الرئيسية / افكار / قلْ‮ يا أهلَ النقاب.. تعالوا إلى كلمةٍ سواء!

قلْ‮ يا أهلَ النقاب.. تعالوا إلى كلمةٍ سواء!


مقدمة : مجتمعاتنا الحضرية لا تقبل الانغلاق !
أتابع باهتمام شديد ما يثار اليوم في مصر حول مسألة ” النقاب ” ، بعد أن أثيرت قضية ” الحجاب ” سابقا . ويبدو أننا ننتقل بين التحديات التي لم تكن تعرفها مجتمعاتنا الحضرية سابقا ، وقبل أن يتهمني البعض كالعادة بشتى التهم الجاهزة ، فأنني أريد أجوبة حقيقية على التساؤلات التي سأثيرها ، والإشكاليات التي سأعالجها بعيدا عن أساليب الردح والشتم والإقصاء التي ألفها ذلك البعض ، ممن تغالبه عواطفه ، وتسيطر عليه بالمطلق ، جملة أفكار وقناعات يتعّصب لها بشدة . أن ثمة ثقافة منغلقة تمتد في دواخل مجتمعاتنا كلها ، تلك التي يقف عليها رجال كهنوت ليس لهم أي باع لا في التاريخ ولا المعرفة ، ولا في فلسفة الحياة ، بعيدا عن أية مدركات في الفكر المقارن بعد ان اجتاحت حياتنا الحضرية سيول من تقاليد البداوة وقساوتها وعادات مجتمعات كانت ولم تزل منغلقة .. لقد مرّ قرن كامل على مجتمعاتنا الحضرية ، عاشت أجيالها على إرهاصات التقدم من خلال النخب التي عرفت كيف التعامل مع هذا العصر ، ولكن هجمة التراجع والبداوة والانغلاق قد خلقت هولا من التعصبات التي لم تعرفها كل مجتمعاتنا الحضرية ..
إنني اطرح جملة أسئلة محددة ، واطلب من كل الذين يخالفونني الرأي أو يؤيدونني التفكير بإجابات عليها ، ليس لأنني لا أدرك تلك الأجوبة ، بل من اجل أن أثير ما هو مسكوت عنه اليوم في ثقافتنا ، الا ما جاء على استحياء ، كون الاقتراب من ذلك يعد من ضمن المحرمات التي ينادي بها المنغلقون الذين يجعلون من أوهامهم حقائق ، ويؤولون كل شيء حسب ما يريدون ، بل وأنهم قد جعلوا من وسائل الإعلام الحديثة ، وخصوصا ، القنوات الفضائية مجالا رحبا لهم يلعبون من خلالها وعبر شاشاتها لعبتهم ضد مجتمعاتنا الحضرية وقيمها المتباينة ، وأشكالها وفولكلورياتها المتنوعة .. ويريدون أن يهيمنوا ليس على عوالمنا وحياتنا الحضرية حسب ، بل يريدون السيطرة على كل العالم بهذه الأزياء المخيفة التي يختفون من ورائها .. ولا تعرف من يكونوا أصلا !

تساؤلات مقارنة
هل عرفت مجتمعاتنا الحضرية في عموم العالم الإسلامي زيّا واحدا للمرأة او زيّا واحدا للرجل على امتداد تاريخ الإسلام ؟ من المؤكد أن هناك ثمة أزياء مختلفة لكلا الجنسين ، فإذا عرفت المرأة المغاربية (الحايك) ، فقد عرفت المرأة الايرانية المانتو والشادور وعرفت المرأة العراقية بالعباءة ! والمرأة الباكستانية السروال وعند التركية الجبة والتريزة والقفاطين ، وهكذا بالنسبة لازياء المسلمات الاوربيات من البوسنيوات والبلغاريات والالبانيات الخ .. هل وجدنا زيا اسلاميا مقننا محددا كالذي نراه اليوم يسود في اغلب مجتمعاتنا ؟ فما نعرفه من الجلابيات المغربية هو غيره من فساتين المصريات ، وهو غيره من أثواب الشاميات ، وهو غيره من هاشمي العراقيات ، وهو غيره من شيلة واثواب الخليجيات .. وهل اثواب البدويات هي نفس أثواب الحضريات ؟ هل ما تلبسه المرأة التركية هو نفسه عند الماليزية ؟ وهل هو نفسه عند الصومالية ؟ وهل هو نفسه عند الكردية أو الشيشانية ؟ وهكذا هو غيره عند السودانيات واليمنيات والقوقازيات .. هل كانت المرأة في تواريخنا الحضرية كائنا منعزلا عن الحياة أم مشاركا فيها ؟ هل كانت منذ مئات السنين ، ولم تزل بأزيائها المتباينة سواء كانت مسلمة ام غير مسلمة قد خرجت عن الصواب والدين ؟؟ هل لأنها لم تكن تعتمد قالبا واحدا ببردسون طويل اسود ، وخيمة سوداء ، ونقاب اعزل اسود ، وشدة رأس سوداء او عمامة سوداء وقفازات سوداء وحذاء رياضي .. قد عدّها المجتمع اباحية وبلا اخلاق ولا دين ولا شرف ( والعياذ بالله ) ؟ ألم نشهدها بمختلف أشكالها وأزيائها وألوانها الفاقعة : محدثة وصحابية .. شاعرة وفنّانة .. اديبة ومثقفة .. عاملة وفلاحة .. مربية لأجيال من العمالقة الأفذاذ والقادة العظام ؟ ألم تشارك في صنع تاريخنا الحضاري والثقافي ؟ الم تكن متصوفة أو عرّافة ؟ الم تكن تاجرة ومحاسبة ؟ الم تكن خياطة وخبازة وطباخة .. الخ ألم تكن تعمل ليل نهار إن احتاجت لكسب رزقها ؟ لماذا منحت مجتمعاتنا الحضرية كل ثقتها بالمرأة ، وكانت محمية من قبل حارتها وجيرانها قبل أهلها ؟ الم تكن هي الأخت والأم والزوجة والبنت ؟ لماذا افتقدت مجتمعاتنا المغلقة اليوم ثقتها بالمرأة ؟ الم تكافح المرأة وتشارك بملابس القتال في مكافحة الطغيان والاستبداد ؟ الم تناضل ضد الاستعمار ؟ الم تغدو صحفية رائعة وإعلامية قديرة وأستاذة وطبيبة ومهندسة ومحامية وقاضية في حياتنا المعاصرة .. ؟ ألم تعمل بتقاليدها الحضرية وأصولها وتربيتها في بيتها ومدرستها قبل أن يسيطر عليها فقهاء الانغلاق ؟

مجتمعاتنا الحضرية ليست بحاجة الى وصايا الاشباح
إن مجتمعاتنا ليست بحاجة إلى وصايا فقهاء جدد لا يعرفون من الحياة الحديثة شيئا ؟ لماذا كل هذه الهجمة على هذه الكائنات التي تناصفنا وجودنا وحياتنا ومصيرنا .. فكيف بنسوة حضريات وفي مجتمعات متمدنة منذ القدم ؟ لماذا لا تسألوا أنفسكم : كيف يتحجب الرجال ولا تتحجب النسوة عند الطوارق ؟ وكيف تعمل النسوة في معامل ومختبرات ومستشفيات وهن بهيئة أشباح ؟ كيف تواجه هذه الأشباح الحياة العامة والرسمية والمعاصرة وجها بغير وجه ؟ لماذا تستورد بعض مجتمعاتنا المثقلة بالعزلة والتشدد خادمات من آسيا وافريقيا واوربا الشرقية .. ليعبث بهن الشباب من دون ان نجد عندكم أي ذرة من الانسانية ؟
هل كان الرجل على مساحات كل مجتمعاتنا الحضرية لا يلبس الا الثوب الأبيض القصير وقد أطلق لحية كثة ، وانتعل خّفا ؟ بل تنوعت أزياء الرجال كذلك من بيئة لأخرى .. ألم تكن المرأة كائنا جميلا في المجتمع على طول تاريخنا تتغنى بها الدنيا ، أم كانت منغلقة عن الآخرين ؟ الم تكن لها أزياؤها المدنية في كل عصر من العصور ؟ واذا كانت كذلك الم تكن محتشمة في أي مكان تعيش فيه أو تتعامل معه ؟ إذا كان نقاب المرأة فرضا .. واخذ ينتشر في مجتمعاتنا الحضرية ، فكيف نجده اليوم وقد انتقل إلى جاليات عربية وإسلامية في الغرب ؟ وإذا كان الغرب اباحيا ومبتذلا وعرّيا.. فلماذا يأتي أمثال هؤلاء بأزيائهم رجالا ونساء كي يعيشون في هكذا مجتمعات إباحية وكل شيء فيها على ضلالة ؟ لماذا يأتون من كل العالم الإسلامي إلى الغرب .. ويعيشون في عزلة تامة حتى عن بقية الجاليات المسلمة ؟ إنني أسأل أيضا : هل مثل هذه التقاليد التي لم تعرفها مجتمعاتنا الحضرية قد أتت ضمن فروض دينية أم صناعة سياسية ؟

مجتمعاتنا الحضرية : من الانفتاح الى الانغلاق
ألم تكن مجتمعاتنا الحضرية قد عاشت قرونا طويلة متنوعة الأساليب ومتعددة التقاليد ومتباينة الأصول ، وتتقبل الاندماج بالآخرين ؟ ألم تجد مجتمعاتنا الحضرية في أوساطها أناس من أديان أخرى احترمت إرادتهم وأزياؤهم وتقاليدهم وطقوسهم ؟ ألم تتعايش مجتمعاتنا الحضرية مع بعضها البعض ، ويسودها التكافل والتسامح والمحبة ؟ أم أنها كانت منغلقة على ذاتها ولا تعرف الا التحريم والكراهية والإقصاء ؟ بأي حق يفرض الحجاب على المسيحيات في العراق اليوم ؟ لقد عاشت مجتمعاتنا الحضرية طوال ألف سنة وهي متعددة المذاهب الدينية بين حنفي وشافعي ومالكي وحنبلي .. أو بين شيعي وزيدي وعلوي ودرزي ؟ وهذا سر جمالها .. هل انغلقت على مذهب واحد فقط من أقصاها إلى أقصاها ، بل وفرض مذهب واحد نفسه في الميدان ليحتكر الإسلام باسمه ؟ الم تكن مجتمعاتنا الحضرية بكل تنوعها الديني والمذهبي تمتلك فضاء من الجماليات والحريات الدينية والاجتماعية سابقا ، وقد افتقدتها أجيال اليوم ؟ ألم تتحمل مجتمعاتنا الحضرية نزق أهل البوادي وسماجتهم وما كانوا يفعلونه من شرور وهمجية كقطاع طرق ولصوص وقتلة ؟
ألم يطالبنا الإسلام العظيم بالاجتهاد الذي اعتبره أس التطور وسمة للحياة ؟ لماذا لم تمض مائة سنة على انتشار الإسلام ، وظهرت الحاجة إلى الفقه والفقهاء ؟ ومن بعد تبلورت الحاجة إلى أصول الفقه والاجتهاد ؟ وها قد مرت مئات السنين على مجتمعاتنا وهي لم تجد اجتهادا حقيقيا ، ولا تجديدا حقيقيا ، ولا فقها جديدا ؟ إذا كانت مجتمعاتنا الحضرية قد أنجبت من خلال مؤسساتها الدينية العريقة أفضل الفقهاء الذين انتشروا في البلاد .. فلماذا لم يؤخذ بكلامهم أو افتاءاتهم اليوم .. وخضع الناس لافتراءات فئة محددة من المتطرفين ؟ ولماذا أخذ التطرف يغزو كل عالمنا ؟ ولماذا عجزت مجتمعاتنا الحضرية في التفوق على الهجمة المتعصبة ؟ لماذا عجزت حكوماتنا العربية والإسلامية على معالجة هذه المخاطر البشعة ومعالجة تداعياتها ؟؟ لماذا خضعت لمشيئة نفر من المتعصبين الذين لا يرون الإسلام إلا حكرا عليهم ؟ لماذا أخفقت سياساتنا وحكوماتنا في إحداث التغيير الحقيقي بمعزل عن سطوة هؤلاء الذين انقلبوا على مجتمعاتهم الحضرية ، متلقفين كل الأنماط البائسة التي لا تستقيم والحياة ؟ أليست هناك حكومات عاقلة في هذا العالم الإسلامي تقف سدا منيعا أمام هذا الوباء ؟ الم تكن مجتمعاتنا الحضرية عبر تاريخها وجغرافياتها المتنوعة ـ أيضا ـ متعددة الاتجاهات والميول والتيارات .. لقد اختزل الزهد في العصور العباسية إلى طرائق تصوف على كل العصور التالية .. وبالرغم من كل طرائق التصوف التي عرفتها مجتمعاتنا وأساليبها وانعزاليتها ، ولكنها لم تفرض سطوتها على المجتمعات باسم الإسلام .. وإذا لم يتقّبل أي مخالف لي مثل هذا كله ، فأنني أسأله : هل كل التاريخ وكل الجغرافية وكل الدنيا على خطأ منذ مئات السنين .. ويبقى حضرته فقط على صواب ؟

للحديث صلة
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية 17 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …