” لي في مديحك يا رسول عرائس تيمن فيك وشاقهن رجاء ”
شوقي على لسان ام كلثوم
لم يبلغ أي واحد من الفنانين المطربين والمغنين العرب ما بلغته السيدة ام كلثوم ابدا .. ولم يصل اي واحد منهم في القرن العشرين ما وصلت اليه هذه الفنانة العربية الاصيلة التي انشدت اليها الاسماع من كل حدب وصوب على امتداد قرابة نصف قرن من الزمن الصعب .. ولقد عايشت هذه المرأة مختلف صنوف البشر وجايلت عهدين تاريخيين متباينين في مصر : عهد الملوك وعهد الجمهوريين .. وغنت في عدة عواصم عربية وفي باريس .. وعاصرت افجع حوادث هذه الامة واشتهرت بوطنيتها وعروبتها ، كما وتميزت بغناء القصائد من عيون الشعر العربي وخصوصا تلك القصائد التي غنتها في مدح الرسول الاعظم .. اشتهرت بحفلاتها الشهرية زمنا طويلا التي كان المعجبون في القاهرة يزحفون اليها .. اما بقية المغرمين بصوتها فكانوا ينتظرون سماعها من خلال المذياع اذ كانت اذاعة مصر تنقل حفلات ام كلثوم على الهواء مباشرة سواء تلك التي كانت تعقدها في حدائق الازبكية ام في اماكن اخرى .. لقد كانت هذه المرأة تحظى بكل وقار واحترام وكانت لها كلمتها وشخصيتها ونفوذها الاجتماعي ناهيكم عن مكانتها في قلوب الناس سواء كانوا من الملوك والرؤساء والاعيان ام من عوام الناس موظفين وطلاب وكسبة وفلاحين .. لقد أحبت الفن واجادت في الغناء اكثر من فن التمثيل السينمائي وبقيت مخلصة في عملها حتى اخر لحظات حياتها .. تعاملت مع العديد من الملحنين والشعراء واشتغل برفقتها عدد من أمهر الموسيقيين المصريين وابرعهم .. تميزت أيضا بقدراتها الادبية والشعرية اذ كانت ذواقة للكلمة وحسن اختيارها للتعبير الجذاب وسحر الالفاظ العربية . انني ما زلت أجد صوتها يسري في كل مكان ، ولم تزل تسجيلات اغانيها وقصائدها وحفلاتها منتشرة في كل البلدان .. ولم تزل معينا لا ينضب وستبقى كذلك زمنا طويلا من مستقبلنا واجيالنا الثلاثة القادمة ، باعتبارها سمة من سمات هذا العصر العربي الحديث.
صورة مختزلة عن حياتها :
اسمها الحقيقي فاطمة ابراهيم البلتاجي ولدت في قرية طماي الزهايرة بمركز السنبلاوين في الدقهلية عام 1898، وطفقت تغني منذ طفولتها وانتقلت الى القاهرة العام 1922وتبناها ابو العلا محمد وشكلت اول تخت موسيقي لها العام 1926، ودخلت الاذاعة المصرية العام 1934كأول فنانة مصرية ، واسست في العام 1943 اول نقابة للموسيقيين برئاستها وبقيت عشر سنوات على رأس النقابة .. لحن لها الموسيقار القصبجي حوالي 70 لحنا ، تلاه الموسيقار السنباطي فلحن لها 95 لحنا ، ثم الشيخ زكريا احمد 57 لحنا والموسيقار عبد الوهاب 10 الحان .. يجمع تراثها الغنائي الزاخر حوالي 700 اغنية وقصيدة ، منها حوالي 136 عملا لأحمد رامي وحوالي 122 عملا لبيرم التونسي .. قدمت للسينما 6 افلام واطلق عليها عدة القاب ونالت جوائز وطنية وعربية لا تعد ولا تحصى وكان لها مكانتها في القلوب بدءا بالملوك والزعماء وانتهاء بالمواطنين العرب العاديين ..
منعطفات وملاحظات في جنبات من حياة ام كلثوم :
لا اريد ان اكتب نبذة عن حياتها ، فهي اشهر من نار على علم ، ولكن ثمة منعطفات مهمة من جنبات حياتها الثرية .. يعجبني جدا ان اتوقف عندها قليلا قبل ان اتحدث عن انفعالاتي وشجوني وانا جالس احضر واحدة من حفلاتها الشهيرة وانا في مقتبل العمر .. دعوني اسجل ما كنت ارغب في تسجيله منذ عهد طويل عن ام كلثوم :
1. ان تراث ام كلثوم الغنائي قد تنوع ليس بسبب تنوع وتعدد الملحنين والشعراء من حين لحين ، بل ايضا كان تنوعا مرحليا حسب تسلسل العقود من السنين ، اذ كان لكل عقد من عقود القرن العشرين نكهته وتعبيراته ومناخاته .. ويمكنني القول ان ام كلثوم قد وصلت قمة ابداعها وعظمتها في اربعينيات القرن العشرين على عهد الملك فاروق ، اذ سبقتها كل من العشرينيات والثلاثينيات استطاعت خلالهما ان تبني نفسها ومكانتها الفنية العالية .. ولحقتها كل من الخمسينيات والستينيات
على عهد الرئيس جمال عبد الناصر .. اذ لا يمكن ان تضاهي خلالهما باعمالها وروائعها التي انجزتها في الاربعينيات ! اما افولها ، فلقد جاء مع نهايات عمرها في السبعينيات وخصوصا في عهد الرئيس انور السادات .
2. لقد تعاملت ام كلثوم مع العديد من الملحنين الكبار ، كان من اشهرهم : الشيخ ابو العلا محمد والشيخ زكريا احمد والموسيقار محمد القصبجي والموسيقار رياض السنباطي والموسيقار محمد عبد الوهاب .. وغيرهم واعتقد ان كلا منهم يمثل مرحلة تاريخية من حياتها الفنية بالرغم من تداخل علاقاتهم مع ام كلثوم .. واعتقد ان ام كلثوم ما كانت لتكون لولاهم ابدا .. كما اعتقد ان اقصى مدى من العظمة قد وصلته هذه المرأة كان مع الموسيقار محمد القصبجي في عقد الاربعينيات وخصوصا في رائعتيهما : ” رق الحبيب ” ! لقد كان القصبجي محدثا تغريبيا بارعا في طبيعة الموسيقى واللحن العربي مع كامل اصالته مستخدما اروع الالحان .. اما كل من زكريا ورياض فانهما يمثلان مرحلتين مختلفتين ومناخين متباينين وادائين متنوعين ، فالاول مبدع في الجملة اللحنية السريعة ، اما الثاني فقد ابدع في الجملة اللحنية الممتدة والطويلة . صحيح ان السنباطي هو اكثر من لحن لام كلثوم من الحان لاغنيات وقصائد ، الا انه وقف ضمن سلم واحد من الموسيقى العربية نوّع من خلاله ، لكنه لم يتجاوزه ابدا وخصوصا في مرحلة الخمسينيات ! ولكن ابان المرحلة الاخيرة كانت ام كلثوم قد اختلفت اختلافا جذريا عن السابق وخصوصا عندما بدأت التعامل مع محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وسيد مكاوي .. الخ الذين راعوا حنجرتها وكبر سنها ومدى مساحتها الصوتية التي اختلفت عما كانت عليه سابقا .
3. مثلما تعاملت ام كلثوم مع عدة ملحنين وموسيقيين ، فقد تعاملت مع عدة شعراء واصحاب كلمة وتعبيرات يقف في مقدمتهم الشاعر احمد رامي الذي كتب لها قصائد لا تعد ولا تحصى ، ولقد وجدت فيه ام كلثوم كل ما تبتغيه من خزين الالفاظ والمعاني الجميلة والمعبرة سواء باللغة الفصحي ام بالعامية المصرية .. ولقد كان وراء ابداعات احمد رامي المدى الهائل لعشقه صوت الست والتصاقه بحفلاتها الشهرية ومعايشته كل تاريخها منذ الاربعينيات . ويأتي من بعده الشاعر بيرم التونسي الذي كتب اغنيات وقصائد جميلة ابدعت في ادائها ام كلثوم وخصوصا تلك التي لحنها الشيخ زكريا . اما القصائد الكلاسيكية والدينية ، فلقد نجحت ام كلثوم في اختيار اجمل عيون الشعر العربي لابي فراس الحمداني واحمد شوقي وحافظ ابراهيم وغيرهم . ولقد ابدعت ام كلثوم في كل من قصائدها الدينية في مدح الرسول (ص) وفي قصائدها الوطنية والقومية العصماء التي غنتها في اوقات مختلفة ومن امهات ما غنت : قصيدة سلو قلبي وقصيدة نهج البردة وقصيدة مصر تتحدث عن نفسها وقصيدة بغداد يا قلعة الصمود وقصيدة انا الشعب انا الشعب .. الخ
4. امتلكت ام كلثوم وازعا وطنيا وقوميا اذ كانت ابنة حقيقية لمصر انبتتها التربة العربية وشهدت اغرب الاحداث والوقائع التاريخية في حياتها .. وتقاسمت عهدين مختلفين في مصر : الملكي والجمهوري ، وبقدر ما كانت نجمة ساطعة في عهد فاروق ، فلقد ازداد توهجها في عهد جمال عبد الناصر وكانت على علاقة محترمة بكل من الزعيمين ، وقد مدحت كليهما معا ونالت من الاثنين المزيد من الجوائز التقديرية .. ولكنها لم تكن في حالة وفاق مع الرئيس السادات .. كما كانت تحظى برعاية وحب وتقدير اغلب الزعماء العرب وخصوصا : الملك الحسن الثاني ملك المغرب والملك الحسين بن طلال ملك الاردن والحبيب بورقيبة الرئيس التونسي والشيخ عبد الله السالم الصباح امير دولة الكويت ونوري السعيد رئيس وزراء العراق وغيرهم . ولعل أقسى حدث تاريخي هزها من اعماقها قد تمثلته هزيمة الخامس من يونيو / حزيران 1967 ، فكانت ان انبرت لتؤدي واجبها تجاه العرب خصوصا بعد ان تناءى لسمعها ان صوت ام كلثوم كان وراء هزيمة العرب امام اسرائيل ، لأنها خدرت الجماهير باغنياتها صبح مساء ! وقد كان ذلك بطبيعة الحال محض افتراء !
5. لابد لي أن اقول بأن المسلسل التلفزيوني عن قصة كوكب الشرق ام كلثوم والذي عرض قبل سنتين قد شوه حياتها كاملة ، وباستثاء صوتها في بعض الاغاني المسجلة ، فان من قام بتمثيل دورها قد خالف شخصية ام كلثوم جملة وتفصيلا سواء في نبرتها ام تصرفاتها ام ملابسها ام حتى في انفعالاتها وحساسيتها وقوة ثقافتها .. الخ ناهيكم عن بعض التشوهات الكامنة في النص والحوارات عن شخصيات عملية وفنية فضلا عن عدم اجادة المسلسل لترتيب الاحداث واخطاء في التواريخ ونسيان احداث وشخصيات مهمة في حياتها الزاخرة ولا يسمح الوقت هنا بذكرها ..
ذكرى قديمة لشاهد الرؤية في حفل لأم كلثوم :
لم ابلغ العشرين من السنين بعد ، عندما جلست في حفلة من حفلات ام كلثوم الشهيرة التي غنت فيه ام كلثوم قصيدة ” الاطلال ” للشاعر ابراهيم ناجي ثم قصيدة ” هذه ليلتي ” للشاعر اللبناني جورج جرداق .. لم اكن اهفو لمثل تلك الكلمات الجميلة فقط ، بل كنت اسعى لأن ارى تاريخا بحاله واقفا امامي .. فعلا ، جلسنا والرفقة عائلية وانا اتطلع الى الناس من حولي . كلهم مثقفون ومتزوجون ويمثلون شرائح وسطى او عليا في المجتمع المصري .. اتذكر انني غيرت مكاني لأني تضايقت من سيدة جلست الى جانبي وهي تنفث بدخان سيكاراتها المتتالية ذات اليمين وذات الشمال ! وفجأة يسكت الصخب عندما ينسدل الستار المخملي للمسرح وتظهر ام كلثوم جالسة بنضارتها السوداء في وسط الفرقة الموسيقية التي كانت قد بدأ عدد من افرادها يداعب باصابعه اوتاره .. لم يكن القصبجي موجودا مع الاسف ، وبدأ عزف المقدمة الموسيقية .. كانت ام كلثوم تستعد نفسيا من دون ان تلتفت للتصفيق الحار ولا للتعليقات الصاخبة .. وكأنها تريد القول : كفى صخبا .. هل يمكنكم ان تهدءوا قليلا وتسمعوا كثيرا ؟ وكأن الناس سمعت ندائها الخفي فسكتت احتراما لشخصيتها القوية ، فقد وجدت السيدة ام كلثوم من اقوى الشخصيات الفنية العربية التي وقفت على المسرح الغنائي حتى مع اقصى تفاعلها مع الموسيقى والكلمات الساحرة .. وراحت الموسيقى رخيمة وعريضة في معزوفة غدت شهيرة جدا واستفادت منها بعض الفنانات الاخرى في الرقص وقت ذاك !
وفجأة أجد الست ام كلثوم تنتفض بقامتها الشامخة وتقف امام المايكروفون الذي يبتعد عنها مسافة وتبدأ تغني وتغني .. وجدت في صوتها حلاوة وطلاوة لا يمكنني ان اجد مثلها عند مطربة شابة .. وكانت ام كلثوم مثالا للحيوية والنشاط في كل حركاتها الفنية .. لم تتفاعل مع جمهورها الا من خلال ما تغنيه من وصلات وكوبليهات من دون ان تحادث الناس من فوق المسرح ابدا .. وجدتها شحيحة في ابتساماتها ، وكأنها تريد القول بأن الطرب ما هو الا عملية معقدة صعبة يتطلب المزيد من الجد لا حتى القليل من الهزل !
ولكن وجدتها ويا للاسف لم تعد تمتلك تلك القدرة العجيبة على العلو في درجات الصوت كما كانت عليه قديما .. لقد كانت تكتفي بمساحة صوتية محددة مع عذوبة صوت لم تبخل بها حنجرتها على الناس بعد ! لم تكن مجهدة ابدا ، ولكن بقيت حريصة كل الحرص على متابعة ما يقوم به العازفون بمعيتها اذ كنت التقط كيف يراقبون حركة يديها في ما تريده منهم ان يفعلونه من اعادة او تكرار او قفلة .. ولقد غدت ام كلثوم تكرر مقاطع قصائدها كثيرا تلبية لما كان الحضور يريده منها دوما ، لقد كانت في الماضي الجمل والمقاطع تباعا ، ولكنها تضفي في كل مرة شيئا ابداعيا جديدا ، ولكنها الان لم يعد باستطاعتها ان تفعل ذلك ابدا .. وهناك سببان اولاهما ان هذه المرأة قد كبرت وشاخت في طبقات صوتها وان عظمتها في بقائها حتى ذلك الوقت تطرب الناس بحنجرتها الماسية وثانيهما ان الملحنين الجدد بدءا بعيد الوهاب وانتهاء بسيد مكاوي قد قيدوا حريتها في النقلات والحركات والتفاعلات الحرة لها .. لقد غدت ام كلثوم ملتزمة بكل صغيرة وكبيرة في اللحن خوف ان تضيع ولو لمرة واحدة ! وهي المعروفة بحرصها على الاداء السليم .. لقد انتهى الحفل بعد ان مر الوقت مسرعا جدا ، نعم لقد انتهى بصخب شديد كما كان قد بدأ .. واختفت ام كلثوم وفرقتها وراء الاستار ، لتسجل في القلوب ذكرى جميلة جدا من اجمل الذكريات .
عن كتاب الدكتور سيّار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية
الرئيسية / فن وموسيقى / أم كلثوم : كوكب الشرق اللامع ..اسطورة الفن الشرقي وقمة الطرب العربي في القرن العشرين
شاهد أيضاً
فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو
ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …