الرئيسية / مقالات / زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت قيمها وأخلاقياتها واعتباراتها.. وبات الناس يبحثون عن رؤساء جدد، أو مديرين أذكياء، وحكام م…خلصين.. يحلم الناس أن يكون هؤلاء جميعا كالملائكة الطاهرين، وما هم إلا بشر عاديون، بينهم عقلاء مستنيرون وبينهم طغاة مستبدون.. وبينهم متمدنون منفتحون ومتحجرون منغلقون!
كانت الزعامات في الماضي تتوالد عفويا، ليمنحها الشعب ثقته وتأييده بعد أن تفرض شخصيتها الوطنية على التاريخ، بسلبياتها وإيجابياتها. أما الرئاسة فهي التي ينتخبها الناس من بين مرشحين، ولم يعترف بموديلات تلك الرئاسات التافهة التي فرضت نفسها بالانقلابات أو بالنيابات أو وراثة الجمهوريات.. ولم يعرف العرب بعد فن الإدارة ولا عظمة القيادة، وأسلوب الحكم الديمقراطي لمرحلة أو اثنتين، فكلاهما فن ومهارة تأتي من خلال موهبة واحتراف وتدريب في المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية، مع سيكولوجية وموهبة لإدارة البلاد، وقدرات ريادية تفرض نفسها في الميدان.
إن كل هؤلاء يفترض أن يقودوا أمتهم إلى الطريق الذي رسمته إرادة الشعب، فالزعيم ينجح في قيادته بحكم ما يمتلكه من قوة وجاذبية وصنع قرارات حاسمة، بينما قد يفشل الرئيس في قيادته للبلاد، كونه لا يمتلك صفات القيادة. وينبغي على كليهما التجرد من كل ارتباطاتهما باستثناء وطنيتهما. الزعماء قلائل في عالم اليوم، وكانوا قلة حتى في القرن العشرين، ولكنهم أسسوا أنماط حكم أو صورا من الأيديولوجيا، وأرسوا اعتبارات عليا.
إن الزعامة تتأتى للقائد من خلال سحره للجماهير وجاذبيته لهم، فيتملك معنى الريادة، على حد قول ماكس فيبر، ويرسم خطا واضحا في التاريخ استراتيجيا وتكتيكيا.. والزعيم لا يفرض نفسه بالقوة ولا بالسلاح ولا بالمال، وإنما يفرض نفسه على التاريخ بسبب تأييد الجماهير وشرعيته وتمتعه بالكاريزما. إن الفرق بين الزعيم والدكتاتور كبير جدا، فالأول تحبه الناس وتنجذب إليه بطريقة عفوية.. أما الثاني، فيتبعه الناس خوفا من شراسته، أو رعبا من بطشه. الزعيم يفرض نفسه زعيما حتى وفاته، ويبقى مزروعا في الضمائر والقلوب والعقول لمدى زمني طويل. أما الدكتاتور فهو مفتقد لقيم الرحمة والعدل، وبطشه ينتهي بنهايته، وكثيرا ما تكون نهايته مأساوية تراجيدية!
إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وُجد العديد من الزعماء العرب الذين نجحوا في مجابهة التحديات القاسية، وانتصروا لإرادة كياناتهم الوطنية التي كانت تصارع قوى دولية وإقليمية غاية في القوة والقسوة، وخصوصا إبان العهد الفيكتوري الاستعماري. عصر ذاك يقف المؤرخ أمام زعامات قوية ومحاربة ومؤثرة ولها مجابهاتها، فضلا عن منجزاتها التأسيسية وأدوارها الرائعة في إجراء تحولات تاريخية كبرى، بل وساهم بعضهم في نقل بلاده نقلة تاريخية نحو المستقبل، رغم كل التحديات..واختلف الزعماء والقادة العرب في القرن العشرين بين نصفه الأول ونصفه الثاني، وتباينوا في مستوياتهم الشخصية ومقدراتهم القيادية، وتنوعت أساليبهم في الحكم، كما افترقت طبيعة قراراتهم.. وجدنا زعماء عرب مؤسسين كيانات في بلدانهم بعد استقلالاتها الوطنية .. ووجدنا رؤساء وطنيين افرزتهم احزابهم الوطنية ونضالاتهم السياسية ووصلوا الحكم بعد ان صنعوا تواريخ مهمة وكارزمية لهم .. ووجدنا بعضا من الضباط العسكريين الذين تسمّوا بـالثوريين وقد وجدوا انفسهم فجأة زعماء وقادة بين ليلة وضحاها بعد مؤامرات وانقلابات عسكرية مشكوك في امرها ! ووجدنا طغاة ومستبدين احتكروا السلطة العليا طويلا وحكموا البلاد والعباد قهرا وظلما ، بل وورثوا الحكم في جمهورياتهم لأبنائهم وعشائرهم وطوائفهم ! ووجدنا رؤساء قتلة طائشين مستهترين حتى بأرواح النساء والاطفال من شعبهم بقصفهم وقتلهم وافنائهم ووصفهم بأسوأ النعوت !
..اليوم نحن في مأزق تاريخي إزاء رؤساء جدد لم يفقهوا شيئا في السياسة، ولم يمتلكوا مقومات الزعامة ولا هيبة القيادة، ولا يعرفون صنع أي قرار.. ربما جاءوا عن طريق الانتخابات، ولكنهم يغلبون عواطفهم ويؤمنون بانحيازاتهم.. أغلبهم من المنغلقين الذين لا يعرفون من الحياة والعالم شيئا، إلا ما تعلموه في أقبيتهم وسراديبهم ! إننا اليوم في مأزق حقيقي باختفاء الزعيم الحقيقي، أو الرئيس الفهيم، أو القائد الحكيم. فقلما نجد زعيما جديدا واحدا قد سحر الناس بكلامه أو مواقفه أو خصاله ومزاياه.. لا نجد أي رئيس جديد يؤمن بجماهيره أو مواطنيه، لينزل من عليائه كي يكون معهم يعايشهم حيثما كانوا..لا نجده يتواضع متفقدا أحوال ليس رعيته ومراعيه كما كان يحدث قبل أزمان، بل أوضاع مؤسساته ودوائره ومدارسه.. الخ. لا نجد أي زعيم جديد يفكر في المستقبل بمشروعات استراتيجية كبرى أو صغرى.. ولم نجد أن باستطاعته فهم العالم اليوم وما يمكن فعله، كي يحمل قيم الزعامة الحقيقية ويشارك في سيرورة هذا العالم.. لم نجده يسهم في تقديم حلول مشكلات ومعضلات ولا نجده يمتلك أي قدرة في ادارة أزمات تجتاح عصرنا اليوم..لم نجده ينفصل عن أهوائه وارتباطاته وتحزباته، ويتنكر لكل ماضيه كي يكون مظلة للجميع ورائدا للجميع.. ومعلما للأجيال وقدوة حسنة أمام كل الناس، ناسيا مؤدلجاته السياسية والطائفية والفكرية، كي يتقاطع مع وطنه ومواطنيه جميعا، ويغدو رمز إرادتهم جميعا وهيبة لهم بلا استثناء..فمتى يأتينا زعماء ورؤساء وقادة عرب جدد يتمتعون بمزايا القيادة الذكية والزعامة الحقيقية؟ متى؟!

نشرت في البيان الاماراتية ، 22 آب / اغسطس 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljmail.com
وتنشر ايضا على تجمع المؤرخ سيار الجميل على الفيس بوك
https://www.facebook.com/pages/Sayyar-Al-jamil-المؤرخ-العراقي-الدكتور-سيار-الجميل/211156065571285

شاهد أيضاً

القصبة بعيدا عن القرصنة !

عدت من تونس مؤخراً بعد سفرة علمية، فوجدتها مبتهجة جداً بمرور سنة على اندلاع ثورتها …