بادىء ذي بدء لم يجد الخانعون في الاقنية الفارغة او اولئك الكسالى المتثائبين في عز النهار الا توجيه اللوم لكل صوت حر ومستقل وجرىء وشجاع عندما يكشف هذا الصوت عن العورات وعن المثالب والزلل والخطايا ! وأنه صوت حقق شرعيته كونه لاقى ترحيبا منقطع النظير يضع البدائل والخطط وكم هائل من المشروعات ! وعلينا ان نسأل : لماذا يسيئون اليه ؟ ولماذا لا يعجبهم صداه ؟ أقول : لأنه صوت يقول كفى للعفونة واليبوسة والجمود والعنتريات الفارغة ! وهو يريد ان يقلب الطاولة على رؤوس اصحابها ويبدأ بترتيب الصالة من جديد ! وكان هذا وذاك همه واصحابه منذ زمن بعيد . ان ابسط ما شاع في الثقافة السياسية العربية المعاصرة التي لا تحترم عقول علمائها ومفكريها ومختصيها جملة من التعابير يرددها اولئك الخانعون والكسالى والاغبياء البلداء والمتخلفون .. الذين يصفون كل صوت مستقل حر ومنتقد جرىء ومفكك عجيب انه مشروع احباط في هذه الامة وانه صاحب افكار ساخطة على المؤسسات العربية ! وانه يزرع الافكار ( المنهزمة) التي لا تتلائم والكليشيهيات المعروفة ! ويهتاجون قائلين : متى يقضى على هؤلاء الذين يزرعون اليأس والتشاؤم والاحباط ؟ واعترف بأن هناك ثلة من ساسة وسلطويين ومؤدلجين ومناضلين من اليسار ام من اليمين .. لا يعجبهم مثل هذا الكلام ، ولكن الرهان الحقيقي على ابناء الجيل الجديد وعلى نخب حقيقية من المثقفين المستقلين والاحرار الذين يسعون لقراءة ما يكتب بتجرد وتأسيس حوارات ذات معنى !
هل من ميثاق مشروع من اجل التغيير ؟
هكذا اذن يجتمع كل ذي غباوة وكل ذي مصلحة وكل ذي علاقة بسلطة معينة كي يقف حجر عثرة في سبيل التغيير الذي يريده العقلاء والاذكياء في هذه الامة مشروعا داخليا لابد ان يتم على ايدي اصحابه ، لا ان يفرض علينا وعلى كافة مجتمعاتنا من قبل الاخر الذي بدأ يدق بضراوة اسافين الخطر .. والناس لا تفقه من الامر شيئا ! متى تغدو الأصوات المستقلة والحرة عندنا نحن العرب وعند حزمة الشعوب المجاورة ضد قيم البلادة التي انتجتها مخلفات القرن العشرين ؟ متى يؤسس العرب والمسلمون ميثاقا مشروعا لحقوق الكائن البشري في زمن لا يريدونه ان يكون الا وفق المقاسات القديمة التي لا يريدون الفكاك عنها وستودي بهم وبالجميع الى الكارثة ! عندما ينبه المرء الى الخطر ومكامنه واتجاهاته ويعلمنا بصدق وامانة بأن الريح ستكون صرصرا عاتية وان العلاج كيت وكيت .. فليس معنى ذلك ان من يقرع الاجراس تلاحقه شتى النعوت البذيئة والغبية التي توهم الناس بأن الامة فيها الخير والعظمة وكل الانسجام وانها مزدهرة بحكامها ورعاياهم وانها تحظى بمكانتها اللائقة بين الامم ! هذا كذب وافتراء على الناس .. وهذا بهتان اثيم ، وهذا لعب بالعواطف والعقول ، وهذا حق يراد به باطل .. فعندما ننتقد جامعة الدول العربية – مثلا – وهي تعيش احتضارا حقيقيا نتيجة العقم الذي يعترف به الجميع ، فلا يمكننا ان نسمع لمن كانت له او لم تزل له مصلحة شخصية من ابقاء القديم على قدمه برغم كل الهفوات ! علما بأن لابد هناك من بديل اطلقنا عليه بالمجموعة الحيوية الكتلوية التي ستعمل على رفد المصالح العليا للامة التي وصلت الى درجة بالغة من الضعف والهزال الشديدين ! ولابد من تفعيل اية مبادرة لتغيير مؤسساتنا العربية من خلال الاعتراف بالاخطاء واستنباط البدائل ومباركة الافكار الجديدة لا محاربتها تحت مسوغات بالية .. ان النقد سواء كان موضوعيا ام كان ذاتيا لابد من الاستماع اليه بعيدا عن شعارات البعض من الطوباويين والخياليين والمؤدلجين والمنتفعين الذين يودون ابقاء الامور على ما هي عليه تحت ذرائع ما يسمونه بـ ” جلد الذات ” و ” الاحباط ” وكأن الامة في حالة من افضل حالات الدفاع .. لقد أوصل امثال هؤلاء الامة جمعاء الى اسوأ حالاتها كونهم ينفخون في قربة ممزقة . والعالم كله ينظر الينا وليس لنا الا العويل والصياح والصخب والعنتريات والمدائح الفارغة التي لم تعد تجدي نفعا كما يبدو في هذا العصر .
سوق الفضاضة
هذه المقالة الجديدة هو نوع من المرافعة ضد بلادة مجموعات من شتى الالوان فيهم عميان وعوران وطرشان وعرجان وبرصان وجربان وليس لهم الا اللسان الطويل الذي لم يتعلم الا المزيف من الكلام ولم يثقف نفسه الا على الاكاذيب والمفبركات بعيدا عن الحقائق والمعلومات انهم سلطة المجتمع ومجتمع السلطة معا ، أو ما يمكننا ان نسميه بـ « سوق الفضاضة» وفيها كل دكاكين المعسولات من الانشاء والخطاب والمراوغة والنفاق والتمسح والتلفيق وهز الرؤوس والمدائح ومطولات الهزج والهيجانات والعواطف وشتم العلماء والعقلاء والمثقفين والمفكرين الحقيقيين الذين يقل مدى استجابتهم لظواهر هذا العصر العربي البليد .. وعندما ننتقد بعض وسائل الاعلام عندنا والفضائيات في مقدمتها فهل معنى ذلك اننا نزرع اليأس والاحباط في عقول وصدور الجماهير ، علما بأن قناة فضائية معينة سببت قطع علاقات بين دول متجاورة ! وهل يصح ان يشتم العلماء من مثقفي هذه الامة ومفكريها ويصفهم واحد من الجهلاء بـ ” القوادين ” على شاشة فضائية امام مسمع ومشهد الملايين ويبقى الامر صامتا !؟ اتريدون ان ينزل الناس الى اكثر من هذا الحضيض ؟ لماذا قام في دنيانا السفهاء والجهلاء وصمت العلماء والعقلاء ؟ ولا اريد احدا ان يتفلسف متذرعا بالديمقراطية بدليل الفصل بعدم الاستواء بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ! وبعيدا جدا عن تحمل المسئولية أساساً عن تفاقم البؤس التربوي والفكري في عالم الذي اختلفت موازينه عن الماضي وعن غيره من مجتمعات الدنيا . وهنا لابد ان تبقى الاصوات الحرة تخترق كل الجدران الصلدة وكل الاجسام المتحجرة من اجل البدء بمشروع التغيير الجديد ، الذي ربما سيطول امده كثيرا ولكنه هو الذي سينتصر في نهاية المطاف لأن الاجيال القادمة لابد وان تكون لديها القطيعة المعرفية والتاريخية بين كل ما ورثته من مخلفات القرن العشرين ! هذه الصورة الحقيقية الأخرى للرد الممكن « والوحيد» الذي اراه طبيعيا لاولئك الذين لا يريدون اي مشروع للتغيير يعمل من أجل اقامة حضارة انسانية . وقد كنت قد حللت الفروق بين مشروعي التحديث والاصلاح في واحد من كتبي مستنتجا بأن اي مشروع للاصلاح لا يمكنه ان يضاهي مشروع التغيير او بالاحرى مشروع في التحديث ، وليس كما يتصور كثير من الناس بأن الاخير هو مشروع في التغريب !
ما الذي يجدي نفعا ؟ مشروع في الاصلاح ام مشروع في التغيير ؟
لابد من أبراز التباين والتناقض القائم بين ” المشروعين ” في ظل المترسب من بقايا مخلفات الماضي وبين تطلعات الحركات التجديدية التي تطمح للحداثة والتعامل مع كل قيم العصر ، وان كل المناوئين لمشروع التغيير هم من اولئك الذين يثيرون اليوم ضدهم كل قرف الدنيا والرغبة في ابعادهم خارج اطار العصر والسيطرة على هشاشتهم من خلال تناقضات الحياة . ولا يتردد أحد معلقي الـ «نيويورك تايمز» ان يصف أمثال هؤلاء المخالفين الذين باركوا عمليات 11 سبتمبر في العديد من مجتمعاتنا بأنهم خطر ويستحقون الاحتقار والضرب والاهانة والاجتثاث. وإذا كان هذا الاخر الذي ضاعف احتقاناته ضدنا وضد قضايانا يتعاطف بالمقابل مع الحركات الاجتماعية المتعاظمة، إلا انه يعترض بشدة على التطرف في ممارسة العنف وخرج علينا بظاهرة الارهاب . وعليه فانه لا يمكن ان يمثل دفاعاً عن مبدأ وإنما عن الأسباب الحقيقية للتطرف في ممارسة العنف. وهذا لابد ان يعالجه العقل العربي بصيغة أسئلة مثل من الذي يستحق جائزة الارهاب؟ هل نحن بالذات في عالمنا أم أنتم الذين تسلحونهم؟ العاطلون عن التفكير أم انتم الذين تفككون كل شيىء وتعيدونه من اجل مصالحكم الاستراتيجية ؟ الفلسطيني الذي يحمل على جسده عبوة ناسفة أم أنتم الذين تذرفون دموع التماسيح على شعب انتزعتم منه أي مستقبل؟ ام ذاك العراقي الذي يحمل ويكبت كل هموم واوجاع الدنيا وغدا مستقبله في سوق المراهنات الداعرة ؟؟ إن الحاجة باتت ماسة لمن يفكك آليات مجتمع استحوذ عليه جنون التناقض المجنون وأن ليس هناك أكثر قسوة وافتقاراً للنزعة الانسانية من ذهنية الصفقات المريبة وسوقية التناقضات العجيبة التي لا تتوانى من اجل مصالح قميئة القيام بكل أشكال الفظائع والذبح ودفع الملايين الى هوة البؤس واليأس، أو الى آلة الحرب وتخريب المشاهد الطبيعية الجذابة وتلويث الحياة واغتيال التاريخ كله . لكن كيف وصلت الامور إلى هذا الحد؟
لا نريد المرض ان يلتهم الجسد كله !
عبر ربط السبب بالنتيجة ومثل «الغرغرينا» التي تبدأ بعضو في الجسد وتنتهي إلى التهام الجسد كله، كان لابد لاعتداء ما زرعه الماضون في القرن العشرين من الاوهام في التفكير ومن التناقضات في الحياة ضمن ما سمي بـ ” لعبة الامم ” من خلال مشروعات علنية وسرية مما جعلنا اليوم نعيش جميعا على منتجات تلك الاوهام والتناقضات التي ستؤدي شئنا ام ابينا الى «مجزرة» تاريخية حقيقية في الوسط المحيط الكوني الشامل، والنظام الذي «يضغط» على الانسان والمجتمع في محيطنا وأن يجلب الموت معه. ان التاريخ قد برهن على ان اي مشروع من اجل المستقبل تتم صياغته على شاكلة الانسان وبالتالي يصيغ بدوره الانسان على شاكلته. ولكن هناك درساً آخر مأخوذاً من التاريخ ايضاً وهو ان الانسان قد يقوم بـ «تدمير نفسه» من أجل ان ينبعث من جديد ، فلا عتب على ان نطالب بمشروع تغيير تاريخي استراتيجي شامل من خلال اصدار قوانين لا بمشروع اصدار بيانات واعلانات في مرحلة قصير الامد تتطلبه الظروف سيموت عاجلا ام آجلا ! وعلى أساس النهج نفسه من التحليل في اعلاه ، أرى ان هناك نوعاً من الدورة التاريخية التي يتم خلالها نوع من «تصحيح المسار» باتجاه أكثر عدالة ونزاهة ونجاعة .. ولابد من البدء بها منذ هذه اللحظة التاريخية من دون اي تمّهل او تخوف او ارتياب مستفيدين من تجارب التاريخ الحديث . ان المثال الرئيسي الذي يؤخذ للتدليل على مثل هذا الرأي نجده في الثورة الفرنسية الكبيرة التي قامت قبل أكثر من قرنين من الزمن وحيث شهدنا رد فعل بدافع غريزة البقاء صدر عن تفكير متغير كان فريسة لأزمة تحول عميقة. وما جرى قبل أكثر من قرنين يتكرر اليوم، لكن ليس في المضمون وإنما في الشكل.
صفوة القول
هكذا تتمثل احدى الأفكار الرئيسية التي يمكنني تطويرها في القول بأنه لا يمكن التكهن في الفصل بين سلطة التغيير ومستقبل السلطات ، وبهذا المعنى يتم الحديث عن التوتاليتارية الماضوية سواء عند بعض القيادات او بعض التجمعات والاحزاب والجماعات والفئات التي لا تأبه بما يصيب الامة من تلوث وانهيارات واختراقات على مختلف المستويات ، اذ تكفيها حماية مصالحها ومنافعها البينتهامية القميئة . كما ان عملية التغيير لا يحققها العامة من الجهلاء والمتخلفين المتكلسين باسم الرأي العام وبذلك نكون قد ضيعنا الاول والاخر وقد اصبحنا في عداد الهراطقة . ان مشروع النخبة لابد ان يبدأ عمله بعيدا عن اي مشروع كسيح للاصلاح ، اذ يكفينا اردية ممزقة اصلحناها مرارا وتكرارا ، وقد أدت الى كل هذا الطفح من الاوضار والاورام فالاصلاح لا يصل بنا ابدا الى قمة ازدهار ابدا .. المطلوب اذن ، مشروع حقيقي في التغيير باصدار قوانين ولوائح تنبثق من خلال دساتير مجددة لكل مرافق الحياة العامة والخاصة من اجل تبديلها رأسا على عقب ، ليس من اجل ارضاء امريكا كما يتصور البعض ، بل من اجل الوقوف امام امريكا كما تفعل بقية الامم .. اما مجرد مشروع في الاصلاح فسوف لن يرضي لا الدواخل ولا الخوارج ، فكيف يرضي العالم كله وخصوصا عالم ما بعد 11 سبتمبر ؟؟ وننادي : هل سيتحقق شيئا من هذا او ذاك وتنتهي المهزلة عما قريب ؟ اردد : انني اشك في ذلك !
( الزمان ، العدد 1416 في 27 يناير 2003 ) .
شاهد أيضاً
ممكنات التقدّم : من اجل مشروع في الاصلاح والتغيير (الحلقة الثانية)
كنت قد حللت قبل سنوات وثيقة الاسكندرية للاصلاح ، والتي تعتبر واحدة من اهم الوثائق …