الحاقا بما نشرته قبل سنوات في كتابي ( نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ) عن السيدة بنازير ذو الفقار علي بوتو مذ التقيت بها لأول مرة في كلية سانت انتوني بجامعة اكسفورد في العام 1977 عندما كانت طالبة هناك تدرس السياسة والتاريخ .. لم اكن أحسب تلك الطالبة الارستقراطية القادمة من باكستان والتي تبدي خجلها دوما ستصبح يوما زعيمة سياسية مقتدرة في واحدة من اهم دول العالم الاسلامي .. عادت الى وطنها لتواجه ابرز الصعاب في حياتها ، ومنها اعدام والدها والاقامة الجبرية التي فرضت عليها ، ثم زمن النفي في لندن حيث صعودها الى زعامة حزب الشعب بدل والدتها اثر الانشقاق السياسي الاسري !
منذ تلك اللحظة التاريخية ، تبلورت شخصيتها السياسية القيادية ، وبدت تنجذب اليها قوى سياسية متعددة في داخل باكستان فضلا عن سمعة دولية .. ولقد تزوجت في العام 1987، وبعد عام فازت بنازير باعلى نسبة من المقاعد في الجمعية الوطنية ، وبذلك خوّلت بزعامة حكومة ائتلافية في 2 يناير 1989 لتغدو اصغر امرأة (35 عاما ) تترأس حكومة دولة اسلامية في التاريخ الحديث ، ولتصبح واحدة من اجمل 50 امرأة في العالم من خلال مجلة ” بيبول ماغازين ” ، واقيلت حكومتها في العام 1990 بعد خسارة حزبها في الانتخابات التشريعية على تداعيات تهم الفساد ضدها وزوجها معا ، وحل بدلها نواز شريف فقادت بوتو المعارضة ضده .
كانت رئيسة الوزراء بين أعوام 1988 ــ 1990 ، ثم فازت بالانتخابات وعادت للسلطة ثانية للفترة 1993 ــ 1996، حيث اجبرت علي الاستقالة بتهمة الفساد ثانية ، مما اتاح المجال لمنافسها نواز شريف الذي تسلم الحكومة بعدها حتي اطاحة الجنرال برويز مشرف بنواز عام 1999 ليعلن الاحكام العرفية في البلاد متهماً اياه بالتهمة نفسها التي وجهت للسيدة بوتو.
نعم ، كانت بنازير تواجه صعابا في رئاسة وزراء باكستان للمرتين معا ، بل ان التحديات تزداد ضدها دوما من دون ان تتراخى ابدا .. ولكنها تتحدى صعابا سياسية اقسى وهي في المعارضة ، لترجع الى الحكم فتبقى بين 1993-1996 .. ولم ينفع دفاعها ابدا عن تهم الفساد الكبرى التي اثبتت على زوجها من قبل دول عدة منها بولندا وبريطانيا وسويسرا .. الخ ،فضلا عن مسائل سياسية معقدة في بلاد تكثر مشاكلها مع عنفوان افغانستان حيث يحكم طالبان وموجات عاطفية شعبية تغرق الباكستانيين ازاء ما يتخيلونه من حكم مثالي يقوم على جوارهم .. ولم نكن ندرك وقت ذاك ان الباكستان ستمر بمخاض صعب .
لقد غادرت بنازير الى المنفى ثانية وحوكمت غيابيا مع زوجها بتهم فساد اثناء حكمها وصدرت بحقها قرارات وسجن زوجها لثماني سنوات بتهم مماثلة وافرج عنه عام 2004 ، ولم تزل بنازير متهمة مع زوجها بنحو 90 تهمة يقال ان برويز مشرف قد اسقطها اثر اتفاق لتقاسم السلطة المبرم بينهما مؤخرا . ويبدو ان ضرورات الولايات المتحدة قد فرضت اجراء تحولات سياسية قوية معتمدة على حلفائها الاقوياء .. وتعد بنازير واحدة من اهمهم ، ويبدو انها قد تعهدت مقابل رجوعها الى السلطة بملاحقة كل المتمردين القبليين وانصار تنظيم ” القاعدة ” بعد ان عجز مشرف على التواصل .. وظن نواز شريف ان التحوّل قد شمله ، فطار الى الباكستان ، ولكنه اعيد نفيه من جديد ..
يبدو ان مخاضا جديدا ينتظر باكستان في السنتين القادمتين ، وقد عادت بنازير فعلا الى وطنها وسط استقبال هائل من قبل مناصريها ، وبتهديد فاضح من خصومها خصوصا وانها تعد من الد اعداء تنظيم القاعدة الذي وعد بالترحاب بها على طريقته الخاصة ، كي تستقبل فضلا عن مؤيديها هدية دموية من خصومها ، علما بأن طالبان الامس في افغانستان اعتمد على الباكستان ايام حكمها السابق لمصالح اقتصادية وتجارية مع آسيا الوسطى عبر افغانستان ، فتعززت قوة الاخيرة ماليا وعسكريا .
لقد جرت مفاوضات سرية بين بوتو ومشرف من دون الكشف عن اي اتفاق لتقاسم للسلطة ، ولكن حزب الشعب بزعامة بنازير يكثف جهوده اليوم مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية المتوقعة نهاية 2007 وبداية 2008 . واومضت بنازير الى ان فوزها برئاسة الحكومة سيشرفها ان تضطلع بدور مع مشرف كرئيس من اجل مصلحة باكستتان العليا ، ولكنها رفضت ان تكشف عن اي خطط ، بل اكدت خشيتها من القتل بسبب وقوفها ضد الدكتاتورية العسكرية وسياساتها ضد طالبان والقاعدة . ان من المهم ان نستشرف نهج بنازير بوتو في قابل الايام .. تقول : “لقد تعلمت كثيرا في السنوات العشرين الاخيرة ولا نزال نناضل ضد الديكتاتورية. نريد عزل الاسلاميين وبناء باكستان افضل” وقالت : “اعود حاملة رسالة تغيير وامل بمستقبل افضل للديموقراطية” في باكستان. ثم عقّبت قائلة : “لا اريد التفكير بالمخاطر. اريد فقط التفكير بالفرصة المتاحة امام شعبي”. وكانت بوتو أطلقت في المطار ما يشبه برنامجها للانتخابات التشريعية المقررة في مطلع العام ,2008 قائلةً «لا زلنا نقاتل دكتاتورية. نريد عزل المتطرفين وبناء باكستان أفضل، بناء دولة عصرية ومعتدلة.. لقد أصدر الناس حكمهم ويجب أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة.. المهم أنني عدت إلى الوطن وان الجنرال مشرف لم يعرقل استقبالي ” .
بعد ان انطلق موكبها وسط الالاف المؤلفة من الجماهير ، حدث بالقرب منها حمام دموي، حيث سقط أكثر من 120 قتيلا و500 جريح في تفجيرين انتحاريين، استهدفا موكبها في مدينة كراتشي بعد ساعات على وصولها حيث كانت تحتفل مع عشرات الالاف من مناصريها. لكن سرعان ما تحولت ساحات الاحتفال الى مجزرة، حيث تناثر مئات القتلى والجرحى بالقرب من موكب بوتو التي خرجت سالمة، في حين راحت حصيلة الضحايا ترتفع سريعا. ما الذي سيخبئه القدر لباكستان ؟ هذا ما ستكشف عنه الايام القادمة ..
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 24 اكتوبر 2007
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …