الرئيسية / مقالات / البعد الثقافي وازمة الابداع : العراق نموذجا

البعد الثقافي وازمة الابداع : العراق نموذجا

بادئ ذي بدء ، ينبغي ان نعترف بأن أي بعد ثقافي او أي خصب ابداعي انما يتأثر بالمناخات السياسية والفضاء الذي تخلقه الاوضاع من دون ان يكون مرتبطا اصلا بأي عملية سياسية معينة تقبض على اعناقه وتحيله الى حالة ارتباط يسخر منه التاريخ . ويخبرنا هذا التاريخ ، وخصوصا تاريخنا العربي جملة مثقفين ومبدعين ارادوا الاقتراب من خنادق السياسة وميادين السلطة فاحترقوا ، او انهم أصبحوا دمى بأيدي الزعماء وصناع القرار .. أولئك الذين عرفناهم ـ مثلا ـ في القرن العشرين باسم المثقفين السلطويين .
ليكن معلوما أن كل عهد سياسي يفرز جملة من المثقفين السلطويين الذين يدورون في فلك أي عملية سياسية معينة ومقننة بعد أن يفتقدوا حريتهم وإرادتهم ليكون المثقف بجملته بيدقا .. وان مشكلة الحرية والتعبير الحر لا يمكنها ان تكون بعيدة كل البعد عن الانوية والفئوية والحزبية والطائفية والسلطوية برمتها سواء كانت سياسية ام اجتماعية .. انها لم تخلق الا من اجل التعبير الحر والحيوي عن واقع اجتماعي بالاساس ، وتغدو منقطعة عن ذاك الواقع ان كان يركن في مياه آسنة .. انها اداة تعبير عن خلاص أي واقع من الامه وخنادقه وقيوده وتخلفه وبلادة اقطابه .. الى حيث التفكير المدني والذهنية الحضارية .
اليوم نحن في العراق قد خرجنا من تاريخ صعب كانت السلطة السابقة قد كبلت المجتمع بقيود حزبية وتوتياليرية حديدية ، وعلينا ان نحلم بثقافة عراقية حرة من كل القيود .. فهل يحدث ذلك ؟ لقد تحرر العراقيون سياسيا ولكنهم كبلوا انفسهم بقيود جديدة .. ان لم تكن سياسية ، فان الانشطارات السياسية قد فتتّت تفكير العراقيين وأبعدتهم عن مواطنتهم وجعلتهم تحت سطوة قوى وميليشيات سياسية واجتماعية ودينية تبلورت على الساحة الجديدة . ان فضاء اليوم في العراق يعيش صراعا تاريخيا بين الحرية والانطلاق نحو عالم الابداع باروع تجلياته وبين الارهاب وبين الفكر المتخلف باوحش صوره ..
ان المثقف العراقي اليوم قد اصابه شاء ام ابى جزءا من هوس ذلك الصراع الذي سيأخذ وقتا ليس بقصير من اجل ان تنتصر ارادة التقدم على التخلف ، وقوة الحقيقة على الاوهام .. وعلى المثقف العراقي ان لا يقفز من تفكيره التقدمي الى حيث فضاء السياسة المليئ بالاوهام والجماعات المتخلفة .. عليه ان يتجّلى عليهم بصوت المثقف لا الاستماع الى مواعظ الملالي .. على المثقف العراقي ان يدرك بأن تاريخه الثقافي القريب كان خلاقّا بحيث انتج اقوى المثقفين واروع المبدعين في كل الميادين .. اولئك الذين لم تفرزهم عمليات سياسية مختنقة .. ولم يكن لهم أي روابط بساسة متخلفين ، ولم يكن حلمهم الا بعراق حر مدني تقدمي في قلب هذا العالم ..
ان المثقف العراقي اليوم بأمس الحاجة الى ان يقتنع بأن لا تقدم في الظاهرة الثقافية وحرية الكلمة والتعبير الا من عندما يشعر بأن البلد هو آمن ومستقر .. وان العراق ان بقى تنهشه القوى السياسية والسلطوية والارهابية والميليشيات والاحزاب المتخلفة .. فلا عملية سياسية ستحدث ولا تقدم مدني سيتبلور .. على المثقف العراقي ان يقتنع بأن التحديات تخلق الاستجابات ، وانه ان كان معارضا لكل التراجعات والماضويات والتخلف وحكم الطوائف والتمييز على اساس طائفي .. وكلها تحديات قوية فانه سيخلق الاستجابات لها باروع المنتجات من دون ان يكون مجرد اداة في عملية سياسية لا توصلنا الى الطريق المستقيم ..
على المثقف العراقي ان يسأل نفسه : هل يستوي دوره اليوم ودور الاباء والاجداد من المثقفين الاحرار والمبدعين الرائعين في القرن العشرين ؟ هل بامكان أي مثقف عراقي اليوم وقد تحققت له الحرية كما يتخيّل ان يكتب كالذي كتبه معروف الرصافي او ينظم اشعارا فلسفية كالتي قالها جميل صدقي الزهاوي او يحرر مقالات كالتي كان ينشرها محمد مهدي الجواهري ؟؟؟ على المثقف العراقي ان يسأل نفسه : هل يدفع ثمن حريته من زمن الدكتاتورية ان يعيش زمنا مجهول الهوية وفضاء مليئا بالموبقات ونحر الاعناق وفتك الميليشيات وتغييب روح العراق ؟؟ على المثقف العراقي ان يسأل عن تلكن المثقفات العراقيات والمبدعات الكبيرات اللواتي رسمن خطوطا رائعة في تاريخ الثقافة والفن في العراق ..
على المثقف العراقي ان يناضل ليس من اجل حريته وحده ، بل من اجل ان يكون العراق كله بلدا آمنا مستقرا ، وان يكون مجتمعه مجتمع مدني تنمحي فيه النزعات والعصبيات والتقاليد الرثة والعادات السيئة .. عليه ان يوظّف حريته لخلق ثقافة عراقية جديدة تخرج عن مألوفات اليوم .. فالحرية لا يمكن ان تعيش في فضاء من الاختناقات السياسية والاجتماعية . فهل سيتحقق ذلك عند جيل مسحوق من اخصب المثقفين ؟ نعم سيتحقق ان تفانى كل المثقفين العراقيين من اجل كل العراق وابقاء وجوده جغرافية وتاريخا .. وعند ذاك سنصفق ونقول : لقد انتصرنا لحريتنا بقدر ما انتصرنا لجوهرنا .. وجوهرنا هو العراق .



شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …