نشرت مجلة ” المجلة ” الصادرة في لندن في عددها الأخير ريبورتاجا مهما عن جامعة الدول العربية منطلقة من تساؤلات ثلاثة : هل أنها محتضرة في طريقها للزوال ؟ أم أن الحاجة تقضي بعلاج أوضاعها واصلاحها ؟ أم أنها على ما يرام وهي تمضي في سبيلها كما كانت عليه منذ أن نشأت قبل اكثر من نصف قرن ؟؟؟ لقد كان هذا الموضوع يشغلني كثيرا منذ زمن طويل ، وكم اشتركت مع زملاء لي من أساتذة ومفكرين في التطرق إليه عندما أشرفنا وناقشنا بعض الاطروحات الجامعية عن موضوعات تخص جامعة الدول العربية في بعض أروقة الكليات والأقسام العلمية .. كما تنبؤنا وبشكل واضح تلك الأدوار الفنية التي أدتها هذه المنظمة العربية في ظل أوضاع وعهود وتحولات سياسية متنوعة . ولما كانت قد وصلت إلى درجة من الضعف والهزال عند نهاية القرن العشرين ، اشترك الجميع في إدانة امينها العام السابق السيد عصمت عبد المجيد كونه حجر عثرة في سبيل دورها وفاعليتها ، وقد كتبت ونشرت مرات عدة في اكثر من مكان بأن المشكلة ليست إلا في هذه المنظمة الكسيحة نفسها والتي لم يكن لها في تاريخها الطويل إلا تنظيم مؤتمرات القمة العربية ومؤتمرات وزراء الخارجية وليس لها إلا إلقاء الكلمات الافتتاحية واعلان الشعارات وتدبيج الخطابات واستقبال الوفود وتوديع الوفود والتمثيل الصامت في حوارات الطرشان !!
إن جامعة الدول العربية ، والأمر معروف للجميع ومن دون أية اتهامات ، لم تقدّم على امتداد تاريخها الطويل أية حلول جذرية للمشكلات العربية الصعبة والسهلة . كما وأنها لم تكن إلا مكانا يجتمع فيه القادة والزعماء العرب ويتصافحون في اليوم الأول ثم يتنابذون في اليوم الثاني ثم يتفرقون في اليوم الثالث !! وأنها كانت ولما تزل ضائعة وسط تيه السياسات العربية وتموجاتها ، ولم تنجح في أداء أو تقديم أي مشروعات كبرى : سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية أو تربوية .. الخ سواء على مستوى المصالح المشتركة العليا أو حتى على مستوى المصالح المنفردة الدنيا . إنها كانت ولم تزل عالة على من يمولها عبر هذا التاريخ الطويل ومن يقارن عمرها الذي تجاوز اكثر من نصف قرن وما حققته من أهداف ومكتسبات سيصل حتما إلى نفس النتائج التي وصلنا إليها ويا للأسف الشديد .
المنطلقات الأولى : مشروع أماتوه منذ البداية !
لم يكن ذاك الرجل الذي فكّر في تأسيسها وناضل من اجل بنائها إلا أن تكون : منظمة عربية اتحادية لها قوتها وفاعليتها ليس بين الدول العربية ، بل في العالم اجمع . وبالرغم من عدة الشائعات التي شاعت عنها أنها من صنع الإنكليز إلا أن موضوع بقاءها الطويل المتزامن مع عمر وتاريخ هيئة الأمم المتحدة ينفي عنها ما راج عنها اثر الحرب العالمية الثانية . لقد أرادها الزعيم العراقي نوري السعيد – رحمه الله – مشروعا لهيئة عربية عليا تؤسس على مهل نظاما Order عربيا اتحاديا لا مركزيا أي اقرب إلى السمة الفيدرالية ينبثق من نسق Organic مشترك لبناء مصالح حيوية لنظام عربي بين العرب والعالم كله ضمن أي توجه يختاره العرب وفي إطار ما يسود في المجتمع الدولي وقت ذاك . ولكن تخبرنا الوثائق التاريخية أن هناك من اعترض اعتراضا أساسيا على ذلك التفكير العملي إذ أرادها جامعة للدول العربية لها من الشعارات والأجهزة والنفقات ولكن لا تأثير أو فعل لها في السياسات العربية المتنافرة ! وبدل أن تكون تلك المنظمة التي أسموها بـ ” الجامعة ” عاملا مؤثرا في التوصل إلى كلمة سواء ، حدث العكس تماما إذ تخبرنا صفحاتها التاريخية أنها كانت من الناحية السياسية عاملا في التفرقة وأنها ألعوبة بيد هذا أو ذاك ، ولم يكن لأمينها العام في يوم من الأيام تأثيره القوى في رسم أية سياسات مشتركة أو حل أي منازعات خفية ومعلنة ، ولا أي دور مؤثر في أبعاد الصراع العربي – الصهيوني ، ناهيكم عن عجزها في تقديم أية مشروعات حيوية للمجتمع العربي اللهم باستثناء ما قامت به بعض أجهزتها الثقافية المرتبطة بها رسميا ..
الجامعة : لعبة مصالح ضيقة !
وربما طلب مني بعض الاخوة القراء مثلا صارخا اضربه لهم عن لعبة المصالح السياسية العربية في توجهات جامعة الدول العربية. واعتقد أن كل من عمل في أروقتها ومكاتبها من شخصيات سياسية عربية مرموقة أبدت انطباعات ومواقف وذكريات سيئة للغاية عن هذه الهيئة التي دوما ما تكون واقعة تحت ضغوط عربية من نوع ما لهذا أو ذاك .. كما أن العلاقات بين موظفيها لم تكن إلا انعكاسا لتوجهات بلدانهم وتشنجاتها ، أو حتى لأولئك الذين يجتمعون فيها لأمر ما فقد كتبوا المزيد من السلبيات باستثناء عواطف المحبة الساخنة ومشاعر الاخوة الشقيقة التي سرعان ما تتبخر في الهواء ، وتبدأ تكال الشتائم والسباب المقذعة.. اذكر مناقشات بائسة ومجادلات ومشاحنات وشتائم وسباب دارت كلها في قضية حساسة وحمل وفد عربي أقذع أنواع المهاترات ووقفت الجامعة ضده في مطلع الستينيات وعادت لتقف ضد نفس ذاك البلد في مطلع التسعينيات ودارت مشاحنات سيئة بين الوفود التي لم يكن إحساس أي وفد عربي في يوم من الأيام انه يجلس تحت قبة واحدة مشتركة ، بل عدت هذه المنظمة من قبل أصحابها العرب مجرد سوق هرج ومرج تقوم فيه دكاكينهم وكل دكان يعرض بضاعته على طريقته الخاصة من دون أي وازع بالمسؤولية المشتركة التي يقرها النظام الداخلي لتلك السوق التي كانت ولما تزل يعتبرها الجميع سوحا لتصفية الحسابات ، وأيضا كل على طريقته الخاصة ولم يستطع أي عقلاء ونشطاء أحرار من ممارسة الدور الحقيقي في أروقة المنظمة !
اذكر أنني شاركت في واحد من المؤتمرات الفكرية والسياسية العربية التي عقدت في عاصمة عربية شهيرة قبل سنوات ، كيلت الاتهامات جزافا والشتائم علنا ضد د. عصمت عبد المجيد كونه المسبب الحقيقي لضعف جامعة الدول العربية ، فانفردت أتحدث وقلت : يا عباد الله إن المشكلة ليست في الرجل بقدر ما تكمن في المؤسسة نفسها التي لا حول ولا قوة ولا سيطرة على نظام عربي مفكك ومهلهل هذا يأخذه بالطول والآخر يجرّه بالعرض وهناك من يمشي به ذات اليمين وذاك ضربه صوب الشمال ! وعندما رشح د. عمرو موسى واصبح أمينا عاما جديدا ، هلل الجميع وفرح القاصي والداني وكأن الرجل سيحقق المعجزات ولم يجد سلفه المسكين في الصحافة العربية إلا الشماتة والتنكر والتجريحات المؤلمة . قلت لأصدقائي : انتظروا قليلا فسترجع حليمة كما كانت على عادتها القديمة ! وفعلا ، بدأ امينها العام الجديد خطابه الذي تأمل الجميع انه المنقذ للامة العربية ، ولم تمض عدة اشهر حتى أسيء للجامعة من جديد واتهم امينها العام بشتى التهم لا لشيء إلا لأنه عد عمله تدخلا سافرا في ما لا يعنيه ، كما واتهم مرات عدة بالانحياز وعدم الحيادية لا لنقص فيه ولا مثلبة لمن اتهمه بل لأن المنظمة هي كسيحة أساسا لا تقوى على حل مشكلاتها نفسها ، فكيف نطلب منها أن تحل مشكلات عربية أصبحت مدولنة ويشارك في تعقيداتها العالم كله من خلال تدخلات سافرة .
هل من تأسيس نظام متكافئ عربي جديد ؟
نعم هذا هو السؤال الحقيقي الذي يفرض علينا نفسه اليوم . وثمة أسئلة أخرى لابد من إثارتها حاليا والمنطقة تعيش في أحرج ظروفها وهي على أبواب متغيرات تاريخية قوية وثقيلة : متى يتعلم العرب العبر والدروس ؟ ومتى يمكنهم أن يمتلكوا الرؤية بعيدة النظر وكأنهم لم يدخلوا مع كل هذا العالم القرن الواحد والعشرين ؟ هل باستطاعتهم اليوم وبعد كل ما يجدونه في واقعهم المضني أن يعيدوا التفكير في مخلفات القرن الماضي وجامعة الدول العربية في مقدمة تلك المخلفات ؟ هل باستطاعتهم أن يكونوا شجعانا كآبائهم الصيد من اجل أن يغلبوا مصالحهم المشتركة العليا على منافعهم المجتزئة الدنيا ؟ هل باستطاعتهم أن يكفوا عن تقديس المركزية والأبوية والنرجسية التي خربت بيوتهم ومن ثم يعملون على إلغاء منظمات الماضي وأحزابه وأفكاره .. من اجل البدء حقيقة بنظام تاريخي جديد وأصيل ونزيه يوفر البدائل البراغماتية واللامركزية والكتلوية والحيوية والسريعة والمتجانسة والمنفتحة من اجل خلق منظومة جيو استراتيجية جديدة في المنطقة مؤهلة للتعامل مع منطلقات هذا العالم والاستجابة لكل تحدياته المتنوعة التي تصعقنا سياسيا واقتصاديا وإعلاميا ؟؟ هل يمكننا أن نشّيع جامعة الدول العربية إلى مثواها الأخير معززة مكرمة كي تنبثق منظومة هيئة جديدة بكل أبعادها ومواثيقها الجديدة لتفرض نفسها ضمن أساليب تضامنية جديدة لا تمت بصلة إلى المشروع القديم الذي عفا عليه الزمن ؟؟ إن المخلفات القديمة في طريقها للزوال شئنا أم أبينا على أيدي أبناء الجيل الجديد الذي سيتولى ميادين الحياة بعد انتهاء العقد الأول من هذا القرن وستمضي مع تلك المخلفات كل تلك الأجناس المتخلفة من البشر الذين ضيعوا أمتهم في أسواق المؤدلجات والشعارات والسياسات الفضفاضة وستموت أصواتهم المجعجعة والمجلجلة عاجلا أم آجلا كي يبدأ عالمنا يعيد التفكير من جديد في ضوء وعي جديد تلزمه إياه صعقات من التحديات وصدمات من التجارب والدروس المريرة واثقال من الحاجات الكبرى !
إن الحاجة التاريخية باتت ماسة اليوم إلى أن يبدأ التفكير في واحدة من أهم المنظمات العربية التي أوجدها العرب اثر الحرب العالمية الثانية وكانوا يعيشون تحديات من نوع آخر ، ولما غدت مجموعة الدراسات والمعلومات واستطلاعات الرأي تعلمنا بأن جامعة الدول العربية باتت كسيحة لا نفع لميثاقها وهي عاجزة منذ زمن طويل عن حل المشكلات العربية ، بل وأنها غدت في كثير من الظروف سببا في المزيد من الاخفاقات في أيجاد علاجات مهمة وفي ضوء أزمة دولنة مشكلاتنا الصعبة في العالم اليوم .. كما وبدأ بعض الأعضاء يفكرون بالانسحاب منها ، فالأسلم لها ولأصحابها أن يعيدوا التفكير في مصيرها المحتوم .
وأخيرا ماذا يمكنني أن أقول ؟
أقول مختزلا بعض أفكاري بهذا الصدد ، أن يبدأ بعض الزعماء العرب وخصوصا من جيل الشباب أن يعتمدوا على النخب الجديدة من المثقفين والمفكرين في البلاد العربية للبدء في وضع مشروعات بديلة يمكن أن يتم الاصلح والأنفع الذي يحل بديلا كتلويا ومستقبليا . ومن اجل أن ينظم حياة النظام العربي المستحدث ولا ريب مع بدايات القرن الواحد والعشرين . ومن اجل أن يعمل ضمن انساق وسياقات لا علاقة لها البتة بما هو سائد اليوم في جامعة الدول العربية ، وان تغدو للنظام الجديد حيويته ولا مركزيته وتخصصاته ضمن ميثاق جديد يتعامل علميا مع قضايانا الداخلية بمختلف تفاصيلها ، ومؤهلا للتعامل بمنتهى الذكاء مع القضايا العالمية التي سيفرضها النظام العالمي الجديد . إن أية خطوات في هذا السبيل هي اختزال للزمن وسبق في التقدم ستنفعنا حتما بدل إبقاء القديم على قدمه وبدل موجات الهياج والصياح والنواح ورفع الشعارات التي لم تعد تجدي نفعا أبدا .. فهل ستتحقق أمانينا من اجل بناء مستقبلنا القادم بهذه السرعة ؟ إنني اشك في ذلك !
( الزمان ، 1394 في 23 ديسمبر 2002 . ونشرت في النهار البيروتية في 14 يناير 2003 ) .
شاهد أيضاً
ممكنات التقدّم : من اجل مشروع في الاصلاح والتغيير (الحلقة الثانية)
كنت قد حللت قبل سنوات وثيقة الاسكندرية للاصلاح ، والتي تعتبر واحدة من اهم الوثائق …