الرئيسية / افكار / هَوَس الشعارات لا ينجب العمالقة

هَوَس الشعارات لا ينجب العمالقة


ليس جلدا للذات .. بل تعرية لواقع
إنني في موضع الاتهام من قبل خصوم فكر وسياسة ، إذ يتقولون عليّ أنني أمارس جلد الذات ، وأجيبهم ـ هنا ـ بقوة ، أنني لن أطأ حشرة في حياتي ، فكيف لي أكون جلادا للذات ؟ إن نقد الواقع ، وتعرية مكوناته ، وتفكيك عناصره ، وفضح أساليبه .. لا يعد إلا نقدا وتشريحا من اجل فهم أوسع ، ووعي أنجع ، وعلاج انفع .. إذ ليس لي منطق الضعفاء الذين يقبلون بما هم عليه ، بل ويصفقون ليس للجلادين الحقيقيين حسب ، بل لكل من دمر حياتنا ، وسلخ ذاتنا ، وسحق ذاكرتنا ، ومزّق واقعنا .. ليس من واقع كان يعيش حيويته وانطلاقته ونظافته وأنجب عمالقته من نسوته ورجالاته ، إلا تلك المرحلة الليبرالية الرائعة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ، وكانت مرحلة استنارة فكرية قوية قد سبقتها لثلاثين سنة مضت .. نهضت خلالها مصر بالرغم من كل التحديات التي صادفتها مؤسسة بذلك تقاليد رائعة ، وبدت ترسم لها خطا في العالم المتقدم .. لم نزل نتلمس مواريث جمة خلفتها تلك المرحلة التي أنجبت جملة واسعة من العباقرة في مختلف الحقول وفي اغلب الميادين ..

العمالقة .. نتاج عصر مثقل بعناصر الابداع
إن أقسى ما يمكن للمرء أن يشهده ، تنكّر مؤرخ ، أو مفكر ، أو مثقف من نوع ثقيل لمأثورات تلك المرحلة التاريخية من حياة مصر ، والتي غدت قلبا نابضا حيا يمد الأطراف كلها بأقوى الترجمات ، وبأبدع أنواع الفنون وعلى أيدي فنانين حقيقيين .. وازدهر الأدب ازدهارا كبيرا ، وتطورت مختلف الفنون كالرواية والمسرح والسينما .. أما الموسيقى والغناء ، فلا يمكن أن يعّوض ذلك الكم المتميز من المبدعين الاصلاء .. ومنذ أن اختفى ذلك الجيل من العمالقة ، لم تعد الحياة تنجب أمثالهم .. علما بأن مجتمعاتنا لها القدرة على إنجاب المبدعين الذين سحقتهم عجلات الواقع الجديد لاكثر من نصف قرن .. قلت في كتابي ” المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي ” ( 1999) ، بأن أي جيل جديد ليس ابن زمنه ، بل ابن الزمن الذي ترّبى وتكّون فيه ، فان كان معدل عمر الإنسان 60 – 63 سنة ، فان نصفها يذهب للتكوين ، ونصفها الآخر للإنتاج والإبداع .. وعليه ، فان كل من تربى على مرحلة ما بين الحربين العظميين ، فانه أنتج وأبدع على الزمن الذي تلاه ..

متى تنجب مصر كاولئك العمالقة ؟
وعليه ، فإننا اليوم نعاني من جيل ترّبى على هوس الشعارات ، وأكاذيب الإذاعات ، ورنين الخطابات .. لم نجد من هو بوزن السنهوري في القانون المدني ، ولم نجد من هو بوزن القصبجي في خلق الإلحان .. ولا بوزن السيد درويش في المسرح الغنائي ، ولم نجد من هو بوزن إسماعيل مظهر في نظرية التطور .. ولا بوزن نجيب محفوظ في الرواية .. ولم نجد من هو بوزن أم كلثوم في الطرب .. ولم نجد من هو بوزن الشيخ محمد رفعت في قراءة القرآن .. ولم نجد من هو بوزن سعد زغلول في السياسة .. ولم نجد من هو بوزن الدكتور طه حسين في النقد ، ولا بوزن الدكتور زكي مبارك في الأدب .. ولم نجد من هو بوزن محمد شفيق غربال في التاريخ .. أو روز اليوسف كمثقفة عالية المستوى ، أو محمد التابعي في الصحافة .. ولا بوزن جرجي زيدان في الرواية التاريخية .. هذا غيض من فيض من الأسماء الكبيرة التي أثرت الحياة العربية قاطبة ، وليس المصرية وحدها .. إن العمالقة لا ينجبهم تاريخ هش .. ولا ثقافة شعبية عادية .. ولا يصنعهم نظام سياسي ، ولا انقلاب عسكري ، أو زمن فوضوي .. إنهم أبناء عصر له تقاليده ومكوناته وثوابته ..

تاريخ لن يرحل من الذاكرة
إن 150 سنة من حياة مصر الحديثة ، كانت كافية لئن تسجل تاريخا قويا جدا ، سيبقى يذكره المستقبل دوما .. وسيبقى علامة بارزة بوهجه واضاءاته .. انه عصر ظلمه أهله كثيرا ، واتهموه بشتى التهم ، بل وسخروا منه كثيرا في خطبهم وأفلامهم وثرثراتهم في الصحف ، ولكن المستقبل والأجيال القادمة ستنصفه تماما بدءا بعهد محمد علي باشا وانتهاء برحيل فاروق الأول .. ولابد أن أقول أن مصرا إن فقدت ذلك الفضاء الواسع من الإبداعات والحريات والتمدن والشوارع النظيفة ، فإنها لم تزل تعيش على بعض الموروثات الجميلة التي خلفتها تلك العهود .. بالرغم من كل الانتكاسات المريرة ، ومخاض المتغيرات الصعبة . إنني أدرك حجم التحديات التي صادفتها مصر في نصف قرن مضى ، ولكن التحديات التي عاشتها منذ احتلالها من قبل الانكليز كانت أقسى وأمرّ .. إنني أدرك أن الإقطاع كان بشعا في علاقته بالأرض والإنسان ، ولكن لم تكن الاشتراكية العربية بديلا منقذا لا للأرض ولا للإنسان .. لا اعتقد أن أحدا يخالفني بأن مصر كانت أول بلد في العالم بتصدير القطن ، وحتى صناعته ، فهل لم تزل محافظة على تفوقها ؟ ولا اعتقد أن أحدا يخالفني إن قلت بأن استوديوهات مصر السينمائية من أقدم ما ظهر من صناعة للسينما .. فهل بقيت مصر محافظة على تفوقها ؟ ولا اعتقد أن أحدا يخالفني إن قلت أن مصرا سبقت غيرها في الانفتاح على العالم ، واستقطاب المثقفين والفنانين ومختلف الجاليات من نسوة ورجال خدموا قطاعات فنية في المسرح والسينما والغناء والسياحة .. فهل بقيت مصر محافظة على هذا الإرث الحضاري الرائع ؟


من يخالفني في تشخيص ظواهر واضحة أخرى ؟
ولا اعتقد أن أحدا يخالفني إن قلت أن أول حزب سياسي بكل منطقة الشرق الأوسط قد ولد بمصر وعلى يد مصطفى كامل .. ولا اعتقد أن أحدا يخالفني إن قلت أن مجتمع مصر لم يكن يعرف التفرقة الدينية ولا المذهبية ، إذ اشترك في بناء حياتها الثقافية والفنية والمدنية مسلمون وأقباط ويهود ! ولا اعتقد أن أحدا يخالفني إن قلت أن مصرا عرفت جملة ثوابت قبل غيرها في المنطقة وتربى عليها جيل متميز يفتخر بالمواطنة والسيادة والدستور وراية الوطن وجيش البلاد والتربة المقدسة ونشيد ” بلادي بلادي ” وشعار خالد رددوه : نموت نموت وتحيا مصر .. بلا دكتاتورية زعيم خالد ، ولا طغيان حزب حاقد ، ولا أكاذيب مذيع فاسد ، أو مفبركات صحفي شاهد ( ما شافش حاجة ) ، ولا جماعات تكفير أو هجرة ولا ولا.
نعم ، كم نحن بحاجة إلى مرحلة تاريخ جديد ينفض الجيل الجديد عن كاهله كل بقايا القرن العشرين ، كي ينطلق من جديد نحو فضاءات وطنية ومتمدنة حقيقية .. صحيح أن منظومتنا الفكرية والثقافية وكل بنيويات مجتمعاتنا قد أصيبت في الصميم جراء ما حدث من متغيرات ثقيلة سواء من خلال خطط ومؤامرات خارجية أو على أيدي أبنائنا أنفسنا الذين خنقتهم أكذوبة ” جاهلية القرن العشرين ” ، فان مجتمعاتنا ليس لها القدرة أن تبقى مكبلة في الحضيض ، أو أن ليس لها القدرة على الانطلاق بدليل أنها انجذبت عمالقة أفذاذا قبل مائة عام من اليوم .. إنها إن توفرت عندها عوامل التقدم وعناصر الإنتاج وفضاءات رحبة للتفكير المدني بعيدا عن أية خنادق ماضوية ، او عوامل مضادة لذلك التفكير ، فسوف تبقى مجتمعاتنا قيد الاعتقال لتاريخ قادم ..

ضرورة إعادة الوعي وتنمية التفكير
إن الضرورة باتت ماسة بعد كل ما حل ليس بمصر حسب وحدها ، بل بكل المنطقة العربية ومجتمعات الشرق الأوسط إلى إعادة التفكير بكل التشكيلات والأحزاب والجماعات ، ليجدوا أنهم أسهموا جميعا على مدى ستين سنة بخنق مصر وبقية مجتمعاتنا ، وتقييد حريات الإنسان ، والمساهمة في انغلاق الحياة بعد أن كانت منفتحة على كل الثقافات .. وان عليهم أن يتخلوا عن أفكارهم التي تصف كل ما لم يرق لهم بـ ” الجاهلية ” ! عليهم أن يعيدوا النظر جميعا بإعادة تشكيل الحياة على أسس حوار صادق ، وثقة، مع وضوح الرؤية مستلهمين تجارب الماضي حيث عاشت مجتمعاتنا بمنتهى التعاون والتكافل .. عليهم أن يتعلموا من الدين اشراقات التسامح وحرمة الإنسان ، وأخلاقيات التعامل ، ووسطية الأمور ، واحترام الآخر، وحب الحياة .. وعليهم أن يدركوا أن الثقافات الأخرى وتمدن الحياة لا يبعدنا عن أصالتنا وهويتنا وكل انتماءاتنا ..

نشرت في مجلة روز اليوسف ، 11 مايو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …