الرئيسية / مقالات / هل تغيّرت اللحظة التاريخية الحرجة ؟

هل تغيّرت اللحظة التاريخية الحرجة ؟


اسباب متغيرات اللحظة التاريخية الحرجة
إن متغيرات اللحظات التاريخية الحرجة لمنطقتنا التي بدأت من العراق قد فتحت الباب واسعا أمام اهتمام العالم كله من اجل التسارع والتسابق حتى وبوسائل غير أخلاقية ولا أدبية ولا حتى قانونية للاستحواذ على شيء ما من هذا العصف الأصفر الذي يجتاح قلب العالم تحت مسميات شتى لم يدركها حتى كبار الغلاة السياسيين من دهاقنة صناع التاريخ .. ذلك أن مدرسة المتغيرات في النظام العالمي الجديد لا تولي العناية الرئيسية لطبيعة الأحداث وخطوط سيرورتها التاريخية وإنما لدراسة السياقات والبنيويات الفكرية والأنساق الاجتماعية والمصالح الاقتصادية والخرائط السياسية والأوعية الثقافية.. بل ويصل الأمر إلى المؤثرات الطبيعية والآثار العضوية التي انتجت تلك الأحداث المتنوعة التي قامت في نفس تلك البيئة الأولى التي أنتجت الحضارات القديمة والثقافات الاولى في تاريخ البشرية . وعندما نستمع «اوليفييه دومولان» يطرح سؤالا جوهريا وارتكازيا مفاده: «بماذا تخدمنا المعرفة التاريخية اليوم في بناء المستقبل الذي يريده العولميون الجدد ؟» ، فحري بنا نحن ابناء العراق ان نبحث مع هذا الذي يطرح مثل هذا التساؤل عن أجوبة حقيقية له قدمها برنارد لويس وفوكو ياما وديفيد روبكوبث وروبرت كوبلان وكينيشي اوماي وغيرهم .. ذلك لأن الأجوبة ستكون بلا شك تخص تغيير واقعنا وتفكيرنا نحن في الدرجة الأولى الذين جعلوا العراق الحالي في بداية القائمة السوداء من اجل ان يغدو – على أيديهم – في بداية القائمة البيضاء لمصالحهم هم فقط .. فماذا نرى ؟
كان هذا السؤال نفسه عنوان حلقة دراسية جامعية بجامعة كيل بألمانيا الغربية كان لي الحظ في حضورها بصفة مراقب لبعض اعمالها التي جرت خلال عامي 1982ـ 1983 ادارها المؤرخ «فرانسوا بيداريدا» الذي كان قد اشرف العام 1995 على تحرير واصدار كتاب جماعي متميز تحت عنوان: «مسارات ماضية يعاد توليفها بحالات التاريخ » . هكذا وجدت منذ قرابة 25 سنة مضت إن هناك من يريد أن ينفض يديه من هذا الذي ظهر معقدا وغاية في التراجع في جميع المرافق الحيوية في منطقة الشرق الأوسط ، وخصوصا في التعليم والوعي وحقوق الإنسان والديمقراطية، إذ بدا واضحا أن أزمة الدكتاتوريات في المنطقة قد خلقتها كل من الانقلابات العسكرية الأمريكية المأجورة أولا ، والأحزاب المؤدلجة الثورية ثانيا ثم ما تكلل حدوثه العام 1979 بولادة الحكومة الدينية في إيران ثالثا ومشروعها الاستراتيجي الذي أسمته بـ ” تصدير الثورة ” !

لعبة الامم واحجار الشطرنج
نعم ، لقد بدا واضحا أن لعبة الأمم الامبريالية قادت إلى خراب المنطقة اثر الحرب العالمية الثانية وخصوصا اثر تطبيق مشروع روزفلت ! وان الغرب اخذ يعمل بشكل محموم لكسب مصالحه على حساب زرع حكومات غبية في المنطقة وانه يجد العديد منها تسارع في تغطية المساهمات الحيوية التي لها علاقة عضوية مع مصالحه في ميدان تغييب الوعي والعقل وفي صناعة اغلب القرارات المصيرية التي تخص عالمنا الذي ازدادت مشاكله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتكلل كل هذا وذاك بأقصى كوارثه في حربي الخليج الأولى والثانية ، وما جّرت كلتيهما على العراق والمنطقة كلها من كوارث ونكبات . لقد ولدت الطفيليات في عالم جهول يغّيب مصالحه عن عمد وسبق إصرار إذ سجنت الآراء الحرة وقهرت الأصوات الوطنية واغتربت آلاف النخب ، واستبدت الدكتاتوريات بواسطة أجهزة مخابراتية طاردة تزرع الرعب .. وماتت الطبقة الوسطي التي كان المجتمع في كل مكان يبنى نفسه من خلال موظفيها ومثقفيها وساستها وتجارها ومعلميها ورجالها ونسوتها.. وانحلت الفرص السانحة القديمة التي كانت تعمل على صون المضامين الفكرية والسياسية بعيدا عن مكانة الدين والطائفة والمذهب بعد أن عاثت الشوفينيات القومية فيها فسادا .. ولم يقف المشهد الملئ بالباروناميات المضحكة عند هذا الحد ، بل تفاقمت المشكلات الداخلية والحدودية والاقليمية لتشتعل المنطقة بالصراعات والحروب الباردة والأهلية والحدودية والإقليمية التي أرجعت منطقتنا عشرات السنين الى الوراء وأهدرت ثروات طائلة عليها من دون أي مبرر أبدا ومن دون أي مسّوغ مطلقا .. وغدت الأمة التي يتشدقون بمكانتها امة مأزومة تسوق الأضاليل باسمها إلى شعوبها التي كانت تتراجع إلى الخواء المرعب . لقد بدأت الشعوب تهرب من واقع مأزوم إلى غرائب اليوتوبيا وتجليات الدين والعزلة والتمرد ثالثا .. ومن يراقب سيرورة العلاقة مع الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية ، سيجد إنها كانت تسكت على كل ما يحصل من جرائم وخطايا وحتى وقت قريب وهي تطمح بالاحتواء المزدوج لقوتين إقليميتين في الشرق الأوسط وهي ساكتة عن كل ما تقترفانه ، وهل ننسى ما كان يقدمه من أفكار كل من : زبيغينو بريجنسكي وبرانت سكوكروفت وريتشارد مورفي .. وبالرغم من نشر عدة مشروعات في التسعينيات من القرن العشرين كالشرق أوسطية والمتوسطية وبالرغم من البدء بالتفكيك من اجل إعادة التركيب وبقاء المسألة العراقية ملتهبة وفي الصدارة من الأولويات على عهد الرئيس كلينتون ، إلا أن 11 سبتمبر 2001 قد هز الجرس بقوة شديدة لدى الأمريكيين الذين وجدوا أنهم ملزمون لطي الصفحات السابقة لفتح صفحات جديدة .. وإذا كانت أفغانستان أول صفحة جعلت القوة الأمريكية تدخل عمق آسيا عام 2002 ، فان العراق كان الصفحة الأساسية في تدميره والإجهاز على بنيته لا التحتية حسب ، بل الفوقية بكل ما تحتويه من نخب فاعلة .. ثم تتسلسل الصفحات على مدى سبع سنوات في الشرق الاوسط حتى نهاية 2009 .

هل باستطاعة العراق انقاذ نفسه ؟
هنا ، أرجو من الذين يتابعون المتغيرات بطريقة جدية أن لا يثقوا أبدا بما يقوله البعض من أولئك الذين يسمون أنفسهم بالمحللين السياسيين والمراقبين الصحافيين وحتى الكبار منهم ، بسبب عدم انطلاقهم من المرجعيات الأولى وركائز المسلسلات والمشروعات التي انتهت كي يكون وضع مناطق معينة من العالم هكذا .. كما وأتمنى أيضا أن لا يشعر البعض بإلغاء دوره الذي اعتبره قياديا لخمسين سنة فمن يسمع ما صرح به محمد حسنين هيكل – مثلا – عام 2003 في قناة دريم الفضائية سيجد انه يستخف بالأدوار ويستصغر ما جرى ، وخصوصا ، للعراق والتقليل من إستراتيجيته ومكانته.. إنهم أصحاب أفق ضيق كونهم يعيشون ما يجري خلال اللحظة التاريخية نفسها من دون التفكير لما سيودي بنا كلنا المصير . إن هيكل دوما ما ينفي عن العراق أي دور له على امتداد التاريخ ، بل ويستصغر شأنه عن قصد وسبق إصرار ، وهو إذ يؤكد أن الشرق الأوسط يقوم على ركيزتين اثنتين : مصر وإيران ، فهو يصدق بشأن مصر كونها تحتل مركزية العلاقة بين الشرق الأوسط والبلاد المغاربية ، ولكن يخطئ كثيرا عندما يعتبر إيران ركيزة أساسية ، فالعراق وحده يحتل مركزية الشرق الأوسط منذ القدم حتى يومنا هذا .. وإذا كانت الحروب الأخيرة قد أضعفته جدا ، فمن اكبر مستلزماته اليوم قدرته على استعادة دوره ، خصوصا الدور المتنوع كالذي تمتّع به على امتداد العصور .. وهل باستطاعته خلق وظيفة المركز الجيوستراتيجي في خدمة الأطراف مع مهمة التغيير ، فهو البلد الوحيد الذي له اكبر حدود مشتركة مع اكبر قوتين إقليميتين في الشرق الأوسط : تركيا وإيران .. وهو القادر على حفظ التوازن بين هاتين القوتين .. وهو يمتلك ثروات ليست هائلة حسب بل متنوعة وخصوصا الاقتصادية والبشرية ، وهو يمتلك نسيجا اجتماعيا وثقافيا غريب التنوعات لابد ان توثقه مؤسسات مدنية معلمنة .. وان له تجربة مركزية شرق أوسطية تاريخية ناجحة في الترابط الإقليمي كانت يمثلها سابقا كل من ميثاق سعد آباد في الثلاثينيات وحلف بغداد في الخمسينيات ، وبالإمكان استعادة روحها من جديد ليس ضد الشيوعية العالمية كما كانت قديما بل لتغدو ضد الموجات المؤدلجة الجديدة هذه المرة وتكون بغداد مركزية مؤسساتية إقليمية مدنية ، ناهيكم عن وجود نخبة متخصصة يمكنها أن تؤسس برامج واليات وتنفذ عمليات اقتصادية وسياسية للنموذج القادم .

ماذا قلت في العام 2003 ؟
قلت في مقال لي : بأن العراق ليس بلدا سهلا أبدا يمكنه أن يغدو بسرعة نموذجا شرق أوسطيا للمركزية العولمية .. انه من البلدان المعقدة جدا ، وكان قد مر بسلسلة تاريخية مريرة من الأحداث والحروب ولم يزل .. ولا ندري كيف سيخرج من معضلته اليوم .. انه يحتاج إلى نقاهة تاريخية بعدها لعدد من السنين خصوصا وان هناك تركة ثقيلة من المشكلات الصعبة التي تحتاج إلى حلول عبر سنوات .. وان مجتمعه اليوم هو غير مجتمعه قبل خمسين سنة ! وان أكثر من أربعة ملايين عراقي مهاجر ليس من السهولة أبدا أن يرجعوا ليلتئموا بسهولة مع واقع اجتماعي متغير في أساليبه وحتى في عاداته وتقاليده .. صحيح أن للعراقيين أطيافهم وألوانهم وتنوعاتهم ولكن بنفس الوقت لهم تعددياتهم ومرجعياتهم واختلافاتهم .. وان الديمقراطية والمؤسسات المدنية ضرورة لهم ولكن تراكمات الماضي الصعب بحاجة إلى معالجات عملية وسيادة قانونية وخبرات تخصصية وتجارب براغماتية بعيدة عن العواطف الساخنة وعن الانقسامات المحلية وكيفية تقبل أي عراقي طبيعة المتغيرات الجديدة المنبثقة من تحت العباءة الأمريكية ؟ وكثيرا ما رددت منذ العام 1979 بأن المبادئ والأفكار لا تصّدر أو تستورد بقدر ما تستلهمها الشعوب والمجتمعات . فهل سيغدو العراق مؤهلا لمثل ذلك ؟ وهل سيتقبل العراقيون الالتزام بوظائف جديدة من اجل تغيير تاريخ المنطقة بالكامل ؟ وهل سيغدو العراق نموذجا يحتذى به في قابل الأيام والسنين ؟ انني اشك في ذلك .

نشرت في الصباح البغدادية ، 20 تموز / يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …