Home / مقالات / حركة عدم الانحياز: هل من فلسفة جديدة ؟

حركة عدم الانحياز: هل من فلسفة جديدة ؟



انعقدت قبل أيام الدورة 15 لقمة دول عدم الانحياز في شرم الشيخ بمصر ، بعد مرور أكثر من نصف قرن على تأسيسها ، إبان سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي ، وكانت قد ولدت ضمن أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وحقوق الإنسان عام 1955 في باندونغ ، مستهدفة الحياد الايجابي وقت ذاك . أسسّها كلّ من : نهرو ( وكان وراء التسمية ) وعبد الناصر وتيتو ونكروما وسوكارنو وغيرهم . وإذا كان مؤتمر شرم الشيخ قد استرجع المبادئ الأولى ليؤكد التزامه القوي بها ، مشددا على تنشيط الحركة ونفوذها وتقويتها ، باعتبارها منبرا أساسيا لتمثيل العالم النامي .. متعهدا بالحفاظ على مقررات باندونغ والعمل بها ، لضرورتها الدولية اليوم ، فهل استرجع المؤتمرون مبادئ إعلان هافانا عام 1979 القائلة بـ : ” استقلالية الدول غير المنحازة وسيادتها وأمنها وسلامة أراضيها في إطار نضالها ضد الامبريالية والعنصرية وأشكال التدخل الخارجي والاحتلال والهيمنة وسياسات القوى العظمى ، ورفض سياسة التكتلات ..” الخ ؟
لقد نجح شرم الشيخ في الترحيب لأول مرة بدعوة مصر إلى قمة السيدات الأوائل للحركة ، من اجل إثراء دور المرأة في إدارة أزمات مجتمعات عدم الانحياز ، كما أكدت وثيقة المؤتمر الختامية على التصدي للازمات والتحديات ، ونزع السلاح ، والأمن الدولي ودعم حقوق الإنسان ، ودعم الحق الأساسي للشعوب والأراضي التي لا تتمتع بالحكم الذاتي ، والسعي نحو التوصل للسلام العادل والشامل في قضية الشرق الأوسط ، باعتماد قرارات مجلس الأمن ومرجعيات مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام ومبادرة السلام العربية بأكملها ، ودعمهم كل حقوق الفلسطينيين في العودة ، ومطالبة إسرائيل بتنفيذ كل متطلبات المجتمع الدولي ، ودعا الإعلان إلى إصلاح الأمم المتحدة ، ورفض العقوبات الأحادية ومعالجة الأزمة المالية العالمية .. وشدّد على التنمية الدولية ، والاحتياجات الخاصة لإفريقيا ، ومواجهة الأوبئة والتغير المناخي ، ونقل التكنولوجيا المتقدمة ، والحوار بين الحضارات ، وعدم التفرد الثقافي ، وتشجيع ثقافة السلام ، ومعالجة الأمراض ، ومكافحة الاتجار بالبشر ، ومواجهة الإرهاب الدولي .



صحيح أنني اتفق مع قول الرئيس مبارك إن الحركة لم تزل حية وبحالة جيدة ، كون أن رؤساء ورؤساء حكومات 118 دولة في العالم لبّوا دعوة مصر ، ولكن هل حقق هؤلاء شيئا جوهريا باستثناء مطالبات يقولها كل العالم ؟ مطالبات رنانة دعت إلى نزع السلاح الدولي، وإصلاح الأمم المتحدة، وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي الدولي، وإعداد أجندة شاملة خاصة بالطاقة، ورفع الحظر الذي تفرضه أميركا منذ خمسين سنة على كوبا، فضلاً عن قضايا مهمة أخرى. لكن ما مدى تأثير دعوات مماثلة؟ ومن يصغي إلى حركة عدم الانحياز؟ إن العالم كله يتمنى أن يقضي أمتع الأوقات في منتجع شرم الشيخ ، فهو من أجمل الأماكن السياحية في العالم ..
نعم ، لقد خطت الحركة خطوة حيوية بعد أن كانت تعاني الصمت والتهميش ، إنها لأول مرة تعلن عن دور المرأة غير المنحازة ، فضلا عن جهودها في تقارب دول نامية غدت متشظية بعد سقوط الكتلة الاشتراكية .. إذ تلاقت الهند والباكستان لأول مرة بعد وقت طويل ! ولكن ، من يسمع لحركة عدم الانحياز في عالم اليوم ؟ إن كان هناك مجرد اهتمام بالعالم النامي سابقا ، فهو اليوم مهمّش دوليا , لم يعد هناك شرق وغرب ، بقدر ما هناك شمال وجنوب . لقد زادت في المجتمعات النامية: الفوضى ، والدكتاتورية ، والفقر، وانعدام القيادات الحكيمة ، واختفاء الشارع السياسي ، وموت الفكر المعارض .. أما الحكومات النامية ، فهي منحازة بشكل أو بآخر لهذا الأمريكي أو ذاك الأوربي .. ولا يمكنها أبدا أن تعترض على سياساتهما ، كونها لا تمتلك القوة المشتركة ، ولا الاحترام المتبادل مذ افتقدته في حروبها الأهلية والإقليمية ، أو انقلاباتها العسكرية أو أحكامها الطارئة .. فهل كان إعلان شرم الشيخ مجرد كلام على الورق ؟ إن العالم مثقل بالاختراقات ، والاحتلالات ، وطغيان الكبار في شؤون الصغار ، وبعضها غارق بانحيازاته ، ان مطالبات عدم الانحياز لا تكفي وحدها لإنقاذ دوله ، بل لابد من إيجاد صيغ للتعاون والاستثمار والمساعدات وعلاج الأمراض والايدز والانفلونزات الجديدة والقضاء على المجاعات وتجفيف مصادر الإرهاب ، والعناية بالشباب والأطفال .. الخ
ثمة قضايا نجحت فيها القمة وأخرى لم تتحقق ، وما تحقق هو النزر اليسير من حجم الانتصار .. الصومال يطل بصورته المأساوية والحرب تأكل القرن الإفريقي .. العراق لم يزل منتهكا ومتشظيا وتدميه التعويضات الخارجية والانقسامات الداخلية مع أهوال الطائفية والصراع حول كركوك والموصل ! أفغانستان لم يذكرها احد ، وهي واقعة بين المطرقة والسندان ! مشكلة السودان غابت هي الأخرى ! قضية الشرق الأوسط تزداد تعقيدا يوما بعد آخر ، وإسرائيل تعيش على كل التناقضات ! الأزمة في إيران وتداعيات سياساتها .. ثمة قضايا مهمة كان على قمة عدم الانحياز معالجتها ، وإيجاد حلول للنزاعات المزمنة القديمة ، أو تلك التي ولدت اثر سقوط الكتلة الاشتراكية وتبلور الاستقطاب العالمي ودور العولمة ..
لقد كتب إعلان شرم الشيخ بروح الماضي ، ولكنه بمصطلحات اليوم ، فلم نجد ذكرا لـ ” عالم ثالث ” أو ” عالم اشتراكي ” أو ” حياد ايجابي ” ، ولكنه تناول قضايا اليوم وكل العالم يعرفها ويعالجها ، ولا يحتاج أن نذّكره بها .. إن ما كان يهم في شرم الشيخ ، كما اعتقد ، معالجة قضايا أكثر حيوية تخص مجتمعاتنا ، والخروج بصيغة جديدة إلى العالم فيها لغة مشتركة جديدة ، وفيها مضامين جديدة للتعاون ، وفيها فلسفة جديدة للحياة .

نشرت في البيان الاماراتية ، 29 يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

Check Also

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …