعقائدية مع الأتراك، فلا يمكن أن يسكت العربي أمام الدعاية التركية المتفاخرة، كانت كل من اليقظة والاستنارة العربيتين بمثابة رد فعل قوي تجاه الفكر القومي التركي المصاب بالنرجسية والمغالاة. بدأ العرب يكتبون عن انبثاقهم عن أعرق الأثنيات في المنطقة، وأنهم سلالة لغة ربانية مكينة، وأن لهم تاريخهم القومي المجيد، ولكن لم يجازف العرب كالأتراك، إذ تخللت العناصر الإسلامية أغلب مفاهيمهم المحدثة، إذ نجد أنهم دعوا إلى “الخلافة السلفية” كنظام سنة في الإسلام ، وأن يكون “الخليفة” عربياً سليل قبيلة قريش العربية التي أسندت قانونيتها في الكتابات الشرعية -الإسلامية كما أكدوا على دور اللغة العربية في الإمبراطورية الإسلامية منذ زمن طويل، إلى جانب العناصر الأخرى التي كانت مرجعية اساسية ذات وزن ثقيل في هذه الدعوة اللغوية باعتبارها ذات مرجعية مقدسة كونها ” لغة القرآن” كما أنها اللغة التي يحتويها التراث الثقافي الإسلامي الذي لم يزل يحتفظ به العرب.
عندما طرحت فكرة الجامعة الإسلامية ” الكومنولث الإسلامي” لأول مرة، واستعد السلطان عبد الحميد الثاني لها استعداداً كبيراً، فإن آمال أصحابها ماتت ببطء نتيجة الانقلاب الذي أطاح بعبد الحميد عام 1908 من قبل تركيا الفتاة، ومجئ جمعية الاتحاد والترقي لحكم الامبراطورية، وبدء سياستها المناوئة للأقاليم والأطراف، إضافة إلى احتقارها أفكار الائتلاف الإسلامي، هكذا، لم يبق للعرب من الأبواب، إلا النهوض تدريجياً بمشروعهم القومي الذي تشكل مقوماته عندهم : اللغة العربية والتاريخ والثقافة .. إضافة إلى عناصر أخرى، بدأ ينظر إليها بصورة مفتوحة كما كان ينظر إلى الأفكار التي تطرحها الاعتبارات الدينية القديمة، ومن الطبيعي أن نشير في هذا الصدد، إلى أمر لا يمكن أن يخفض إلى حد أدنى من التغافل أو التناسي هو دور المسيحيين العرب في تلك الفاعلية القومية في النهوض بالمشروع القومي.
سابعاً : أزمة الخطاب التاريخي : تشخيص نماذج
إن تبرير بعض صدامات الفكر واتجاهاته المتعددة لدى النخبة العربية في مطلع القرن العشرين وفترة ما بين الحربين، كان يتراءى دوماً في أحكام التاريخ واتخاذ المواقف الصعبة حيال جملة تعقيداته وإشكالاته. أي أزمة التاريخ العربي – الإسلامي منذ بدايته حتى نهايته، وازداد الإشكال عند الوقوف – مثلاً – على مادة تاريخية العرب خلال فترات ما قبل الإسلام، فالعرف المتداول أنها جاهلية بربرية ( أيام الجاهلية). لقد تغيرت النظرة قليلاً حتى عند أصحاب الأفكار الدينية، وفي حقيقة الأمر، أن الفكرة قد أدمجت مع النص الإسلامي من دون الذهاب إلى حد بعيد مع تقديس النص قسراً كما تطرحه استحواذات التقليدية الإسلامية، سواء التقوية العادية أم الأصولية الدينية ( مثلاً : الأزهرية / الزيتونية / القرويينية) أم التزمتية الماورائية مثل تنظيم “الأخوان المسلمين” الذي ولد لأول مرة عام 1928م.
هكذا، فإن التاريخية الحديثة للكتابات خلال فترة ما بين الحربين، كانت ذات خصوصية مثلت التبجيل العظيم للسلطات والتقاليد التي كانت تفتقر للمقاربات والتأويل ، وخصوصاً من قبل أولئك الذي يكتبون في الإسلام وتاريخيه الغني الطويل، ولأكثر من ذلك، فإن النصوص المجتزأة بإخلاص أو النقول المأخوذة عن السلطات والمرجعيات الإسلامية، كانت تتماشى في حكم عام وأسلوب مباشر، إن أي توقف عن الدوغمائية التي يتلبسها المفسرون أحياناً، أو أي موقف نقدي إزاء الأصول أو المصادر سيلاقي ضغطاً ثقيلاً يوزن بوزن الجبال، وخصوصاً عندما يتعرض المفكر أو المؤرخ أو المؤلف والكاتب إلى الاضطهاد والوقوف في قفص الاتهام. إن قضايا طه حسين وعبد الرزاق وخالد محمد خالد وجميل صدقي الزهاوي ومن قبلهم ولي الدين يكن وقاسم أمين… إلخ، هي قضايا معروفة ومتداولة الفصول.
يمكننا القول أيضاً، بأن التأليف التاريخي العربي واقتراباته كخطاب مؤثر وحافل بالمشاكل الفكرية والتاريخية، إنما يظهر أنه قد تأثر إلى حد كبير بالمفكرين الأوروبيين للقرن التاسع عشر، وخصوصاً الألمان منهم، وهذا الشيء هو الذي تفعله الأكثرية من المفكرين العرب اليوم، أي اعتبار “التاريخ” هو العنصر الأساسي في كيان تشكيل الأمة، أنه يأتي بعد ” اللغة ” مباشرة، يظهر لنا أن عدداً كبيراً من المفكرين العرب كانوا قد اتبعوا خطوات الفيلسوف الألماني هردر والفيلسوف الألماني الآخر فيخته، إضافة إلى آخرين أكدوا على “روح الماضي”.
دعوني أتوقف قليلاً عند نماذج من ” مقول قول” بعض الكتابات التاريخية العربية، لنشخص أزمة ” الخطاب التاريخي” من خلالها : لدينا ” على هامش السيرة” التي عالجها طه حسين معالجة لا تفي وحاجات العلماء كما اعترف هو نفسه، وأنها لا تشبع تصورات الناس في مثل هذه المرحلة التاريخية المتقدمة. لم يكن طه حسين مؤرخاً في يوم من الأيام ولكنه نجح في كتابته عن “الفتنة الكبرى”، وغلق صفحة التاريخ ليغدو ” عميداً للأدب العربي” من خلال الزوابع النقدية والأدبية والفكرية التي أثارها بجدارة واستحقاق. هناك كاتب آخر شهير أيضاً : محمد حسين هيكل الذي ألف عدة أعمال تراجمية. فهو يفتح عيون القارئ على نقاط معاصرة تتصل إشكالياتها السياسية بالعناصر الدينية. ومن وجهة نظره، فإن الدين لا يزال قوة فعالة، تفتح الباب أمام المستقبل، إنه يضع القيم الروحية وعناصرها الإسلامية مقابل دور الحياة الثقافية المتطورة في الغرب. ولكنه يتراجع ليؤكد بأن لا مقابلة أو تشابه لما تحصل الغرب عليه، والتاريخ الإسلامي وحده هو البذرة التي تنمو لتؤتي ثمارها في العقل الإسلامي.
أما العقاد فيبرز مؤرخاً في العبقريات المعروفة، إذ أفرد لشخصيات قيادية في التاريخ الإسلامي دوراً عبقرياً لكل واحد منها . وهنا علي أن أتوقف قليلاً عند كلمة “عبقرية” (Genius) التي انحدرت لغة عن ” عبقر” ومعنى هذه الكلمة “المتفرد في معرفة اللغة العربية” ثم أطلقت الكلمة ” عبقرية” على من تكون له دراية موسوعية بالعلوم والآداب. إذاً ، لا يتصل هذا المصطلح بأي اتصال معرفي مع الخبرة في القيادة العسكرية أو الريادة السياسية. من جانب آخر، استخدم العقاد، المفهوم الروحي للتاريخ بناء على ما قدمه من أدب التراجم، وهو – كما تعلمون- أحد صنوف كتابة التاريخ. كما أكد على “الدلالة النفسية” لأولئك القادة وقرن “النفس” و “النفسية” بـ”الروح” و”الروحية”.
أما أحمد أمين، فقد كانت له مساهمات بارزة في كتابة التاريخ الإسلامي، ولم يقتصر فيه على الجانب السياسي، إذ امتدت تحليلاته إلى الجانب الحضاري والتطورات الاقتصادية والاجتماعية، لقد أضفى أحمد أمين العديد من الأفكار المحدثة التي كان لا بد لها أن تينع وتزهر خلال فترة ما بين الحربين، وقد أكد على الدور العربي الواضح في صناعة وتبلور التاريخ الإسلامي، وخصوصاً في كتابة الموسوعي المتسلسل عن تاريخ الإسلام، ويمكننا أن نتوقف أيضاً عند ما أطلقه من “عناوين” لأجزاء كتابه الكبير. فماذا سنجد عنده؟ لقد وصف أحمد أمين الإسلام وتاريخه الطويل بـ”النهار” فكان هناك فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام….إلخ، إذاً، لقد كان هناك الفجر والضحى والظهر واليوم، بمعنى أن تاريخنا اليوم هو من دون شك “ليل الإسلام” ولا أريد أن أعلق أكثر من ذلك.
أما أسد رستم، فقد كان أحد المتخصصين الأكاديميين في التاريخ الإسلامي، ينزوي مع ثلة من المؤرخين الذين استلهموا طابع “الميثودولوجيا الأوروبية” في دراسة التاريخ، ومنهم : فيليب حتى وشفيق غربال ومحمد صبري وحسين حسني ومحمد قاسم وفؤاد شكري ومصطفى جواد وجعفر خياط.. إلخ. كان أسد رستم في كتابه الممتاز مصطلح التاريخ قد أرجع أصول العمل المنهجي ( الميثودولوجي) الأوروبي في كتابة التاريخ إلى التكنيك العلمي الذي استخدمه العرب الأوائل في البحث عن أصالة ” الحديث النبوي”. أما المؤرخ حسن عثمان، فقد افرد كتابه الذي تداوله الطلاب العرب لفترات طويلة منهج البحث التاريخ في طبيعة العمل مع تدوين التاريخ وتحليله مؤكداً، بصفة خاصة، على التاريخ الإسلامي.
ثامناً : ماذا عن التأطير التاريخي ؟
كانت مناصرة العروبة متماشية جنباً إلى جنب مع مناصرة الإسلام، وكان الاتجاهان يتماشيان زمنياً لامكانياً، فإذا كانت حالة التكافؤ التي وجدا عليها إبان الفترة المعنية في المشرق العربي، فقد كانت هناك فجوة واضحة بين النزوعين :”الإسلامي” و”القومي” في المغرب العربي، وأقول هنا “القومي” لا ” العروبي”، والفرق شاسع بين النزعتين بكل ما يحفلان به من أدوات وصيغ ووعي وتركيب تاريخي وذهني… إلخ. ولكنني، أرجع لأقول بأن الاتجاهين : القومي والإسلامي كانا يمثلان نزعة “عربية” واحدة في كتابة التاريخ، فإذا اعتبر مناصرو “الإسلام” التاريخ هو الدعامة الأساسية الثانية بعد “الدين” فإن مناصري ” القومية” يعتبرون التاريخ هو الدعامة الأساسية الثانية بعد “اللغة” في البناء القومي كضرورات وأهداف.
لقد لازمت فكرة ” الروح التاريخي” العديد من المؤرخين العرب، وهي الفكرة التي تؤكد على “وحدة التاريخ” إنها الفكرة التي نادى بها مناصرو العروبة القومية في الوطن العربي الذي يشكل حسب وجهة نظرهم : الأرضية الخصبة لولادة تاريخ عربي جديد يتواصل في حلقاته عن “الوحدة التاريخية” التي يولد في خضمها أساساً، وعلى نسق الفكرة الألمانية، فإن التاريخ، حسب وجهة نظر عبد العزيز عثمان، هو ” قوة دافعة”، أما عند ساطع الحصري، فالتاريخ على أساس الفكرة نفسها هو ” قوة فاعلة”.
إن المهم في كل ما نقوله وفيما يتعلق بالكتابة المحدثة بالتاريخ عند العرب، أن التاريخ كان مركز اهتمام الثقافة العربية فعلاً، وقد ساعدها وطورها في العديد من المجالات، بواسطة عدد كبير من الأعمال التاريخية التي كتبت منذ بدايات القرن العشرين، لقد احتل التاريخ مركزية اهتمام واستحواذ الذهنية العربية، نظراً إلى غنى التاريخ العربي – الإسلامي. وهكذا، سيزداد هذا التاريخ يوماً بعد آخر، لفترة ما بعد الحرب الثانية، وخصوصاً عند الأكاديميين العرب هذه المرة . كما سيفرد له مناهج موسعة وأوراق عمل في المعاهد والمؤتمرات والمدارس العلمية.
إن الخطأ الذي كان ولا يزال يرتكبه المؤرخ العربي هو حالة ضياعه بين ” المنهجية” و”التفسير” التاريخيين. مزاوجته بين ما يجب عليه أن يؤديه ويستخدمه من أدوات المعرفة والتجريب والبرهان، لتعرية الحقائق التاريخية وتحليلها ثم تركيبها بعد استنباط المفاهيم والنتائج منها، وبين المفاهيم الفلسفية والآراء الفكرية وحواصل الايديولوجيات والمبادئ التي تربى عليها أو التي يؤمن بها. أما الخطأ الآخر الذي يقع فيه المؤرخ العربي هو عمله ما وسعه وقته ونشاطه بإبراز كل ما هو لامع ومضيء في تاريخنا، فمنذ فترة ما بين الحربين وحتى يومنا هذا، لم يعالج المؤرخ العربي إلا شذرات قليلة من الصفحات المعقدة في تاريخه.
لقد نظر العرب – مع الأسف – إلى تاريخهم نظرة رتيبة مقفلة بعد مضي أكثر من نصف قرن على ولادة العلم والمعرفة الأكاديمية – العربية. كما لم يساهم المؤرخ العربي في حل الإشكالات والتعقيدات التي مرت بالعرب المعاصرين سياسياً واجتماعياً وثقافياً. لقد تقوقع المؤرخ العربي مع أوراقه وكتبه القديمة بعيداً عن العلل وتوضيح المعلولات وعن النقد وتفكيك الأفكار، فكان هناك من انتهى معرفياً، وكان هناك من هاجر إلى الغرب، بقي من عجز عن ترميم الخلل، والدفع نحو المآزق.
تاسعاً : التربية التاريخية
لقد خرج العرب بنتيجة مفادها أن أبناءهم لا يمكن أن يتتلمذوا ويتعلموا تاريخهم القومي على كتابات الأجانب، وخصوصاً تلك الكتب التي كتبها العديد من الغربيين عن تاريخ العرب والإسلام، أولئك الغربيون الذين اعتبرهم العرب الأداة والوسيلة للإمبرياليين الذين كانوا وما زالوا يحاولون إدانة التاريخ العربي والبحث عن أجزاء مبتورة غير متكاملة منه، فكانوا موضع الشبهات، على أن هذا لا يمكن أن ينسحب على من تخرج من الجامعات الغربية من أبناء العربية، وإلا نكون قد حكمنا على رجال عديدين من المؤرخين العرب الكبار بفقدان الرؤية الشاملة، صحيح أن كلا من المدرستين البريطانية والفرنسية قد أثرتا في الثقافة التاريخية العربية المعاصرة، ولكن ” الخلفيات” أو “المرجعيات” العربية التي تجذر أولئك العرب الذين درسوا في أوروبا، كانت كافية كي تجعلهم يرجعون إلى مواطنهم العربية وهم يحملون ما كانوا قد نهلوا منه أو اكتسبوه من المبادئ المترسخة، يرجعون وهم يحلمون بتنشيط وبعث قوميتهم وتراثهم وتاريخهم من خلال وحدة أمتهم العربية.
إذا ، كيف كان ذلك.؟ وبفعل ماذا كان ذاك الرسوخ؟
لقد كان كل من الأجهزة والمؤسسات السلطوية في الحكومات العربية، إضافة إلى الانتلجنسيا العربية وكبار رجال التعليم التقليدي، قد التقوا جميعاً بالارتقاء ببرنامج في التربية القومية اسمه ” “التربية الوطنية”. وهو يهدف بيداغوجيا ( تربوياً ) وبصورة رئيسية إلى تربية المواطن تربية عربية خاصة يشعر فيها بقيمته التاريخية – العربية إزاء الشعوب الأخرى.
وفي حين أكدت السياسة المصرية في التربية والتعليم على “الهوية المصرية” على مدى قرن كامل، يأتي خطاب عبد الناصر وسياسته كي يؤدلجا هذا المجال بـ”الروح القومية” دون التنصل أبداً من “الجذر الوطني” في حين لعبت أطراف أخرى على أوتار القومية دون تجذير راسخ لمبادئها عند الأجيال الجديدة من خلال التربية والتعليم. فماذا نجد اليوم بعد ما دخلت هذه الأجيال ميدان الحياة؟ ضياع في “الانتماء” بين خيارين أساسيين، هما :” المواطنة” و ” المبادئ القومية”.
عاشراً : الاستنتاجات
ولكن ماذا نستنتج من وراء ذلك كله ؟
يظهر لنا أن أي نظام جاد في التربية القومية، إنما يلعب ” التاريخ” فيه أهم دور أساسي لحياة الأمة، حتى على مستوى التعليمية – الأكاديمية. إن تدريس التاريخ هو غير كتابة التاريخ، ولكن بقدر ما كانت الأنظمة التربوية ( البيداغوجية ) ناجحة في تدريسه، وعلمية في استخداماته التوالدية أو التوحدية أو السوائية، بقدر ما انتصرت كتابته ومفاهيمه ومناهج العمل فيه على نحو معرفي أصيل. ولا يفوتنا أن نذكر بأن الخطاب النهضوي العربي خلال فترة مابين الحربين، قد أكد على ما يقارب هذا الدور لا من أجل العلم وحده، بل من أجل مبادئ “المواطنة” ومن أجل “مستقبل الأمة” والأجيال المقبلة.
ثمة استنتاجات أخرى في مجال ” الخطاب التاريخي ” تؤكد لنا أن أصحابه لم يبنوا ذلك وحدهم، ولم يخرجوا عن حياة الفكر من لاشيء. فقد ساعدتهم في ذلك مرجعيات عديدة وثقافات متنوعة، لم تصل درجة الحساسية أزاءها إلى حد الاستنكاف والاحتقار أو حتى القطيعة المقنعة بالإعلانيات والشعارات الرائجة، إضافة إلى أن الخطاب نفسه قد تنوع في صوره ومضامينه وموضوعاته ، ولم يحصر همومه بتواريخ معينة ومجالات فكر محددة.
وماذا أيضاً .
لقد استطاع جيل فترة ما بين الحربين أن يبني بعض الأسس والثوابت، ثم يترك من بعده ثقافة تاريخية عربية يعبر عنها خطاب نهضوي – تاريخي لم يتواصل سموقه المعرفي والعقلاني مع الزمن والأجيال الجديدة، ولكنه من دون شك بحاجة إلى المزيد من الدراسات والخدمات المعرفية في الفحص والنقد، التي تفيد معاصرتنا العربية هذه الأيام.
الرئيسية / مؤتمرات / الخطاب التاريخي العربي خلال فترة ما بين الحربين العظميين: محاولة ابستيمولوجية في إثارة بعض الإشكاليات *
شاهد أيضاً
دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا
دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا يسرّنا جدا دعوتكم الى الحضور والمشاركة في الاجتماع التأسيسي …