الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / مسلسل فاروق: أخطاء الذاكرة التاريخية

مسلسل فاروق: أخطاء الذاكرة التاريخية

مسلسل الملك فاروق الذي بُثَّ أخيرا اثار الذاكرة التاريخية لأهمية موضوعه، وقد اعاد الاعتبار للملك فاروق الذي نال تاريخه عدم الانصاف. دعوني اسجل بعض الملاحظات النقدية، فثمة اخطاء فنية استطعت تشخيصها في المسلسل. وكان على الزميل المؤرخ يونان لبيب رزق وهو مستشار العمل ان ينّبه اليها كلاً من المؤلف والمخرج معا، وسأختصر بعضها، وينبغي عدم تكرارها في اي عمل فني تاريخي آخر:

اولا: لم تكن اجهزة التلفون في عقدي الثلاثينات والاربعينات اوتوماتيكية، فأجهزة التلفون وقت ذاك لم تكن من ذوات الاقراص بالارقام المدورة، فقد ظهرت الاجهزة الاتوماتيكية في الخمسينيات وبالتحديد عام 1955 وشاع استعمالها في الستينات من القرن العشرين. اما الاجهزة القديمة التي كانت تستخدم فهي التي تحتوي في جانبها على عتلة كانت تدّور باليد حتى يتم الاتصال بمأمور البدالة او المقسم، فيقوم بدوره بتوزيع المكالمات!

ثانيا: ان السيارات التي استخدمت في المسلسل هي سيارات سوداء صغيرة من نوع اوستن باستثناء سيارة الملك الحمراء المكشوفة. ولما كنت على معرفة تامة بتاريخ استخدام السيارات على امتداد القرن العشرين في الشرق الاوسط، فانني اعرف ان سعد زغلول استخدم الفورد القديمة ابان العشرينات، وان النحاس وشخصيات اخرى كانوا يستخدمون السيارات الاميركية وبالتحديد “الفورد والكاديلاك والاولدزموبيل” السوداء الكبيرة وليست هذه التي استخدمت في المسلسل. فضلا عن ان الملكة ناريمان لم تزف من بيت ابيها بسيارة شفروليه حمراء موديل 1955، فلقد تزوجت عام 1951 بسيارة كاديلاك موديل 1950.

ثالثا: ان الملك فاروق كان يستمع الى اذاعة “هنا برلين حي العرب” باللغة العربية وهي التي تبث من برلين ايام هتلر، ولم يكن اسمها الاذاعة الالمانية باللغة العربية. كانت ” هنا برلين ” قد استقطبت اسماع فاروق والملايين من الشباب العربي ومنهم انور السادات وجمال عبد الناصر وكانا قد تأثرا بها. واقترنت شهرة الاذاعة بصوت مجلجل لاشهر مذيعيها، وهو الاذاعي العراقي الشهير يونس بحري الذي كان على علاقة سرية بفاروق لم يكشف المسلسل عنها!

رابعا: اما بالنسبة لجامعة الدول العربية، فلقد اظهر المسلسل ان فكرتها وانبثاقها كانا على يد مصطفى باشا النحاس. اما الوثائق التاريخية فتجمع كلها على ان الفكرة والمشروع كانا لنوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق ابان العهد الملكي، وقد طرحها على النحاس لتأسيس اتحاد كونيفديرالي عربي، ولكن النحاس رفض فكرة الاتحاد جملة وتفصيلا، وكان ان اتفق على بديل سُمّي جامعة الدول العربية. لقد بقي العراق وحده مع مشروعه اذ اصطف مع مصر كل من السعودية ولبنان والاردن وسوريا واليمن مما جعل العراق ينصاع للامر.

خامسا: لم يكن فاروق تافها ولا ساذجا او ضاربا عرض الحائط القيم الدينية، فقد كان يؤمن بالقدر خيره وشره. واذا كان حاكما فاسدا حقا – كمّا شهّر به – فقد كان ذلك بسبب اسلوبه الاوروبي الذي تربى عليه، وجعله من تقاليد حياته، اذ لم يكن يرى عيبا في ان يضطجع ليتمتع بالشمس عند البلاج، ولم يرَ اي خطأ يرتكبه وهو يجلس في اي مقهى او ملهى، أو يرتاد النوادي والكازينوات.. علما بأنه كما تثبت لنا اوراقه انه كان يمارس لعب البوكر في قصره ولكنه يحرم المشروبات الروحية ولم يذق طعمها ابدا.

سادسا: لقد التقطت جملة اشارات تعلمنا عن شخصية فاروق السياسية، اذ لم يكن عاديا ابدا، وقد كال له محمد حسنين هيكل جملة اتهامات لا اساس لها من الصحة والحق به كل السيئات. كان فاروق يتابع امور مصر ومشاكلها يوميا، بل كان يتابع الشؤون العربية بشكل كامل. كتب الاستاذ القاضي العراقي الشهير ابرهيم الواعظ في مذكراته التي نشرها رفقة كتاب والده (الروض الازهر في تراجم آل السيد جعفر) عام 1948 قائلا إنه كان عضوا ضمن وفد رسمي عراقي يزور مصر، وقد التقى الوفد بفاروق. يكتب الواعظ انه وجد نفسه امام زعيم يدرك كل صغيرة وكبيرة في حياة الشرق الاوسط. وكان فاروق يسأل اعضاء الوفد العراقي عن اوضاع العراق اسئلة العارف ببواطن الامور وبأمور العراق التفصيلية وليس كما ذاع عن فاروق انه جاهل واحمق ولا يعرف فن السياسة ولا فن القيادة.

سابعا: لقد تحّمل فاروق كل اوزار القصر وحده، وخصوصا احابيل امه الملكة نازلي، باعتباره المسؤول الاول، وكان يراعي كل الاعتبارات. كانت حياته الملكية جحيما، فنجده يتمرد على وضعه الملكي ليهرب الى حياته الخاصة التي جلبت اليه المتاعب. وبقدر ما كان تربى على اساليب اوروبية في العيش، فانه يحمل طبيعته المصرية ويحب الناس وتزوج مرتين من بنات اولئك الناس.. وبقدر مصاحبته اصدقاء سوء ليسوا من مكانته بقدر ما كان يعتمد على من يثق بهم في الحكم والادارة من رجال اقوياء. واعتقد انه كان متوازنا مع نفسه اذ كان يعبّر عن تربيته الاوروبية، فاعتبر خليعا فاسدا لأنه كان اوروبيا في كثير من تصرفاته في حين انه مقتنع بخياراته المصرية التي تربى عليها. ولقد اشترك الجميع بالتشهير به حتى الانكليز قبل خلعه عن العرش.

ثامنا: يبقى السؤال لماذا شُهّر به كونه زير نساء، وهل سجّلت ضده فضيحة واحدة بمعاشرة النساء بعيدا عن التهم التي الصقت به؟ وهذا ما لم يسلط الضوء عليه في المسلسل. لقد كان على عكس ما اشيع عنه وعلى عكس الصورة المشوهة لحياته؟ كان يحب الحفلات الراقصة، ولكن هل كان ماجنا وخليعا حقا كما وصف؟ انه بقدر ما تربى على مؤهلات ملك اوروبي الصناعة، فهو يحمل نزعة مصرية عربية اسلامية، وهذه هي المعادلة الصعبة التي لم يستطع استيعابها لا هو نفسه ولا خصومه!

تاسعا: لقد كان مغرما بالتحف الثمينة التي جمعها واقتناها، ولكنه تركها كلها في قصره. كما ثبت لدينا ان فاروق لم يصدر اي قرار طوال سنوات حكمه ضد انسان بتهمة سياسية على الاطلاق. اذ تخبرنا الوثائق أن الرجل كان عاطفيا للغاية وعندما يواجه ازمات صعبة يهرب الى مهجعه ليبكي وحده هناك. ولقد ابعد اكثر من مؤرخ مختص عنه تهمة الاسلحة الفاسدة! واعتقد انه لم يؤهل لحكم شرس يحتشد بالتحديات، ففقد عرشه وانهى بنفسه حكم الاسرة العلوية التي حكمت مصر قرابة 150 سنة.

عاشرا: اذا كان الوعي التاريخي اليوم يزداد انتشارا بانعاش الذاكرة التاريخية القريبة، والناس تتلهف لمتابعة أي سيمافور تاريخي عبر التلفزيون وتعيد انتاج ذاكرتها بالضد من كل ما عتّم عليه سابقا او نالته التشوهات، فالمطلوب من الحكومة المصرية اليوم اعادة الاعتبار ليس لفاروق وحده، بل لكل عهود تاريخ اسرة محمد علي باشا على مدى 150 سنة والتي عرفت مصر خلالها جملة من التحديات التاريخية ازاء الاستجابات النهضوية في مختلف العلوم والفنون والاداب والعمارة والاقتصاد. الخ. فليس من المعقول ان تبقى الحكومات صامتة من دون اي حراك لاستعادة المسكوت عنه، على ما يقوم به مسلسل تلفزيوني في اعادة الوعي بالتاريخ!
www.sayyaraljamil.com
النهار البيروتية ، 22 اكتوبر 2007

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …