لقد كانت أول مناداة لي بهذا ” المشروع ” عام 1988 ( انظر كتابي : التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ) ، وكان هناك أكثر من سامع ولكن لم يكن هناك من مجيب أبدا !! وبرغم اعادتي النداء مرات ومرات اسوة بزملاء لي قدموا مشروعات غاية في الخصب والجودة ، ولكنني وصلت الى قناعة مهمة اننا نحن العرب لا يمكننا النجاح في أي عمل جماعي .. وان بدأت ثمة جماعات تعمل وتنشط من اجل المصلحة العامة .. قمعت وسحقت واتهمت بشتى التهم مع الاسف ! ولكن اعيد النداء من جديد ، وأقول: لابد من تحليل أهمية العلوم المستقبلية والمطالبة بتأسيس هيئة لهذا الغرض .. ان الحاجة ماسة جدا للاستفادة من ذلك في بناء رؤى وخطط وسيناريوهات لمستقبل منظور أو بعيد . ثم لابد من تقديم تحليلات وافية وعلمية تخصصية ومعرفية انسكلوبيدية عن الأولويات التاريخية والاستراتيجية التي لابد لدولنا ومجتمعاتنا أن تعتني بها عناية خاصة من اجل تقويم ما حققته على مدى ثلاثين سنة من حياتها أن تحقق شيئا ، إذ تنبؤنا التقارير العالمية عن نتائج مأساوية لا يمكن أن نتخيلها على الإطلاق ..
المستلزمات الضرورية
ثمة مستلزمات ضرورية تخص الجوانب : الديمغرافية وتوطين سوق العمل والعولمة في إطار نظام عربي اقتصادي جديد والمحافظة على الاستقرار من خلال العمل على تطوير البرامج السياسية واعادة هيكلة المؤسسات الدستورية في كل بلد عربي من اجل أن تتوافق طبيعة الحكم والنظام السياسي للدولة مع متطلبات العصر أولا واستحقاقات الشعوب والمجتمعات على السلطات والدول ثانيا . ولعل ذلك من أهم ما تحتاجه دولنا العربية كافة ، ذلك أن الإصلاحات في القوانين سيقود لا محالة إلى التطورات الدستورية ثم تطوير آليات التنمية الاقتصادية من خلال الموارد البشرية .. ونؤكد ـ هنا ـ كثيرا على تأسيس بنية فوقية عربية واجندتها العليا من خلال تطوير أجهزة التربية وعناصر التعليم والمناهج والبرامج التي هي بأمس الحاجة اليوم إلى إعادة هيكلة وتحديث من الجذور .. ثم التأكيد على تطوير أساليب الحياة من خلال التزاماتها القانونية وحقوقها وواجباتها ضمن ما تنص عليه الدساتير. ولابد من إعطاء رؤية استراتيجية للأمن الخارجي باعتبار أن منطقة الشرق الأوسط تعج بالتحديات والمخاطر نتيجة وجود إسرائيل أولا ووجود الثروات البترولية ثانيا .. وعليه ، فان التأسيس على ذلك هو جزء لا يتجزأ من صياغة توجهات المستقبل . وهنا أشير إلى ما حصل من تحديات محلية وإقليمية ودولية وكيفية معالجتنا لها واستجابتنا لمخاطرها . إن تجارب اكثر من ثلاثين سنة من التأسيس والتنمية والتطور .. تعلمنا القراءة التاريخية لها أن مجتمعاتنا هي المستفيدة الوحيدة من تجاربها من اجل مستقبلها الذي سيتميز بشكل كبير جدا على أيدي النخب الفاعلة والذكية والعاملة ، وان حقوقها سترجع إليها لا محالة في حالة معرفتها كيفية انفتاح طريقها نحو المستقبل وترك كل ادران ماضويات القرن العشرين من ورائها .. ومن خلال محاولاتها المستمرة والدائمة عن انفتاح أبواب جديدة على كل العالم من اجل بناء مستقبل لامع لها .. “. وعليه لابد ان نطالب دولنا ومجتمعاتنا أن تتعلم من تجارب الأمم الأخرى التاريخية ، باعتبارها تجارب بنائية فريدة من نوعها في التاريخ المعاصر
مجتمعاتنا : حقوق وواجبات من اجل مستقبل الرفاه
يعتني العالم كله اليوم ببناء مجتمعات معرفية ذكية مستقبلية تقدم تحليلات وافية من اجل نموذج دولة الرفاه وتعريفها للعالم كله ، وعليه ، لابد من تطوير المراحل التاريخية التي تطلبتها دولنا ومجتمعاتنا العربية للوصول إلى مستوى الرفاه ، والتعلم من تجارب الماضي الصعبة على أيدي الجيل السابق وما يستوجب معرفته اليوم من قبل الجيل الحالي .. ثم كيفية مواجهة جملة من التحديات والمخاطر عن بضعة حالات لابد لكل من الدولة والمجتمع ان يفكرا فيها وخصوصا ما يتعلق بالتخلف والركود والفساد والرشوة وتبذير الثروات والبطالة المقنعة والجوانب الاستهلاكية والأنفاق وسوق العمل والمحسوبيات والقيادات الغبية والأساليب التعليمية الفاشلة والمؤسسات المترهلة والاختلاسات والقهر السياسي والقمع الاجتماعي وغياب الحريات واعتقال البحث العلمي واستهلاك الزمن من دون أي إنتاج فيه .. الخ من العوامل التي أخرت مسيرتنا واضرت بتاريخنا ولابد من تطبيق تفصيلي لعدد من البرامج والسيناريوهات من اجل مستقبل عالمنا العربي ومحيطنا الإسلامي ، والاستفادة من تقييم تجارب عربية في بناء المستقبل وكيفية تحقيقها انتصارات مدهشة في الثلاثين سنة الأخيرة .
العرب والعالم : من نحن في الرأي العام العالمي ؟
لابد من الوقوف عند هذه الظاهرة الخطيرة نظرا لتفاقم أهمية الثورة الإعلامية الحالية في صناعة مستقبل الأمم والشعوب في مستقبلنا ، ذلك إن رصيدا من الإيجابيات والسلبيات يمكن أن يحددها الرأي العام . وعليه ، فان تحقيق الحد الأدنى من الإعلاميات الموضوعية المعتمدة على ما توصل إليه الإعلاميون والمختصون من وثائق واوراق وتقارير ومنشورات توضح الإجماع على المواقف والمعاني وصناعة الأخبار والمناداة بالأفكار وتقديم التحليلات الجادة والملتزمة سيزيد حتما من وتيرة التطور في الانجذاب يوما بعد يوم للقضايا الأساسية التي تهمنا نحن أساسا ، ورصد بعض المواقف السلبية وخصوصا تلك التي تبلورت بشكل واضح بعد 11 سبتمبر الماضي ! وهنا لابد من المطالبة بتفعيل أدوار لجان وأفراد على مستوى الدولة لمعالجة الأخطاء التي وقعت ولم تزل تقع فيها بعض المؤسسات والموسوعات في عالمنا وعالم الآخرين . وكل ذلك من اجل الخروج بنتائج مهمة جدا ..
من اجل منجزات بنيوية ومؤسساتية
لابد من الالتفات إلى هذا الجانب الحيوي ودراسته على امتداد الرقاع العربية وكيفية انتصاره من اجل تطوير المكان والبيئة وقهر الصحراء من خلال العناية الرسمية بالمياه العذبة والأرض والري والشجرة وكل كائنات البيئة العربية الجميلة التي غدت متطورة جدا من خلال نموذج المدينة العربية التي لابد من تطويرها باعتبارها من اقدم مدن الدنيا ، ناهيكم عن عراقتها وتقديمها إلى العالم بكل روعتها المدهشة وخلق جمالياتها واستحواذ عبقرياتها وتنشيط فاعلياتها الجغرافية المتنوعة .
إن هذا النداء الذي يتمثل صيحة أعيدها مرات ومرات ما هو إلا مجرد محاولة متواضعة من أجل فهم مستقبلي جديد لسيرورة أوضاعنا وأحوالنا عند بدايات القرن الواحد والعشرين نحو الآتي من الزمن في ضوء المتغيرات العولمية والدولية والإقليمية . وهو نداء يسعى لمفاتحة كل الدول والمؤسسات والمنظمات ومراكز البحوث والجامعات من اجل تأسيس هيئة عربية عليا تضم رجال علم واختصاص مشهورين في العالم بعيدا عن السياسيين والمتحذلقين ووعاظ السلاطين والمثقفين السلطويين .. بل يتشكل طاقم عمل له نشاطاته التي يقترح من خلالها مجموعة اجتهادات معرفية قد تخطيء أو تصيب ، وأزعم أنها في كل الأحوال ستكون مجردة من اليوتوبيا لمقاربتها الواقع ، ولكنها متطلعة لنوع من التمنيات غير المسيسة ولا المؤدلجة ! وهي توجهات موضوعية نظيفة ومخلصة ومفيدة لبناء مصالحنا العربية والإقليمية العليا والدنيا في غمرة ما يسجله الآخرون في أجزاء أخرى من العالم لأنفسهم من مستقبليات في خطط نظرية وهندسيات عملية من أجل بناء مصالحهم المتنوعة .
ان توفير أي قدر من الاستشارات والآراء والأفكار لابد أن تصاحبه أخلاقيات مجردة من عوامل شخصية او قطرية او طائفية أو جهوية .. الخ بل أن توفر قدراً من الآراء و الأفكار التي ستنفع لا محالة إن لم تكن لامتنا كاملة ، وانما لمناطقنا الداخلية في عالمنا من الجنوب وصولا إلى تأسيس كتلة ” إقليمية اقتصادية إستراتيجية ستخدم العالمين العربي والإسلامي معا في القرن القادم حيال تفاقم قوى العولمة وتفاعلاتها في العالم كله ، إيجابياً وسلبياً .
إن المشروع المتواضع الذي يتضمنه هذا ” النداء ” بانطلاقته في الهندسة الإعلامية العربية منطلقة من أهم المناطق الجيوستراتيجية في العالم على امتداد النصف الأول من القرن القادم ، فهي بدون جدال ستحتاج إلى الاستقرار والتقدم وهي تتعامل مع عولمة المستقبل ، والتفاهم مع القوى الإقليمية في المنطقة . إن أي مشروع لابد أن يتضمن بعض الركائز الأساسية ، وهي بدورها بحاجة إلى مزيد من التفصيلات والبيانات والتحليلات والمقارنات التي يمكننا توضيح بعض أبعادها ومستلزماتها في مقال آخر يعالج أولويات المستقبل .
ما النتائج ؟ ما الثمرات ؟
1/ سيعمل هذا ” المشروع ” على زيادة الوعي العربي بأهمية المستقبل ومخاطره والتعلم على كيفية مواجهة التحديات المتنوعة والاستجابة لها من باب القوة والمنعة والمعرفة المبكرة .
2/ سيعمل هذا ” المشروع ” على بناء تفكير عربي عالي المستوى يمكنه أن يقدم نتائج عمل عربي جماعي ، وعادة ما تفشل المشروعات الجماعية لأسباب تافهة إذ لم نثبت للعالم حتى اليوم بأننا قادرون على إنتاج العمل الجماعي العربي .
3/ سيقدم هذا ” المشروع ” أفكاره لكل من الدولة والمجتمع والتي ستنال من التقييم العلمي ما يجعلها متوفرة عند أصحاب القرارات من الرؤساء والملوك والحكام العرب الذين لابد لهم أن يعتمدوا ويستعدوا لمناقشة الأفكار المستقبلية بعيدا عن الأوهام والاستشارات الفردية .. أو حتى عن المشايخ والسحرة عند البعض لا من اجل الأهداف التي رسمناها آنفا ، بل من اجل السلطة والهلاك من دونها !
4/ ان مجرد تأسيس هيئة عربية عليا من اجل المستقبل ، لا يعني أنها ستكون منعزلة عن روح المجتمع ومتطلباته والعمل على المناداة بتحقيق استحقاقاته من قبل السلطات والحكومات والدول .. إنها ليست برلمانات سياسية ولا نقابات مهنية ، بل هي بمثابة تجمعات معرفية وثقافية عالية المستوى يطلق عليها اليوم بـ ” الفوريومات ” .
5/ لا يمكن أن يسمح المجتمع أبدا لأية هيئة معرفية عليا مثل هذه أن تغدو دمية بأيدي الحكام وأجهزة المخابرات والامن تسيرها حسب مشيئتها وارادتها .. أبدا ، فهي تعبير صادق ومخلص لارادة المجتمع من اجل تطوره وخدمة مؤسساته المدنية والأهلية وليست في خدمة الحكومات واغراضها السلطوية .
واخيرا ، لابد لي أن أوضح بأن هكذا ” مشروع” سيوفر عملياً لعالمنا في كل أصقاع الجنوب بعد تطبيقه مزيدا من الأمن والاستقرار وبناء المستقبل وصناعة تكوينات أجياله ، وسوف يكون عاملا مساعدا في تقريب بعضنا من البعض الآخر من خلال مفاهيمنا الإسلامية والحضارية والإنسانية النبيلة .. ويقربنا للعالم كله .. فهل نحن قادرون على تأسيس ذلك عند فاتحة هذا القرن ؟ إنني اشك في ذلك في ظل الأوضاع المأساوية الحالية .
( الزمان ، العدد 1313، 16 ايلول / سبتمبر 2002 ) .
الرئيسية / مشروعات / مشروع استراتيجي.. نحن وأولويات المستقبل.. صيحة ثانية من اجل تأسيس هيئة عربية عليا للعلوم المستقبلية !
شاهد أيضاً
ممكنات التقدّم : من اجل مشروع في الاصلاح والتغيير (الحلقة الثانية)
كنت قد حللت قبل سنوات وثيقة الاسكندرية للاصلاح ، والتي تعتبر واحدة من اهم الوثائق …