الرئيسية / مقالات / التصدّعات الاجتماعية في الشرق الأوسط

التصدّعات الاجتماعية في الشرق الأوسط

تغرق منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من ثلاثين سنة وحتى اليوم، بمشكلات صعبة ربما لم تمر بها سابقا بتحول أزمات القرن العشرين السياسية وصرعات المؤدلجات الفكرية إلى حالات جديدة من الانقسام الثنائي في العالم الإسلامي، وبواجهات ليست سياسية حقيقية، بل بمضامين طوائفية ودينية وعرقية وجهوية مناطقية .. ، سيقود المنطقة حتما نحو انقسامات اجتماعية خطيرة، علما بأن العالم الإسلامي كله، لم يمر بسلطة كهنوتية طوال تاريخه ، ولا بصراعات هرطقية كما حدث في أوروبا على امتداد العصور الوسطى وصولا إلى الثورة الفرنسية ، وقد انقلبت المجتمعات في منطقتنا على عقبيها اليوم، لكي تمر بصراعات طوائفية ، لأن السلطة أصبحت بأيدي رجال دين، ولأول مرة في تاريخنا السياسي .. واستنادا إلى أفكار عالم الاجتماع كارل مانهايم، فإن المجتمعات تتقبل بسرعة ما يدغدغ أحلامها، فتعيش سرابا ، إذ تتفجر عواطفها ، وتشحن سايكلوجياتها بمشاعر القوة المزيفة ، وهى تعتقد أن رجال الدين فوق الجميع.. في حين أنها متهرئة ومتهتكة ولا تعرف معالجة أوضاعها إلا من خلال شعوذات سيكولوجية أو من خلال صراعات هرطقية!

من صراع الدول إلى تفكك المجتمعات
لقد أفرغت الموجات والجماعات الدينية المتعصبة مجتمعاتنا من كل ترسبات الأيديولوجيات اليسارية وفراغات التنظيمات الحزبية سياسيا ، بالرغم من وجود بقاياها لدى من تبقى من جيل الماضي ، وهو جيل سيرحل خلال السنوات القادمة ، ولم يخّلف من ورائه إلا التعاسة ! لقد قادت جماعات الإسلام السياسي بالضرورة إلى انقسام طائفي فاضح بين السنة والشيعة في عموم منطقتنا وبدرجة اقل او اكبر في العالم الإسلامي ، أي بمعنى تفكك المجتمعات واقعيا.. ولم يكن بوسع أي فكر سياسي ليبرالي معاصر أن يسد الفراغات الناتجة عن أفول الانتماءات الوطنية والقومية، بحيث كانت الامتلاءات الطائفية أكبر بكثير من أفكار الأحرار المدنية، ذلك أن نخب الأحرار المستنيرين هي قليلة ومحاربة، بل إنها اتهمت بالعمالة للأمريكان ظلما وعدوانا سياسيا وإعلاميا ، وشوه الإعلام العربي سمعتها .. علما بأن السياسة الأمريكية قد ساهمت بإشعال حروب المنطقة، وإذكاء روح الطائفية والكراهية بين الأعراق والملل وشرائح المجتمعات، وهى بالأصل مجتمعات معقدة جدا. فتحولت من صراعات سياسية عرفناها في القرن العشرين إلى تصدعات اجتماعية سيعانى منها الجميع في القرن الواحد والعشرين ، وفى هذا خطورة لا يشعر بها إلا من يتأمل طويلا في متغيرات المعادلة في الصراع من الخفي الصامت إلى المكشوف المتحول ، واللعبة الدموية هنا هي بين الأكثريات لا بين الأقليات . وعليه ، ينبغي على الأقليات ألا تتدخل في الصراع إزاء هذا أو ذاك أبدا لأنها سوف تحترق مباشرة!
إن الانقسام بدأ يترسخ شيئا فشيئا في مجتمعات الشرق الأوسط قاطبة، بعد أن استثمرت خفاياه ومسكوتاته طويلا لتنفضح علنا.. إن من يراقب ثقل المركبات الاجتماعية والتعقيدات التي تتفاقم الانقسامات من جرائها.. سيجد أنها تزداد ثقلا ودموية بفعل ازدياد التعصبات يوما بعد آخر.. وكأن ثمة سياسة ، قد خطط لها أن تكون، ويغدو الشرق الأوسط في رعايتها تماما. إن ازدياد الشروخ ومشروعات التمزق وعمليات القتل وكل عمليات الإرهاب المنّظم والتفخيخات والأعمال المضادة … هي في الحقيقة تنفيذ لخطط موضوعة على الأرض من أجل تمزيق نسيج المجتمعات في المنطقة، أو الإسراع بخلق الصراعات الداخلية وتفاقمها سريعا إلى حيث المواجهة الكبرى من خلال حروب أهلية مسعورة! إن على من يبحث عن المسبب والمنفذ عليه أن يبحث عن المستفيدين الأساسيين من ذلك.

بعد خمسة قرون من الانقسام التاريخى للشرق الأوسط
إن ما يحدث اليوم شبيه إلى حد كبير بالذي حدث في أوائل القرن السادس عشر في منطقتنا، إذ كان هناك انقسام خطير بين السنة والشيعة ممثلا بإمبراطوريتين مثقلتين بالأحقاد والكراهية واحدتها إزاء الأخرى.. العثمانية السنية والصفوية الشيعية، وقد دام الصراع قرابة أربعة قرون، وكانت العراق وأرمينيا وأذربيجان ساحة فعلية لحروب الطرفين، بل إن تأثيرات ذلك الانقسام كانت كبيرة جدا على التركيبة الاجتماعية والثقافية لكل المنطقة .. الفرق بين الأمس واليوم هو الفرق بين وجود إمبراطوريتين قويتين تصارعتا حربيا واقتصاديا قبل صراعهما اجتماعيا وثقافيا، ولم يسمحا بتدويل الصراع، على عكس الصورة التي نراها عند بدايات القرن الواحد والعشرين . اليوم نجد الصراع أخطر بكثير جدا من صراعات التاريخ الحديث بفعل الحجم السكاني وتكنولوجيا الإعلام وتدويل المشكلات وازدياد التعصبات وتنازع الدول العديدة وتباينات النسيج الاجتماعي!
إنني لا أريد من استدعاء التاريخ ، إلا رسم صورة مشابهة لما يحدث اليوم من صراع ، لم يزل في طور التبلور، وأعتقد أن الثلاثين سنة المقبلة ، ستشهد تفاقما في حدة الخلافات الاجتماعية في عموم منطقتنا، وبين قوتين اجتماعيتين تسعى كل واحدة منهما لإلغاء الأخرى، أو بالأحرى : منظومتين اجتماعيتين ترعاهما دول ذات كيانات سياسية ، إلا أن كسرت شوكة إحداهما، وتغيرّت المعادلة .. ليرقب المرء حالة التخندق ، وافتقاد أغلب السياسيين ، وحتى أعلى المثقفين لقناعاتهم المدنية ومبادئهم الوطنية ، كي تغدو الهوية الطائفية والدينية من أبرز عناوينهم، ومن أغرب همومهم.. تجدهم يتشدقون باسم الوطن والوطنية ، أو العروبة والقومية ، أو الإسلام والروح المحمدية ، أو الاتحاد والوحدة الإسلامية.. الخ ولكن أولوياتهم مع النزعة الطائفية والتحسس منها. لقد ازدادت الاصطفافات مع هذا التخندق أو ذاك في حقيقة الأمر، بالرغم من كل الأكذوبات التي نسمعها إعلاميا ، والتي تتحدث عن الأخوة والمحبة والتعايش.. إننا نعيش الحرب الباردة بكل شناعاتها الإعلامية والدعائية من اجل أن يّسوق كل طرف معتقداته على حساب الآخر ! وثمة دلالات واضحة عن نشوب حرب أهلية شاملة.. وهنا أنبه إلى ما سيحدث متمنيا أن يسمع كل الفرقاء لما أقول.

الانقسام الثنائى وراء التمزقات الاجتماعية
إن الانقسام سيصيب المنظومة الشيعية إزاء المنظومة السنية المتشظية دوما بعد الحرب الباردة ونزاعات الدواخل والاستئصال والتهجير إلى حيث يقع الانفجار بأعتى صوره الدموية، وبطبيعة الحال إنه منطق التاريخ أن تصطدم العقائد ، إن وصل أصحابها إلى سدة الحكم وصنع القرار، فانظروا ماذا حدث في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والصومال ومصر والبحرين والكويت والجزائر وغيرها.. إن الشحن الطائفي واللغة العصابية هما تعبيران عن إرادة تريد أن تحيا لوحدها في السلطة، ولكن أي نوع من السلطة؟ إنها السلطة السياسية والاجتماعية معا.. ولماذا؟ لأن كل طرف يسعى لكي يقول : ” أنا الأفضل على الآخر “، وبفضل التشبث بالوازع الديني، والإبقاء على كل عفونات التاريخ، وجعلها تتحكم في مصائرنا ومستقبلنا.. تصبح الطائفة هي المقدسة بنظر أصحابها ضد الطائفة الأخرى التي تعدها كافرة «أو: خارجة» لا تستقيم مع حياة الدنيا ولا الآخرة! إن مشاهد تاريخية القرن السادس عشر خلال العقود الثلاثة الأولى منه ، ستعيد سيناريوهات مشابهة ضمن سيرة ثانية، ولكن بألبسة جديدة، وشخوص مختلفة، وبآليات متباينة، وبقوى متنوعة ، وبكيانات وتحالفات أخرى.. وسيكون هناك الأقوى والأضعف، لكن مع غياب الخاسر والمنتصر.. سيكون هناك كم هائل من المآسي والانسحاقات الاجتماعية، واستئصال الإنسان وغيبوبة الأقليات التي ستدفع أثمانا باهظة من ضرائب الدم وهى واقعة بين مطارق هذا الطرف وسنادين الآخرين ولن تتخلص مجتمعاتنا من هول كوارثها إلا بعد سيادة التفكير المدني وتمفصل السلطات.

الطريق نحو المستقبل
إنني أعتقد أن انقسام الشرق الأوسط سياسيا واجتماعيا اليوم :
أولا: سيخرجه بعد مضى أزمان بأوضاع مختلفة تماما عما ألفه تاريخنا منذ مئات السنين .. وان تلك الاوضاع ليست سهلة ابدا ، بل تتخللها المصاعب والتحديات .
ثانيا: إن البشرية جمعاء ستستفيد من ذلك وخصوصا من النواحي الاقتصادية ، إذ ربما سيطول أمد التغيير لثلاثة أجيال قادمة على امتداد القرن الواحد والعشرين .
ثالثا: اليوم ، نحن أمام ضرورة الوعي الجمعي لمجتمعاتنا وإيجاد بدائل مدنية عن تقاليدها الرثة ، بعد معرفة التناقضات التي تسحق تلك المجتمعات .. عسى تنتهي مهزلة العصر .

وأخيرا: المهزلة لم تنته بعد !
إن مجتمعات الشرق الأوسط تتراجع إلى الوراء يوما بعد آخر، بازدياد حدة التناقضات فيها، مع زيادة الغلو والتطرف وكثرة التدخلات الخارجية فيه.. ولقد ساهمت ثورة الميديا والإنترنت بتفاقم الأخطار، ذلك أن الإنسان كان يرتبط ارتباطا عضويا وعاطفيا وبيئيا بكل موروثاته وتقاليده وطقوسه.. وفجأة يجد نفسه عاريا تنفضح كل أسراره، وتتدفق كل مكبوتاته، وتتصادم كل أفكاره على كل شاشات التليفزيون وكل شبكات المعلومات الدولية.. عالم لم يزل يستهلك أقواله وحكاياه.. وعالم يعبر عن واقع مأساوى بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.. عالم مضى عليه مائة سنة وهو يشهد تحرر العالم كله من دون أن يتحرر هو من كل قيوده وأصفاده ومركباته وتعقيداته.. عالم تكثر فيه الكوارث والاضطهادات وكل مظاهر العصور الوسطى.. عالم موبوء بالأمراض والمجاعات والطواعين والجهل والسيكولوجيات الصعبة والحروب والتقسيم على مفاصل قبلية وعشائرية وطائفية وجهوية يتفاخرون بها.. عالم تمارس فيه كل الطقوس الجنونية المضمخة بالدماء الحمراء القانية.. عالم لم تزل مجتمعاته تؤمن بالهلوسات والخزعبلات وتسحق فيه النساء ويمتهن فيه الرجال ويعذب فيه الأطفال.. عالم يستهلك وقته كله بالكلام الفارغ والمواعظ الرتيبة والأحاديث التافهة.. عالم بلا آليات ولا خطط ولا برامج.. عالم لا يعرف إلا الكراهية والأكاذيب وتوافه الأمور.. عالم مليء بكل التناقضات والمزدوجات.. عالم بحاجة إلى أن يفكر كي ينفتح على الدنيا كي يخرج من المحنة.. يقف معه ليرسم له طريق الخلاص.. يساعده من كوارثه ومجاعاته وأمراضه ونكباته.. عالم بحاجة إلى أن تعالج مآسيه البشرية قاطبة.. عالم بحاجة أن يختزل الزمن بواسطة من يقف إلى جانبه ليخلصه من الحروب والمآسي.. عالم يضم الآلاف المؤلفة من أهم المثقفين وأبرع الفنانين وأبرز المبدعين الذين ينتظرون أحلامهم تتحقق بأوطان هادئة ومنتجة وعاملة ومسالمة ومتعايشة.. منطقة شرق أوسط نريدها مدنية بلا احتلالات وبلا إرهاب وبلا غزوات وبلا ملل ولا نحل، وبلا طوائف وبلا تقاليد وعادات بالية.. ونردد قائلين: لا تصفقوا أصدقائي الأعزاء، فالمهزلة لم تنته بعد!

مختصر معّرب محاضرة ألقاها الأستاذ الدكتور سيار الجميل في جامعة ماك ماستر بهاملتون / كندا ، 2 ديسمبر 2009 .

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية العدد 4260 السبت الموافق – 30 يناير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …