” الجلاد : .. شنو أنت صخرة .. ؟ جبل .. ؟ ما تتكلم ؟
نطق العقيلي للمرة الأولى بثقة قائلا : أوليدي أنا دائما
في العلو والسمو ومن لا يستحق الحياة من الأقزام ..
تحت أقدامي “
عن رواية القيادي الشيوعي العراقي يحي الربيعي
الذي رافق زنزانة العقيلي في قصر النهاية عام 1969
شاء القدر أن يكون العراق بيد البكر وجماعته البعثيين ، بدل أن يكون بيد العقيلي وجماعته المستقلين يوم 17 تموز / يوليو 1968 .. إنها لحظة تاريخية حاسمة ومهمة جدا غّيرت مسار مستقبل العراق الجمهوري كله ، ولا يمكن أن تمّر من دون ما كان يرسم للعراق في دوائر خارجية من مخططات ، وضحّتها السياسات التي مورست في ما بعد ، والظروف التي عاشها كل من العراق والعراقيين ردحا طويلا من السنين .. دعوني أتكلم في حلقتين ، عن واحد من المع القادة العسكريين والسياسيين العراقيين ، كان ولم يزل حتى اليوم مسكوتا عنه ، وعن عراقيته ودوره وتأثيره وتراجيدية عذاباته في قصر النهاية ، ورحيله الغامض . انه اللواء الركن عبد العزيز العقيلي ، أحد أعضاء الهيئة العليا للضباط الأحرار رفقة الزعيم عبد الكريم قاسم ، ووزير الدفاع على عهد الرئيس عبد السلام عارف ..
تمهيد : رسالة اكاديمية بحاجة الى معلومات اضافية
تسلمت قبل أيام نسخة من كتاب الأخ الدكتور ستّار نوري العبودي والموسوم : عبد العزيز العقيلي : حياته ودوره العسكري والسياسي في العراق 1919 – 1981 م في طبعته الأولى المنشورة عن مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي ، 2009 ، وقد أهداه لي الصديق الأستاذ لؤي غانم العقيلي ، ابن أخ المرحوم اللواء الركن عبد العزيز العقيلي .. وبهذه المناسبة ، أود أن اشكره جدا ، كونه حفّزني كي اكتب عن رجل عّد من المع رجال العراق الجمهوري ، واشتهر بوطنيته وذكائه ونظافته ونزاهته وصلابته ورجاحة رأيه .. والذي خدم العراق بكل إخلاص وأمانة ، ورحل رحلته النهائية بعد سنوات من العذاب والتعذيب .. وقد اشتهر بما أبداه من الصلابة التي جعلته لم يقهر أبدا في دهاليز قصر النهاية .
إن أصل هذا ” الكتاب ” رسالة أكاديمية ، كما يبدو ، ولابد أن يشكر الأخ العبودي على عمله هذا ومعالجته سيرة رجل عراقي قدم للعراق الكثير ورحل من دون أن يأخذ منه شيئا ، بل رحل بعد أن اضطهد وعّذب عذابا أليما ظلما وعدوانا .. وكم كنت أتمنى على الأخ الباحث الكريم أن يتّصل بي لأزوده بمعلومات مهمة عن سيرة المرحوم العقيلي ، أو يتّصل بآخرين ممّن يمتلكون معلومات مهمة عن هذا الرجل ، وما كان يتّصف به من الصفات ، فضلا عن دوره السياسي بين 1966 – 1968 .. كنت أتمنى مخلصا أن لا يعّول الأخ الباحث على رواية الدكتور وليد الخيال ، فهي رواية ساذجة ووهمية ولا سند لها أبدا ! وان صاحبها يريد أن يبني له مجدا على حساب تاريخ العقيلي ! ولكنني أثني على رواية أخيه ورفيق عذاباته المهندس غانم العقيلي ، وبقية الروايات . وكنت قد سجلت معلومات غاية في الأهمية عن بعض الذين عرفوه عن قرب أيام سنوات دراسته الأولى بالموصل ، أو أيام تشكيله لتنظيم سياسي وطني على عهد الرئيس عبد الرحمن عارف ببغداد .. وكان على قاب قوسين أو أدنى من تسّلم الحكم في العراق ، لولا ذهاب الحكم إلى البعثيين عام 1968 ، ومن ثّم التنكيل بالعقيلي تنكيلا ظالما لم يستحقه أبدا . كما انه برئ تمام البراءة من التهم التي وجهّت إليه .. ولم تكن عملية القضاء عليه ألا خوفا منه ومن كتلته السياسية ومن قوته العسكرية ، وكان من ألد أعداء البعثيين .. فضلا عن الحقد الدفين الذي كان يضمره احمد حسن البكر نحوه !
وقفة عند سيرته : ملاحظات اضافية
ولد عبد العزيز العقيلي بالموصل عام 1919 في عائلة عربية الأصل ، قطنت محلة حمام المنقوشة ، ومنذ صباه ونشأته الأولى عرف بذكائه واستقلاليته وطموحه وجدّيته التي تفوق الوصف في كل مراحل دراسته ، وكان صديقا صدوقا لوالدي القاضي المرحوم كوكب علي الجميل ( توفي عام 1968) أيام الدراسة ، إذ كانا في صحبة دائمة ، كما حدثني عن ذلك صديقهما الأستاذ إبراهيم الدباغ ، وبرفقتهما صبري الصمدي .. ثم غادرهم ملتحقا بالدورة المستحدثة عام 1936 ( ايام بكر صدقي ) التي اسموها بدورة ( قادة المستقبل ) . كان العقيلي قارئا من طراز خاص ، ويتمتع بذاكرة حادة ، وكان يكتب ملاحظاته على هوامش الكتب التي يقرأها .. لم يكن انعزاليا ، ولكنه كان يختار أصدقاءه بعناية بالغة ، فوصفوه بالمتكبّر ، وبالفعل ما كان يطيق الانسجام مع أناس أغبياء أو سّذج أو كسالى ! كان لا يطيق الكذب والكاذبين ودفع ثمنا كبيرا لجرأته وصراحته مع غيره . حصل على شهادة الكلية العسكرية بعد تخرجه بالدورة 15 في الكلية العسكرية عام 1938 ، وعلى شهادة البكالوريوس في الحقوق ، فكان أن تناصف في ثقافته عسكريا ومدنيا ، ولكنه تفوق في حياته العسكرية ، وتدّرج في مراتبه وحصل على شهادة أركان حرب ، وقد عرف منذ بداياته العملية انه رجل صاحب مبدأ ومعرفة ورأي .. كما عرف بين أقرانه الضباط عسكريا منضبطا وصارما ونزيها ، ولكنه يميل للانفراد بالرأي والمعاندة ، ولا يمكنه أن يتنازل أبدا عن أي قرار يتّخذه .. وبقي على امتداد حياته لا يميل للحياة الاجتماعية العراقية ولم يعرف اللهو طريقه إليه أبدا ، فبدا يختلف عن بقية الضباط العراقيين ، ولكنه كان يقّدر الموهوبين والأذكياء واللامعين ويعتمد عليهم ، ولا يهتم بالجهلة وذوي السوابق .. كان كتوما ، قليل الكلام ولا يضحك الا مع من يعرفهم معرفة عميقة ، ويهوى الشعر ، وقراءة الأدب .
انخرط في الحياة العسكرية العراقية منذ الثلاثينيات ، واشتهر بتفوقه قبل تدرجه بالرتب العليا .. ودرس في كلية الأركان وتخرّج بتفوق ونبوغ ، فأرسل إلى بريطانيا للدراسة سنة كاملة في كامبرلي وعاد متفوقا وبلغة انكليزية لا بأس بها .. ثم انخرط لدراسة الحقوق وهو ضابط أركان في النظام المسائي فحصل على شهادة البكالوريوس في القانون .. ولكنه احترف صنف المدفعية ، وعشق الحياة العسكرية ، وتنّقل في عدد كبير من وحدات الجيش العراقي شمالا وجنوبا ، وكان محل تقدير واعتزاز كل القادة والآمرين ، وحصل على عدة أنواط شجاعة .. بل رشّح ليكون آمرا للحرس الملكي بديلا عن اللواء عبيد الله المضايفي ، ولكنه استبدل بطه البامرني !
احد صّناع الجمهورية العراقية
وانخرط في هيئة الضباط الأحرار ، وليست هناك معلومات كافية عن كيفية انخراطه في ذلك ” التنظيم ” ، وكان حدّثني زميله اللواء الركن خليل سعيد ( الذي كنت التقي به في مديرية التطوير القتالي ببغداد قبل ثلاثين سنة ) إن زميله العقيلي كان يعارض معارضة شديدة قتل الملك الشاب فيصل الثاني أو تصفية العائلة المالكة ، وقد كان هائجا صباح يوم 14 تموز ، وذهب متأخرا في الالتحاق بمنصبه قائدا للفرقة الأولى في الديوانية بإلحاح من عبد السلام عارف ! وكان هو الوحيد الذي يمتلك بين الضباط الأحرار ، رصيدا من الوعي والثقافة العليا ، ويأتي من بعده ناظم الطبقجلي .. إذ نصّب العقيلي قائدا للفرقة الأولى محل عمر علي بعد انفجار 14 تموز / يوليو 1958 ، وكانت قد توثّقت علاقته بالزعيم عبد الكريم قاسم ، ولكن بعد أشهر نقل ليكون سفيرا في ديوان وزارة الخارجية لأسباب تتّصل بسطوع نجم العقيلي من قبل الضباط العراقيين . إن ما أشيع عنه انه تلكأ في الالتحاق بمنصبه قائدا للفرقة الأولى في الديوانية ، وذكر لي اللواء خليل سعيد بان العقيلي والطبقجلي قد اعترضا على كل من قاسم وعارف على الطريقة البشعة التي جرت صبيحة 14 تموز / يوليو 1958 بتصفية العائلة المالكة ، وظل العقيلي يعاتب زميله قاسم مرارا ، وكان الاثنان يتبادلان اسميهما بلا ألقاب ولا أي حواجز ، فيسمي احدهما الآخر : كريم وعزيز.. إن مجموعة مواقف من لدن العقيلي ، فسّرت تفسيرات مشبوهة فكان ان اتهم بعلاقته بمؤامرة رشيد عالي الكيلاني ضد حكومة الثورة التي كان يقودها قاسم ، ولقد تبيّن ان التهمة لم يكن لها أي أساس من الصحة . ان مجرد نقله الى منصب مدني يعني التخّوف منه ، ولم يكن العقيلي على وفاق مع عبد الوهاب الشوّاف ، ولا مع تدخلات الجمهورية العربية المتحدة بالشأن العراقي الخاص . وعليه ، لم يكن مشاركا الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبد الوهاب الشوّاف في الوقوف ضد حكم عبد الكريم قاسم عام 1959 .
مقولته ” القانون فوق الرحمة ” !
تؤكد جميع المعلومات ان الرجل كان مستقيما في حياته ، ويقّدس الحياة العراقية الوظيفية ويحترم القوانين .. بل هو الذي عرف عنه قولته الشهيرة ” العراق لا يستقيم ولا يتطور الا بالقانون ” ، وقولته الأخرى التي انتقد عليها كثيرا مذ قالها عام 1966 وهو وزير للدفاع بصدد تطبيق القانون ضد كل الهاربين والمتخلفين عن أداء الخدمة العسكرية : ” القانون فوق الرحمة ” ! ومنذ نشأته تشّرب بتقاليده الموصلية التي تلزم حملتها بالجدية والنظام واحترام القانون .. كما نهل من مجتمع موصلي محافظ له اعتزازه بدينه وعروبته ، ولكنه لم يكن متزمتا فيهما أبدا ، إذ كان عربيا ولكنه لم يكن يصفق لأي حزب قومي . كان العقيلي يقّدم عراقيته على الجميع ، ولم يتّقبل المد الشيوعي في العراق أيضا ، إذ حملَ ضده كونه الشيوعية لا تصلح للشعب العراقي ، كما كان يقول ! وعليه ، لما كان الافتراق بين قاسم وعارف ، آثر الاصطفاف إلى جانب عارف الذي كان يعتّز بالعقيلي غاية الاعتزاز ، إذ كان أعلى رتبة من عبد السلام ، وكان الأخير يرى فيه فلتة زمانه ، وعبقرية أوانه ، إذ لا يمكن للجيش العراقي أن ينجب واحدا من أمثاله . وكان العقيلي وفيا لعبد السلام ، ولكنه كان يستصغر عبد الرحمن عارف واحمد حسن البكر ، إذ كان لا يتحمل سذاجة الأول ، ولا يطيق تكاسل الثاني ! فكليهما لم يحملا درجة الأركان العراقية ، ولا يفهما شيئا في الإستراتيجية أو علوم السياسة . أما موقفه من الدكتور عبد الرحمن البزاز ، فكان يجلّه ويحترمه جدا كونه احد ابرز رجال القانون في العراق ، وطالما يدخل في حوارات معه حول تاريخ العراق ورجالاته ، وكيفية بناء إستراتيجية عراقية باستطاعتها الوقوف في مركزية الأحداث ، ولقد أخبرت من أكثر من طرف أن عبد السلام عارف كان يستشير العقيلي في اغلب القضايا المهمة ، وخصوصا بعد أن تكشّفت أمامه حقائق كانت مغيّبة عنه اثر الانقلاب الفاشل الذي قاده عارف عبد الرزاق ضد نظام الحكم ، ودور الرئيس جمال عبد الناصر .
العراق بين رجلين : عسكري ومدني
كان هو نفسه على رأس الخط العسكري وبمقدوره تسّلم حكم العراق بسهولة اثر مصرع الرئيس عبد السلام ، ولكنه آثر أن ينتخبه الضباط العراقيون إزاء الدكتور عبد الرحمن البزاز الذي آثر أن ينتخبه السياسيون المدنيون ، ولكن سدة الحكم لم تذهب لأي منهما ، بل ذهبت لأخ الرئيس الراحل وهو عبد الرحمن عارف وكان رئيسا للأركان وكالة .. فلم يحّصل العقيلي الا على صوته ، إذ غدر به حتى المحسوبين عليه بعد أن وعدوه خيرا ، ومنهم بعض الضباط الموصليين الذين أعطوا أصواتهم لعبد الرحمن عارف لأسباب منها المحافظة على مناصبهم الشخصية عند رئيس ضعيف ، وأيضا لأسباب سياسية تتصل بالأجندة السياسية الناصرية التي لم يكن العقيلي يكترث بها ! ناهيكم عن شخصيته القوية المعاندة التي كانت سببا في إقصائه ، إذ كان يتمتع بشخصية ومكابرة ومغايرة لا يمكن إن يتنازل عن رأيه لأحد ، ولا يمكن أن يقبل إلا الكفوئين والأذكياء للعمل .. ناهيكم عن وصول المشير عبد الحكيم عامر من مصر مزوّدا بتوصيات من جمال عبد الناصر ، وكان المشير قد لعب دورا في إقصاء كل من العقيلي والبزاز عن سدة الحكم ( كما حللّت ذلك في كتابي تفكيك هيكل ).
كان العقيلي قد التقى عدة مرات بالرئيس عبد الناصر ، ولم تكن العلاقة بين الاثنين ودّية كما كانت العلاقة متذبذبة وغير مريحة بين عبد الناصر والبزاز ، فان كان الأخير يناقش الرئيس عبد الناصر مناقشة أستاذ ضليع في القانون وبمناسبات عديدة ، ومنها محادثات الوحدة الثلاثية التي كانت جرت في العام 1963 عندما كان البزاز يشغل منصب سفير العراق لدى القاهرة ، فان العقيلي كان يجادل عبد الناصر بمنتهى القوة والحذاقة والصرامة العراقية ! وكان عبد الناصر يدرك ان كلا من البزاز والعقيلي وقفا ضد السياسة الاقتصادية وقرارات التأميم الاشتراكية التي طبقها الناصريون في العراق ، تلك التي عرفت بقرارات الدكتور خير الدين حسيب رئيس الهيئة الاقتصادية على عهد عبد السلام عارف ، وهي قرارات تشابه الى حد كبير قرارات عبد الناصر الاشتراكية .. ( وكنت قد أوضحت التفاصيل في كتابي : الرهانات المستحيلة ونقاشاتي النقدية لما كتبه السيد أمين هويدي سفير مصر في العراق عهد ذاك ) اضافة الى ان الاتيان بعبد الرحمن عارف يسّهل الأمر أمام عارف عبد الرزاق والناصريين للمجيء الى سدة الحكم لاحقا .. فكان لابد من الإتيان بعبد الرحمن عارف ليكون رئيسا للعراق .. وكان الأخير يخشى العقيلي خشية كبيرة ، إذ كثيرا ما كان العقيلي يشتكي منه لدى أخيه عبد السلام ، وكان عبد الرحمن رئيسا لأركان الجيش وكالة في وزارة الدفاع لدى العقيلي .. وشاء القدر أن يكون عبد الرحمن رئيسا ، ولأول مرة يرث الأخ أخيه في الحكم الجمهوري بالعراق ! ولما كنت قد سألت الرئيس عبد الرحمن عندما التقيت به في اسطنبول عام 1977 عن العقيلي ، لم يجبني الرجل بأي حقائق ، ولكنه اطرق طويلا ، وقال : كان عظيما رحمه الله .. بدا الرئيس عارف ، وكأنه تلميذ نجيب يقف امام أستاذ كبير !
الحلقة الثانية : مواقفه ورجولته
يعد اللواء الركن عبد العزيز العقيلي ، احد ابرز الزعماء العراقيين الذين اشتهروا بمواقفهم القوية ، وبصلابتهم التي لا تلين ، واحترامهم للقانون ، وتقديسهم للمال العام ، مع منجزاتهم الكبيرة وعدم تراجعهم عن قراراتهم ، ومحاربتهم للفساد والرشوة والوساطة والعصيان .. عاش ومات اعزبا بلا زواج ! وكثيرا ما أشبه عبد العزيز العقيلي الجمهوري بسعيد قزاز الملكي ، ذلك ان كلا منهما كان صلبا عنيدا وعاملا نشيطا من الصعب عليهما قبول الآخرين ، كما كانت لكل منهما القدرة في أن يقّدم حلولا ومقترحات سريعة ونافذة وقوية وناجحة ، فضلا عن أن كليهما لا يقبلان بالتنازل ولا بالحلول الوسط ، بل باستخدام القوة لإعادة النظام والقانون إلى نصابهما .
في يوم 25 شباط / فبراير 1959 ، باشر العقيلي العمل في منصب سفير في وزارة الخارجية من قبل الزعيم قاسم نفسه ، ولكنه رفض الالتحاق ، نتيجة ما كان يحدث من غليان سياسي في الموصل .. وسرعان ما اعتقل اثر أحداث الموصل 8 آذار / مارس 1959 في معسكر الدبابات ببغداد ، وجرى التحقيق معه ، وقدم لمحكمة المهداوي متهما وليس شاهدا ، ولكن ثبت ان ليس له اية علاقة بحركة الشواف ، ولكنه أفصح للمحكمة عن موقفه من تداعيات 14 تموز 1958 كونه احد الضباط الاحرار ، ولقد بقي معتقلا عدة أشهر ثم أطلق سراحه .. وفي المعتقل ، التقى ببقية المعتقلين ، ومنهم محمود شيت خطاب ورشيد عالي الكيلاني وضباط الموصل الذين اقتيدوا الى بغداد بعد فشل حركتهم بقيادة الشواف ، كما طلبه المهداوي ليشهد على عبد السلام عارف أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة ( محكمة المهداوي ) ، فشهد لصالح العقيد الركن عبد السلام مبرئا إياه من التهمة التي وجهّت إليه كونه احد تلامذة العقيلي في كلية الاركان ! وبعد انقلاب 8 شباط 1963 الذي لم يشارك فيه كونه من ابعد الناس عن البعثيين ، ولكنه نصّب بتزكية من عبد السلام عارف مديرا عاما للموانئ في البصرة .. وكان له دوره بتطوير الموانئ العراقية وشراء العديد من السفن وبناء بيوت وأرصفة ، ولكنه بقي منعزلا عن مجتمع البصرة ، كيلا يكون لأحد دالة عليه .. وبعد حركة عارف عبد الرزاق ضد سيده عبد السلام عارف .اصبح العقيلي وزيرا للدفاع في حكومة الدكتور عبد الرحمن البزاز .. واشتهر ببيانه الشهير ضد الهاربين من الجيش ، فالتحق الالاف منهم خوفا من تطبيق العقوبات ضدهم ..
موقفه الشهير من القضية الكردية
وفي زمنه ، كان الجيش يخوض معارك ضارية ضد فصائل مسلحة كردية في الشمال ( كردستان العراق ) والتي كانت تحقق انتصارات عدة على الجيش العراقي الذي كان بحاجة ماسة إلى التسلح .. وعندما أخذت محطات الأعلام في مصر على عهد عبد الناصر تشيد بتلك الانتصارات نكاية بالعقيلي ، واجه العقيلي الرئيس عبد الناصر منتقدا إياه بشدة على تصرفات أجهزته وصحافته ، مما حدا بعبد الناصر الإيعاز بالتوقف عن إذاعة ونشر ذلك ! وكان العقيلي من المؤمنين الأشداء باستخدام القوة العسكرية لتصفية الحركة الكردية التي كان يقودها الملا مصطفى البارزاني اذ كان يعتبرها حركة تمرّد وعصيان للحزب البارتي فقط ، وهي لا تمتلك قاعدة جماهيرية بين الأكراد العراقيين .. وطالما اشتهرت حركات بارزان كونها لا تمثّل إرادة كل الأكراد على حد قوله ! وبقي العقيلي على موقفه هذا ، اذ وقف بالضد من الدكتور البزاز الذي عالج القضية الكردية من خلال المفاوضات والتوصّل الى اتفاق شهير بين الطرفين ، اذ رفضه العقيلي رفضا قاطعا ، وبقي يصّر إصرارا قويا على الحل العسكري .. وحتى في مذكرته التي قدّمها في الاجتماع الشهير الذي انعقد في القصر الجمهوري أيام الرئيس عبد الرحمن عارف ، أعاد نفس أفكاره التي كان ، كما يبدو ، مصّرا عليها ، معتبرا الحركة الكردية حركة عصيان مسّلح ضد العراق ، وقد قال بأن الدولة لا يمكنها أبدا أن تتنازل أمام مطالب العصاة من الأكراد الذين يمكن خنقهم بالاتفاق والتحالف مع إيران ! ولقد سببت مواقفه هذه نقمة شديدة عليه لدى الأكراد . ويؤكد جميع من عرف العقيلي صحة قناعته بالحل العسكري ضد أي تمّرد يحدث في العراق ، إذ لم يكن يقّدم نزعته القومية على عراقيته .. ولم يكن ضد أي ملة أو قومية أو دين .. كما لم يكن ضد الأكراد أنفسهم ، ولكنه كان يّصرح دوما بأن أي تمرد يحدث يعّد ضد القانون وضد الدولة وفي أي بقعة من العراق ، فينبغي سحقه وإنهائه بكل الوسائل ، وكان قد خبر جيدا تفاصيل الحركة الكردية في شمال العراق وكتب عنها منذ أن كان طالبا في الأركان أكثر من رسالة وموضوع ومنها حركات بارزان منذ الثلاثينيات !
كتلة الموصل
كان عبد العزيز العقيلي قد قام بتأسيس تنظيم سياسي سري ببغداد على عهد عبد الرحمن عارف ، ( او ان التأسيس يعود للعقيد الركن بشير الطالب آمر لواء الحرس الجمهوري طوال عهد عبد السلام عارف ، وانضم العقيلي إليه ، وأصبح قائدا له ومسؤولا عليه ) وجمع من حوله العدد الكبير من الضباط والمسؤولين وأساتذة الجامعة والذين كان يجتمع بهم في بيته .. وكان الدكتور محمد رشيد الفيل احد أعضاء ذلك التنظيم ، والذي حدثّني طويلا عن تفصيلات تاريخية وسياسية ( كنت قد نشرت بعضها في كتابتي سيرة الدكتور الفيل المنشورة عام 2004 ) واذكر انني كنت برفقة والدي الذي التقى صديقه العقيلي في بيت الدكتور الفيل ببغداد عام 1967 ، وهو يجادله في صحة خطوة عبد الرحمن البزاز لحل القضية الكردية ومما حدّثني عنه الدكتور الفيل لاحقا عندما كنت التقي به في مدينة ردنك البريطانية في صيف كل من 1977 ، 1978 و 1979 ، إن العقيلي شّكل تنظيما سياسيا عراقيا وطنيا للعمل على تغيير نظام الحكم في العراق وإصلاح أوضاع العراق والاستناد على القانون ولوائحه مع تأسيس دستور دائم للبلاد وتهيئة البلاد للانتخابات ، وكان يرى في النموذج السياسي التركي مثلا رائعا في تقّدم العراق .. ولقد اجتمع حول العقيلي مئات السياسيين والضباط العراقيين .. وكان العراقيون ينتظرون وصول كتلة الموصل للحكم ، والتي لم تعد أخبارها سرية عن المجتمع ولا عن الدولة ..
رحلة العذاب
لقد كان العراق على مفترق طرق عند نهايات عهد عبد الرحمن عارف ، وبين جماعتين اولاهما جماعة العقيلي وثانيهما جماعة البكر .. ويبدو أن الجماعة الثانية كانت أقوى بحركتها وتنظيمها ومناورتها من الجماعة الأولى ، فكان أن اتفق عبد الرزاق النايف وعبد الرحمن الداوود مع البكر من خلال سعدون غيدان ، واسقط الاتفاق الذي كان مع العقيلي الذي ظن أن الانقلاب لصالحه ، ولكن اسقط بيده عندما وجد نفسه وحيدا في وزارة الدفاع ، وان البكر هو الآمر الناهي .. لقد كانت لعبة ذكية وسيناريو محبك ، وبمنتهى الغدر به وبجماعته ! ولكنني افسرّها على نحو آخر ، إذ أن ثمة إرادة خارجية قد تدخلت في الأمر ، فاسقط بيد العقيلي !.. لقد اعتقد الناس يوم 17 تموز 1968 إن العقيلي هو الذي سيقود البلاد ، فاذا بهم يفاجئون بالبعثيين يمسكون مقاليد السلطة .. ويقال أن اجتماعا بين العقيلي والبكر جرى يوم 25 تموز 1968 لا يعرف ما الذي دار بين الاثنين ، ولكن يبدو أن القضية الكردية كانت عاملا أساسيا في وصول البعثيين للسلطة بديلا عن العقيلي وجماعته .
قبض على العقيلي بعد قرابة شهرين ، وأودع السجن رقم واحد ، ثم زج في قصر النهاية ، ومعه اغلب أعضاء تنظيمه السياسي عدا من هرب ، وقبض أيضا على أخيه المهندس غانم العقيلي .. ولقد تّعرض العقيلي لشتى أنواع التعذيب والقسوة ، وكان اغلب أعمدة الحكم العارفي بمعيته ، وعلى رأسهم عبد الرحمن البزاز وطاهر يحي ورشيد مصلح وشامل السامرائي ومئات غيرهم من المدنيين والعسكريين .. وتروى روايات خرافية عن قوته وتحمله وشموخه ، اذ أبدى العقيلي شجاعة نادرة وصمودا بطوليا مذهلا .. كان يتلقى العذاب من دون أي يتأوه أو يصيح .. كان يراه المعتقلون مثالا للصبر والجلد والمكابرة ضد جلاديه ، فازداد احترامهم له .. يشيد به الأستاذ عطا عبد الوهاب في ذكرياته عنه بقصر النهاية سيئ الصيت ، وبرجولته الفذة ، ويشرح كبريائه وعزته وشموخه .. وانه لم يطأطئ رأسه أبدا .. كما ذكره جليل العطيه وكتب عن عذاباته .. وعلى الرغم من وحشية ذلك المعتقل الرهيب ، إلا أن صلابة عبد العزيز العقيلي في ذلك المكان تبدو أسطورية ، خصوصا وان رواتها لم يكونوا على اتفاق سياسي معه ومنهم بعض الشيوعيين .. كان يتعرض للتعذيب شبه اليومي من العام 1969 .. إذ يعلق وترتفع قدماه عن الأرض قرابة نصف متر ، ويجري تعذيبه بالجلد المبرح من خلال ما يسمى بالكيبل (= الأسلاك الكهربائية مغلفة بالبلاستيك الغليظ ) قبل منتصف الليل حتى الصباح ، إلا انه لم يتأوه أو يتهستر مطلقا ـ كما وصفه الشيوعي القيادي السابق يحي الربيعي في مقابلة الدكتور ستار العبودي له .
كان العقيلي زعيما ماردا في سجنه حتى ان أحد جلاديه وصفه بصخرة وبجبل .. لا يلين ابدا .. كان لا يتقبل الاهانة ابدا ، ويرد كونه اللواء عبد العزيز العقيلي ، فيعذب مرارا وتكرارا .. وكتب شاهد آخر رافقه في اعتقاله ان محضر التحقيق اطلع عليه صدام حسين ، فلم تعجبه صلابة العقيلي ، فاستدعاه للتحقيق معه بنفسه ، فاهانه صدام فرد العقيلي الاهانة بالبصاق عليه ، فاقسم صدام على تصفية هذا المصلاوي العنيد وهذه رواية جليل العطية الذي شارك العقيلي رحلته المأساوية .. اما الدكتور الفيل ، فقد حدثني ان كل الوسائل قد استخدمت ضد العقيلي ولم يهن او يضعف ، ورفض الاعتراف بما كان يملى عليه ، ولم يستسلم ويخرج على التلفزيون في اعترافات مفبركة وكاذبة .. وعليه ، فقد أجلسه جلادوه على مدفئة علاء الدين ، وهي مشتعلة فأصيب جنبه بالاحتراق ، وتركوه بلا علاج !
النهاية المحزنة
بعد مرور عامين كاملين على اعتقاله وعذاباته ، أحيل العقيلي الى “محكمة الثورة” ، ليتم الحكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة التجسس ، وهي تهمة واهية شهد الجميع ببراءته منها ، لتبدأ رحلة عذابه وصموده في زنزانة بشعة ومظلمة وكئيبة ومتعفنة بسجن “أبو غريب” ( الاحكام الخاصة ) .. وإزاء هذا الإصرار وتلك الصلابة ، كان لابد من القضاء عليه .. أتوا به بعد غياب شهر لا يعرف أين أخذوه ، بدا هزيلا مريضا وقد تقيح جلده وسقط شعره وفقد بصره ونطقه .. وغدا وزنه قرابة 40 كيلو فقط .. لم يعالج وقد تعطل عنده جهازه الهضمي وخدمه اثنان من المعتقلين ففي صباح يوم رطب غائم بارد كان اللواء العقيلي ممددا على أرض الزنزانة الضيقة المعتمة لكن دون حركة وقد كست جسده البارد زرقة فاقعة وهو مضرب عن الطعام .. لقد كانوا قد سقوه الثاليوم وفارق الحياة معذبا يوم 7 آيار / مايس 1981 دون أن ينحني لأحد أبدا الا لربّه وبارئه الأعلى .. رحم الله عبد العزيز العقيلي ، فقد عاش ومات من اجل العراق .
نشرت كل من الحلقتين باختصار في الف ياء الزمان ، يومي 19 و 26 تموز / يوليو 2009 ، ويعاد نشر الموضوع كاملا على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com