أعتقد أن ما سأقوله سيشعل صدور الانقساميين، وهم يبحثون عن بغيتهم في زمن وصل فيه العراق إلى أن يكون رجلاً مريضاً وقد هدته الحروب وأتلفته المضنيات، في حين يجد كل الوطنيين العراقيين بأن أكثر ما يحتاجه العراق، لم شعثه.
وترتيب أوضاعه وتقديم أولوياته وتجديد بيته. إن العراق، أحوج ما يكون إلى أن يشد بعضه بعضا، وأن يشعر كل سكانه أنه ملكهم جميعهم، أي لكل تكويناتهم وأطيافهم، فالعراق لا يستطيع أن يحتكره طاغية جلاد إلى الأبد.
ولا يمكنه أن يكون بأيدي عصابة مارقة مدى الحياة، ولا يستطيع أن تتجاذبه ملل وتتقاذفه نحل مهما طال الزمن. لقد بقي بمجتمعه وتعايشاته بالرغم من كل التعصبات والأهواء السياسية على امتداد التاريخ.
إن العراق، كتلة جغرافية مشتركة واحدة منذ القدم بحكم جغرافيته الصعبة والمهمة وبحكم تنوع مجتمعه في بلاد سميت بوادي الرافدين. ولابد أن يدرك كل الانقساميين بأن لا بدائل للعراق في التاريخ، إلا أن يتصلب جغرافيا بدل أي انقسام جغرافي أو اجتماعي.. انه الموحد الذي اعتبره المعبر الحقيقي عن تاريخ عريق يفخر به كل أبناء وادي الرافدين بعيدا عن واقعهم اليوم المليء المآسي والفواجع.
إن العراق الذي توارثته الأجيال منذ آلاف السنين، بات سكانه حتى من المثقفين ورجال الدين لا يدركون قيمة بلدهم موحدا، وبالضرورة قد مر المجتمع العراقي بتحولات متنوعة، ولكنه لم يتغير استراتيجية وجغرافية.
. لم يتغير دجلة والفرات والزابين وكل شرايين العراق التي تغذي قلب العالم منذ القدم، وإذا كان للتاريخ السياسي قساوته وقد فجع العراقيين بحيث جعلهم فرقا وشيعا وجماعات وطوائف وملل ونحل..
فإن التاريخ الحضاري للعراق كان يمشي مشية من نوع آخر، فلم يكن يعرف أبدا كيانات منفصلة ولا تجمعات طائفية مغلقة.. كان العراق مصهرا لكل الأجناس والعقول والأديان والثقافات والفولكلوريات.. فكان أن قدم العراقيون جملة حضارات وحملوا مشاعل عدة ثقافات..
إن تاريخنا الموحد كعراقيين لا يسمح لنا أبدا ان نصفق للانقساميين منكرين على الأجيال كلها ما ورثته من بقايا وجذور. وهكذا، فإن أقل ما يمكن أن يقدمه العراقيون اليوم لوطنهم هو حفاظهم على وحدته وعلى حدوده وعلى ثرواته وعلى طاقته.
وعلى مستقبله ومصيره كما تسلموه باعتباره أمانة غالية ثمينة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، والا يفرطوا بها مهما كانت الأثمان! إن أي مشروع للفيدرالية (او: الاتحادية ) هو الذي يجمع الأقاليم المنقسمة والمجزأة .
والمبعثرة لا أن يجزئ الموحد ويقسمه إلى أقاليم ويبعثر وحدتها وتماسكها بحجة الأخذ بذرائع مرحلية استمر عهدها لأربعين سنة إزاء وجود تاريخي عمره آلاف السنين.
لقد كان العالم يتصور بأن الانتخابات التشريعية ستخلص العراق من أمراضه وأوجاعه وأسقامه بالسرعة القصوى، لتسهم الجهود في توطيد اللحمة وينقذ مشروعها البلاد من هوة الانقسامات الطائفية العميقة .
وتبعده عن مستنقع التشرذمات وعن كل التشظيات.. ولكن يبدو أن الانقساميين يسرعون في تنفيذ خططهم ويصرون على جر البلاد إلى الانقسام بتشكيل أقاليم لها حكومات دمى محلية عديدة في منطقة قلب الشرق الأوسط..
إنهم يلعبون بمصير العراق كله بتمرير مشروعهم على العراقيين الذين لا يدركون عواقب ما سيحدث.. مع وجود قوات التحالف الدولي على التراب الوطني. وأنا واثق أن كل غالبية الشعب العراقي لا تقبل بأي تقسيم للعراق.
المصيبة أن كل العالم ساكت على الانقساميين وقد وفرت لهم أغطية سياسية وأبواقا إعلامية ويسخرون لها كتلا جماهيرية باستغلال عواطف دينية أو أهواء طائفية أو تعصبات عرقية!
ان التخندقات والاصطفافات التي يجد العراقيون أنفسهم اليوم عليها بعد حكم فاشي أحادي طويل، إنما هي ليست سياسية حقيقية حتى لا نتخوف منها، إذ إن كل شيء يتغير سياسيا.
ولكنني أتخوف كونها غدت اجتماعية وفكرية وعاطفية ودستورية يتعامل بها الناس على ارض الواقع مع نسيان أنفسهم كونهم يلعبون بالنار في ظل توازنات مرحلية مؤقتة، اذ ستحرقهم النار بعد تغيير تلك التوازنات واذكروا هذه الكلمات مستقبلا! لإنهم لا يفكرون بأي مصالح عليا للعراق بعد أن أعمتهم الأحقاد التاريخية.
إن الانقساميين العراقيين لا يريدون العراق كله، ولكنهم يريدونه منقسما على أهوائهم.. إنهم لم يحسوا بأوجاع كل العراقيين.. بل كل يترك ويهرب إلى حيث يعتقد بأن حاضنته ستحميه، وهو لا يدرك بأن لا حاضنة له إلا العراق موحدا في قابل.
إن الانقساميين كلهم ولا أستثني منهم أحدا يراهنون على تقرير مصير جماعة أو على ثروات بيئة أو على طائفة إقليم أو على خصوصيات مزيفة ومتخلفة وهم لا يدركون بأن لكل بلاد جملة من الخصوصيات. إنني أسأل العالم كله:
هل يقبل أي مجتمع من مجتمعات المنطقة اليوم وخصوصا تركيا وإيران المجاورتين للعراق أن يعبث بهما الانقساميون، ونحن نعرف بأن كلتا الدولتين فيهما من الأعراق والاثنيات والطوائف والأقليات والقوميات والخصوصيات ما يسمح لهما بهكذا مشروعات وتحت مسميات لا حصر لها.
هل يمكن لأي تركي أو إيراني قبول أي مشروع للانقسام مثل هذا الذي يعلن عنه الانقساميون العراقيون؟ إن التاريخ يحدثنا بكل صراحة ان ما من بلد ظهرت فيه هكذا انقسامات حتى فجع في مصيره من خلال بعثرته.. وهيهات هيهات أن يرجع إلى وحدته كرة أخرى!
ثمة حلول لمعالجة حقوق الناس العراقيين باتباع نظام الإدارة اللامركزية أو نظام الإدارة المحلية (واستعادة الحكم الذاتي لكردستان بصيغة قانونية ومتطورة جديدة). أما خلق كيانات إقليمية في وطن كالعراق، فإن المسألة أخطر مما تتصورون ويستدعي إيقافها مهما كان الثمن.
إن مصلحة العراق قبل أي مصالح فئوية أو طائفية أو عرقية اثنية.. وان الإصرار على المواقف سيؤدي إلى الخراب، لأن فتات هكذا أقاليم لا يمكنها أن تعيش بأساليب سياسية حضارية في خضم منطقة غارقة بالأحقاد والتعصبات والتخلف وهي قابلة للاختراقات والانفجارات بسهولة بالغة.
إن مصلحة العراق ومبادئه لابد أن تتقدم أي عملية سياسية.. إن العراق بحاجة إلى أهله من دون أي محاصصات تولد الكراهية وتقتل الوطنية.. انه بحاجة إلى العراقيين لا إلى الانقساميين..
عراقيون لا يقصون أحدا ولا يهددون أحدا ولا يعذبون أحدا ولا يهمشون أحدا ولا يعملون سياسيا وفكريا وحضاريا إلا من اجل وطن عريق اسمه العراق. إنني واثق بأن العراقيين لا يخالفونني في ما أقول ولكن سيخالفني الانقساميون في كل ما أقول!
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …