مسألة التعبيرات والمصطلحات المختفية
يتذكر جميعنا من ابناء جيل كان تكوينه في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ، ان دنيا العرب وتفكيرهم وثقافتهم وتوجهاتهم كانت مشبعة بالتعبيرات الوطنية والقومية . وان كلمات الاغنيات القومية الساخنة والحان موسيقييها واصوات مطربيها ومطرباتها تهدر مزمجرة او تسري صادحة عبر اجهزة الراديو الكبيرة ومن ثم جاء راديو الماسكت والترانسستور الصغير .. لقد احتفظت ذاكرتي بحجم كبير من ذلك المأثور الذي دفعني اليوم للتنقيب والحفريات ، فوجدت ان عهد الرئيس جمال عبد الناصر قد شحن باعداد لا تحصى من الفنانين الذين كتبوا الاغنيات وهناك عشرات الملحنين والمغنين الذين لا تعد ولا تحصى اغنياتهم القومية او تلك التي خصّصت للوحدة العربية وللرئيس عبد الناصر نفسه .. واكاد اقول بأن كل المغنين والمطربين في مصر على الاطلاق ابان تلك المرحلة قد ساهم باغنية او اكثر باستثناء من انزوى وآثر السكوت . واعتقد ان تلك ” الظاهرة ” قد عمّت على بلدان عربية أخرى انتهجت السياسة الثورية لتتّبع نفس ما كان في مصر على عهد عبد الناصر . واذا ما انصتنا واستمعنا الى العديد من تلك الاشعار والاغنيات فاننا نجدها تعج باضفاء البطولات والامجاد والعبارات التي تصل الى حد التقديس واضفاء هالة من الخيالات التي توهم الناس بأن حياتهم على احسن ما يكون وان قوتهم عظيمة وان العرب قد حققوا كل امنياتهم وتطلعاتهم واهدافهم ..
اذكر ان جيل الامس لما قبل سنة 1979 كان يهتز بكل مشاعره الملتهبة وهواجسه الصادقة وانفعالاته الفنية اثر أي حدث سياسي مؤثر وعند أي معركة تشتعل بين العرب واسرائيل ، او أي انقلاب عسكري ينجح في صنعه ثلة من الضباط الثوريين .. كانت هناك في السياسة والصحافة والفن ايضا ، تعبيرات ومصطلحات ومفاهيم شائعة لا يمكن ان يخالفها احد بسهولة ، مثل : ” الثورة العربية ” و ” الوحدة العربية ” و ” الاشتراكية العربية ” و ” الامة العربية ” و ” تحرير فلسطين ” و ” المارد العربي ” و ” الجماهير الثورية ” و ” صوت العرب ” و ” قوى الشعب العامل ” و ” الكادحين ” و ” المناضلين ” و ” الارادة الثورية ” ، و ” الحزب الثوري ” و ” العمل الثوري” و ” من الخليج الثائر حتى المحيط الهادر ” و ” الطليعة العربية ” و ” انصار السلام والديمقراطية ” و ” المجد والخلود ” و ” الرسالة الخالدة ” .. الخ
انني اتساءل : اين اصبحت مثل هذه المصطلحات واين تبخرت تلك التعابير في ايامنا هذه ؟ ولماذا اختفت حتى من قواميس اولئك الذين استخدموها استخداما شعاراتيا من دون ان يعملوا حقيقة على تطبيق محتوياتها ابدا ؟ وماذا حل بدلها من تعابير ومصطلحات ومفاهيم ان كان هناك بدائل لها حقا تتربى اليوم عليها قسمات عريضة وواسعة من ابناء جيل اليوم ؟؟ نعم ، لقد حلت بدلها مصطلحات وكلمات وموديلات من نوع آخر ولكنها دينية وليست قومية .. وستعيش هي الاخرى زمنا معينا ثم تموت !! ماذا حل بالتفكير العربي الذي شذ عن قاعدته لآكثر من مرة في القرن العشرين ؟ ولماذا غدا الفن التعبيري العربي وخصوصا الموسيقي والغنائي ميتا او شبه ميت هذه الايام ازاء ما يدور من احداث ساخنة تهم الجميع ؟؟ ولماذا كان لكل جيل همومه والامه ، طموحاته وامنياته .. مع بقاء المشكلات نفسها ، بل وقد تفاقمت بعض المعضلات اكثر مما كانت عليه قبل ثلاثين او اربعين سنة !؟
من المسئول عن اشاعة المفاهيم الخاطئة والدعايات الفارغة من مضامينها في صفوف الناس من اجل اللعب بعواطفهم كي تلتهب المواقف وتسخن التيارات من دون أي نتائج ايجابية يمكن ان يقف عليها ابناء الجيل نفسه ! من ذا الذي قتل تلك الروح الفنية الرائعة التي كانت تبحث لها عن اهداف نبيلة ومشتركة قبل ان توئدها الموجات المتعصبة القاتلة التي تبلورت بعد عام 1979 ، وغدت تسري كالنار في الهشيم لتميت كل الابداعات الفنية الغنائية على وجه الخصوص .. ؟؟ وربما يقول قائل : ان الانكسار الذي حدث في الامة عام 1977 هو الذي امات تلك التعابير التي كانت تثير الوجدان والاحاسيس وتشعل النوازع وتلهب المشاعر المشتركة ، عندما صّرح الرئيس الراحل انور السادات انه سيحطم الحاجز النفسي بين العرب واسرائيل ! ربما كان ذلك صحيحا ، ولكن انقسام التفكير لم يحدث الا بعد عام 1979 نتيجة لأبرز حدث هز المنطقة جميعا متمثلا بالثورة الايرانية التي غدت دينية وأثّرت تأثيرا قويا على كل المنطقة دولا ومجتمعات وثقافات .. .
المعادلة الصعبة : استلاب الفضاء الروحي
لقد كانت الضمائر العربية حية وقت ذاك عند غالبية ابناء الجيل سواء كانوا من اليمين ام من اليسار .. وبالرغم من سطوة التاريخ سياسيا ، وبالرغم من هيمنة الزعماء سلطويا ، الا اننا نتذكر حجم المبدعين ونخبة الفنانين المتميزين من مؤلفين وملحنين ومطربين في الساحات الوطنية والقومية الذين يأتي عملهم رائعا سواء كان مخططا له من قبل السلطة ام يأتي معبرا عن سجاياهم هم انفسهم ونبضاتهم واحساساتهم ازاء الاحداث الوطنية والقومية . نعم ، ثمة استلابات قد حصلت في هذا الجانب ايضا وبشكل يثير الشفقة عند ابناء جيل اليوم الذي اقل ما يمكن ان يوصف به هو جيل مقموع ليس في حرياته السياسية التي لم يعرفها من سبقه ايضا ، ولكن حتى في حرياته الشخصية ومقصي في ابداعاته الوطنية ومستلب في مشاعره القومية ! ليس عند العرب حسب ، بل حتى لدى القوميات الاخرى في المنطقة ـ مع الاسف ـ ! لقد كان التفاعل عند جيل الامس قويا بين الحاكم وشعبه حتى وان اختلف كل منهما عن الاخر سياسيا . لقد حلت القطيعةاليوم بين الحكام ( عربا ام غير عرب) وبين شعوبهم ! لقد كانت ظروف الامس وفضاءاته اليومية المتفاعلة اقوى بكثير من ظروف اليوم وغيبة الفضاءات الروحية والمشاركات النفسية والنوازع المعنوية التي يعيش في خضمها الملايين من خلال التعبيرات الفنية ( وخصوصا : الموسيقية والانشادية الطربية ) المشتركة . لقد حلت اليوم جملة من القنوات التلفزيونية الفضائية المتناقضة في توجهاتها واغراضها واساليبها .. مخترقة كل المجتمعات ، وفي عقر بيوت الناس ومهاجعهم والتي لا يمكن ان تعبر اساسا عن متطلبات الملايين الذين خذلوا حتى في ابداعاتهم الفنية ومشاركاتهم التعبيرية نتيجة تهشم تفكيرهم وانزواءاته عن مجمل القضايا الحيوية التي تهم حياة الامة ومصيرها ، اذ لم نجد كما عبرت عنه مؤخرا في الاحداث الاخيرة الا شتائم وسباب على الزعماء العرب وحكوماتهم ، او اجترار لتعبيرات وانشودات ميتة !
النماذج من الاسهامات الرائعة
وللمرء ان يتساءل اليوم : ماذا ستكون عليه رؤية العرب وافكارهم وابداعاتهم لو حدثت هكذا احداث بمثل مأساويتها قبل اربعين سنة ايام كانت اجراس العمل الثوري والقومي تقرع في كل مكان ؟ وبالرغم من خروج ما اسمي بـ ” الشارع السياسي ” اليوم في بعض المدن العربية الصاخبة ، الا ان الاحداث الخطيرة الكبرى لم يعد لها أي تأثيرات او محفزات تختصرها تعبيرات ومفاهيم ومواقف وابداعات ومشاعر وكلمات وانفعالات وقصائد واغاني .. احداث مأساوية تنقلها شاشات التلفزيون نحو دواخل كل بيت عربي ولكن لم ينتج عنها تعبير مؤثر وساخن بالرغم من تأثيرها الصاعق في اعماق النفس ، فالاصوات المغناة بكل قوة وعنفوان تسحب الانسان من انسحاقاته وتجعله قويا من الناحية الروحية على الاقل .
اليوم ، لم تعد وسائل التعبير الاعلامي وخصوصا الادبي والمعنوي والفني وحتى السياسي عنها بنفس حجم ما كان يعّبر به جيل الامس ايام الاذاعات ذات الاصوات الهادرة التي كانت كافية لوحدها ان تصنع رأيا عاما بالكامل ! اننا ان توقفنا فقط عند نماذج رائعة من الابداعات الغنائية القومية وتناولنا بدراسة معمقة اثارها على مشاعر الجماهير في عقود : الخمسينيات والستينيات والسبعينيات لوجدنا كم كان تأثيرها في الذات والتفكير والمشاعر وصناعة المضامين الفنية القومية والرأي العام الماحق .. والتي لم تجد لها أي تطبيقات لها على ارض الواقع السياسي مع الاسف نظرا لاسباب داخلية وخارجية مريرة . ان منتجات تعبيرية معينة اسقطت حكومات واثارت مشاعر وصنعت انقلابات .. من منّا لم يسمع بنشيد ” الله اكبر ” الذي كان مثيرا الى درجة الغليان ! ومن لم يسمع بنشيد ” يا ويل عدو الدار ” الذي الهب العواطف القومية ؟؟ ومن لم يتأثر باغنية قومية تقول ” امجاد يا عرب امجاد .. في بلادنا كرام اسياد ” للفنان كارم محمود ، ومن من ابناء جيلنا لم يسمع اغنية الوحدة ” انا واقف فوق الاهرام وقدامي دجلة والشام ” للفنان محمد قنديل ..
من منا لم يتحسس عمق المعاني وروعة الاداء الذي اداه الموسيقار محمد عبد الوهاب في قصيدة الشاعر علي محمود طه : ” اخي جاوز الظالمون المدى ” ، وهل صمتت كوكب الشرق ام كلثوم عن نبل المقاصد القومية عندما كانت تخص الاحداث الثقيلة بكل مبدع وجديد ؟؟ لقد انتقلت من التعبير عن قصيد ” مصر تتحدث عن نفسها ” الى التعبير عن صوت الشعب في اغنية ” انا الشعب انا الشعب شعب العلا والنضال .. ” وتعاطفت مع ثورة العراق عام 1958 ، فغنت عن بغداد اقوى نشيد هادر: ” بغداد يا قلعة الاسود .. ” وصولا الى قصيدة نزار قباني ” بندقية .. ” وكانت الفنانة سعاد محمد قد شدت من قبلها قصيدة أبو القاسم الشابي فعبرت بمنتهى الحلاوة عن رائعته : اذا الشعب يوما اراد الحياة ” .. اما المطرب عبد الغني السيد ، فقد ابدع في غناء قصيدة علي الجارم عن بغداد والتي مطلعها : ” بغداد يا بلد الرشيد ومنارة المجد التليد ” وغنت فائدة كامل الاغنيات الوطنية والقومية الثورية ، وابدعت في رائعتها الساخنة : ” يا شعب العراق ” .. اما الفنان عبد الحليم حافظ فقد كانت رائعته : ” السد العالي ” قد راقت لامزجة الشباب وقت ذاك ، وكان شباب الامة اجمعهم يغنونها وكأن السد العالي سدا منيعا لهم جميعا .. اما الموسيقار فريد الاطرش ، فقد شارك هو الاخر في نفخ الروح القومية منذ بداياته الاولى عندما غنى اوبريت ” بساط الريح ” وصولا الى انشودة : ” المارد العربي ” .
ولعل ابرز الاوبريتات التي خصصت توزيعاتها للامنيات العربية ، كان اوبريت ” الوطن الاكبر ” الذي لحنه محمد عبد الوهاب ، واداه كل من : عبد الحليم ونجاة وشاديه وصباح وفايدة وفايزة وورده .. اما الفنانة فيروز ، فقد كانت سيمفونيتها : ” زهرة المدائن ” تعبيرا غير عادي يفجر كل الامكانات منذ ان فقدنا مدينة القدس عام 1967 حتى يومنا هذا .. ولم تزل هي الاغنية رقم واحد عن القدس الشريف ولم تتجاوزها أي اغنية وطنية او قومية او دينية .. فضلا عن كاسيت كامل من الاغنيات القومية التي صدحت فيروز بها منذ هزيمة 1967 واولها ” الان الان وليس غدا ” ولم تنس فيروز بغداد التي غنت لها قصيدة رائعة في السبعينيات ، في حين لم ينس المطرب وديع الصافي سوريا التي غناها اعذب مواويله.
من ركود الذاكرة الى الغيبوبة والاختفاء
ومن يتدارس خصوصية تلك التعبيرات العربية المغناة سيجد ان العراق كان له قصب السبق في تفكير مصر والمصريين ايام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي ناصب نظام الحكم الملكي في العراق كل العداء وسخر كل الاقلام وكل المبدعين كي يشدو اغنياتهم عن العراق وشعبه وثورته ايام الخمسينيات ، وما ان اختلف نظامي الحكم الجمهوريين في العراق ومصر مع بعضهما حتى اختفت كل تلك الاغاني الرائعة من الاذاعات ، وخصوصا اذاعة صوت العرب ! ولم يكن حال فلسطين افضل من حال العراق ، فما ان وقعت معاهدة كامب ديفيد بين مصر واسرائيل حتى اختفت تلك الاغاني ، ولم نسمعها الا على استحياء في بعض المرات . ان وسائل التعبير والابداع تتصاعد وتيرتها عند العرب ايام حدوث أي مأساة ! ولكن ما ان تمضي فترة زمنية عليها حتى تختفي من التفكير ، وتهجع راكدة في الذاكرة العربية بانتظار مأساة جديدة ! او ان ترتبط الاغاني الوطنية والقومية بعهود زعماء معينين ، فما ان يغيب ذاك الزعيم حتى تغيب معه ليس اغنياته ، بل تلك التي انتجت في عهده ! ثمة تساؤل يقول: اذا كان بعض الاغاني القومية الساخنة قد وظف لاغراض دعائية وسياسية ضمن حرب باردة بين بلد عربي وآخر في فترة زمنية معينة ، فما ان تقلب صفحة جديدة حتى تختفي اغنيات المرحلة كاملة من الوجود .
استلاب التفكير : استنتاج مرير
قلت لآحد المسؤولين قبل ايام وكل الدنيا منشغلة بما يحدث من مجازر في جنين : وهل انت مصّر على احتفاليتك الراقصة غدا .. اجاب بكل برود : وهل نتوقف عن الحياة بسبب جنين ؟! لم اعجب من جوابه ولكن تعجبت من زمن هو غير الزمن الذي عرفته وتربيت فيه وانا غض غرير وفي مقتبل العمر ، عندما كانت ثورة التعبير في اوج عنفوانها ، كان كل شيىء ينشغل بالحدث ومصيره .. ولم اعجب اليوم ابدا من سكرتيرة اسألها : ما الاخبار ؟ فتجيب بكل برود : عادي ، لم يقتحموا كنيسة المهد بعد فينتهي كل شيىء!! اتذكر ان الامة كانت على غير ما هي عليه اليوم ، ولم اتعجب من كلام ذلك المسؤول او تلك السكرتيرة لأنني لم اجد المحطات الفضائية هي الاخرى قد تخلت عن برامجها اليومية الحافلة بالافلام والمسلسلات والاغاني والرقصات وانها لم تقطعها لتخصصها كاملة لاثارة الرأي العام ازاء اخطر قضية تاريخية عاصرتنا على امتداد قرن كامل ؟! وازاء احداث مأساوية نالت تعاطف العالم كله ! اكتب هذا وانا اتساءل : هل لقي ” الحدث ” المأساوي الصعب في جنين عناية تذكر من قبل الفنانين العرب اليوم ؟ نعم ، لقي النادر والقليل جدا ، ولكنه ذهب ادراج الرياح لأن الدنيا العربية قد تغيرت ، اذ ان هناك من يقول : وماذا نفعتنا تلك الاغاني العاطفية والحماسية في صراعنا ضد العدو ؟ لا ادري ، انني اعتقد ان المشكلة ليست في ما غنينا فقد كانت اغنياتنا القومية ذكية ورائعة جدا ، ولكن المشكلة تكمن في سياساتنا القومية الغبية، ولأن الناس في امتنا قد تغيروا بغير الناس ولله في خلقه شؤون !
نشرت في جريدة النهار البيروتية ، بتاريخ الخميس 28/5/ 2002 ونشرت أيضا في ملحق ألف ياء ، الزمان اللندنية ، العدد 1230 ، بتاريخ 10 يونيو / حزيران 2002. *
شاهد أيضاً
فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو
ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …