الرئيسية / كتابات عن / سّيار الجميل في قراءة نقدية تاريخية.. المس بيل لم تكن فتاة عراقية بكر يأبى أهلها على شرفها… عبد الرحمن منيف الروائي المؤرخ

سّيار الجميل في قراءة نقدية تاريخية.. المس بيل لم تكن فتاة عراقية بكر يأبى أهلها على شرفها… عبد الرحمن منيف الروائي المؤرخ

الازمنة العربية ، العدد 263 ـ 1 فبراير 2004
فقد الأدب الروائي العربي علماً بارزاً من أعلامه ورواده المبدعين بموت عبد الرحمن منيف. ولد الأديب الراحل في عام 1933 في عمّان, لأبٍ من نجد وأم عراقية. أنهى دراسته الثانوية في العاصمة الأردنية, ثم التحق بكلية الحقوق في بغداد عام 1952. وبعد عامين من انتقاله إلى العراق, طرد منها في عام 1955, مع عدد كبير من الطلاب العرب, بعد توقيع (حلف بغداد); فواصلَ دراسته في جامعة القاهرة.
تابع منيف دراسته العليا منذ عام 1958 في جامعة بلغراد, وحصل منها في عام 1961 على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية, وفي اختصاص اقتصاديات النفط, وعمل بعدها في مجال النفط بسورية في عام 1973, انتقل منيف ليقيم في بيروت حيث عمل في الصحافة اللبنانية, وبدأ الكتابة الروائية بعمله الشهير (الأشجار واغتيال مرزوق) في عام 1975.
أقام منيف في العراق, وتولى تحرير مجلة (النفط والتنمية) حتى عام 1981حيث غادر في العام نفسه العراق إلى فرنسا متفرغاً للكتابة الروائية. وفي عام 1986, عاد مرة أخرى إلى دمشق, حيث صارت مقر إقامته الدائمة. صدر لعبد الرحمن منيف عدد من الروايات: (الأشجار واغتيال مرزوق) (1973), (قصة حب مجوسية) (1974), (شرق المتوسط) (1975), (حين تركنا الجسر) (1979), (النهايات) (1977), (سباق المسافات الطويلة) (1979), (عالم بلا خرائط) (كتبت بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا) (1982), خماسية (مدن الملح): (التيه) (1984), (الأخدود) (1985), (تقاسيم الليل والنهار) (1989), (المنبت) (1989), (بادية الظلمات) (1989), و(الآن هنا) أو (شرق المتوسط مرة أخرى) (1991), (لوعة الغياب) (1989), (أرض السواد) (1999). كما صدرت لمنيف مؤلفات في فن الرواية, ومؤلفات أخرى في الاقتصاد والسياسة. حاز على جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية للرواية عام 1989 وعلى جائزة القاهرة للإبداع الروائي التي منحت للمرّة الأولى عام 1998.
من ضمن أول قراءتي المبكرة قبل زهاء عشرين عاماً روايته (شرق المتوسط) التي أحدثت ضجة كبرى بين أوساط القراء العرب لأنها لامست بشكل مبكر موضوع التعسف السياسي كما في روايتيه (الأشجار واغتيال مرزوق) و(حين تركنا الجسر) و(قصة حب مجوسية)، لكن عدداً كبيراً من النقاد والقراء اعتبروا روايته (مدن الملح) في الصدارة من أعماله الروائية.
ومدن الملح أصدرت لها دار “ديدريشس” في ميونيخ الترجمة الألمانية وهي رابع رواية تترجم له إلى اللغة الألمانية بعد “شرق المتوسط، وسيرة مدينة، والنهايات”. التى قامت دار لينوس السويسرية بترجمتها إلى الألمانية. وجاءت ترجمة هذا العمل الملحمي الكبير، الذي يتناول اكتشاف النفط في السعودية والمراحل الأولى في بناء الدولة، في وقت تحتل فيه السعودية صدارة الاهتمام لدى الدوائر السياسية الكبرى في العالم وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.
يقول عبد الرحمن منيف عن مدن الملح: أقدر أنّ الرواية يمكن أن تضيف جوانب معينة في وضع الشرق الأوسط ومناخه وبالتالي همومه. ومما لا شك فيه أنّ الحافز الأساسي لدي لكتابة هذه الرواية، كان الإحساس بأنّ موضوع النفط بحاجة إلى معالجة وإلى معرفة التأثيرات الكبيرة التي حصلت نتيجة وجود هذه الثروة التي لم يُحسَن التعامل معها. ومن البديهي أنّ إلقاء الأضواء على جزء من ماضي هذه المنطقة سيساعد في قراءة الواقع الراهن ومعرفة هذا الغليان أو هذا الوضع الاستثنائي المتفجر. ولعل السعودية هي إحدى هذه المناطق التي هي بحاجة إلى إعادة نظر.
وحين سُئل عبد الرحمن منيف لماذا سمى روايته مدن الملح وليس مدن النفط الذي هو أقرب إلى موضوعها، بل هو موضوعها الأساس؟ أجاب: عندما يفكر الإنسان للوهلة الأولى لاختيار عنوان لهذه الرواية فسيقع اختياره على مدن النفط، لكني قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح. فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، إلا أن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال وليست مكاناً طبيعياً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل.
امتاز الراحل عبد الرحمن منيف بأنه صاحب نص صحراوي بعيداً عن الغرائبية والاستشراق الذي أصاب أعمال آخرين كمحصلة لاشتغالات سابقة على فضاء النص الصحراوي هي وثيقة على تاريخ من الصراع والسيطرة على المكان إذ تقترح تقاطعات وثنائيات متعددة بين المناخ الصحراوي والقحط وبين شخصية الوافد الأجنبي وصاحب المكان الأصلي بين الصحراء واكتشاف النفط هو إذا يقوم بتأسيس المكان وتحولاته من صحراء قاحلة إلى مدن ملح تقترح حيوات أخرى على الشخصيات ولا سيما شخصية (متعب الهذال) بكل ما تحمله من توتر وصراع ومقاومة ضد كل أنواع التحديث, فإحساسه البدائي مكنه من اكتشاف الخراب القادم لكنه لم يستطع الصمود فيختفي من النص تماماً وإن ظل شبحه يحوم في المكان والأمر نفسه بخصوص شخصيات أخرى. إن (مدن الملح) تستعيد مطالع القرن العشرين لترسم صورة لتشكل المدن في الصحراء وكيفية ترسيخ قيم جديدة في مكان صحراوي وإخضاع هذا المكان لسطوة الشركات النفطية الأمريكية البريطانية. إنها رواية تاريخية لكنها في الوقت نفسه رواية المكان ومقترح لنص صحراوي آسر.
لكن الراحل المبدع روائياً أوقع نفسه في شراك المسألة التاريخية حين اختار الخوض في هذا المضمار الصعب والمرهق للغاية فما عرفناه مؤرخاً متخصصاً، ويبدو أنه غامر بإصدار كتابه: “العراق: هوامش من التاريخ والمقاومة” -الناشر: المركز الثقافي العربي ـ بيروت2003. الصفحات: 207 صفحات من القطع المتوسط- الذي قال عنه أنه مجرد هوامش جمعها خلال إعداده لعمله الروائي عن العراق ذي النفس الملحمي وهو أرض السواد، ولأن الهوامش كثيرة على ما يذكر منيف فقد استبعد قسماً كبيراً منها واقتصر على عرض عدد محدود منها خاصة تلك التي لها علاقة بالأحداث التي نعيشها في الوقت الراهن أي تلك التي ترتبط بالقرن العشرين وذات الصلة بالاستعمار القديم منه والحديث.
وبتعبير منيف فإن ما يضمه الكتاب صوراً متفرقة من تاريخ العراق تمثل محاولة لتحريض الذاكرة وإجراء مقارنة بين ما كان بالأمس واليوم والخلاصة التي قد ننتهي إليها منها هي: كيف واجه الأجداد قوى الاستعمار وكبدوه خسائر فادحة؟ ويشير إلى أن السمة العامة للعراق مع الاحتلال الإنكليزي له أوائل القرن العشرين هي الاضطراب وعدم الاستقرار ودلالة هذا الأمر هو أن الطرفين المستعمٍر والمستعمَر لم يكونا قادرين على التعايش أو الاستمرار, وبالتالي كان كل منهما يتربص بالآخر وينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض عليه. ويشير منيف إلى أنه رغم لجوء الإنكليز إلى كافة الأساليب لإدامة سيطرتهم بما في ذلك افتعال المعارك بين الفئات العراقية المختلفة إلا أن الوعي الشعبي نجح في تجنب الانزلاق إلى الفخ الطائفي. غير أن هذا المناخ لم يتواصل فيما بعد ثورة 1958 حيث كان التحالف الذي قام بها هشاً مما أدى إلى تفجير الصراعات فيما بينها بسرعة فضلاً عن أن صيغة نظام الحزب الواحد أدت إلى عزلة النظام ونرجسيته وبالتالي عدم قدرته على تجديد نفسه وهو ما كان يسهل للقوى الخارجية أو المتضررة إسقاطه النظام.
يقدم منيف صورة رائعة لأعمال المقاومة العراقية خلال ثورة العشرين وهي المقاومة التي أدت إلى ارتفاع الأصوات في البرلمان الإنكليزي وصحافة لندن مطالبة بجلاء القوات البريطانية, ما دفع إلى زيادة الجهد من أجل اختراق الثورة وإسقاطها من الداخل. ولافتقاد الثورة إلى قيادة موحدة استطاع الإنكليز أن يجدوا لهم موطئ قدم هنا وهناك حتى انقلبت موازين القوى ضد الثورة. ويخلص منيف إلى أن ثورة العشرين رغم عفويتها وعدم وجود قيادة موحدة لها ورغم فارق السلاح ونوعيته بين الطرفين كانت أول ثورة عربية في الشرق تقوم ضد الاحتلال وقواته, وقد كبدت المحتلين خسائر قادته وغيرت نظرتهم للكيفية التي يجب أن يحكم بها العراق, وهو ما تمثل في التخفي وراء واجهة وطنية لأن الحكم الاستعماري المباشر يستفز المواطنين ويؤلبهم ضد الغزاة, في حين تكون المتاريس الوطنية قادرة في بعض الأحيان على امتصاص النقمة وتأجيل الانفجار المحتمل. ثم يعرض لصراع الشيخ ضاري الذي شارك في ثورة العشرين وكان همزة الوصل بين الثورة في الفرات الأوسط والجنوب وبين المنطقة الوسطى والشمال, وكان يمون الثورة بالرجال.
ولم يغفر الإنكليز له ذلك, فأصدروا عليه حكماً بالإعدام وهو في الثمانين من العمر تم تخفيفه إلى الأشغال الشاقة حيث توفي بعد سجنه مباشرة وقد كانت جنازته يوماً مشهوداً في تاريخ العراق. ثم يعرض لدور الميس «بل الخاتون» أو جيرتروود بيل والتي تعتبر من الشخصيات التي كان لها دوراً كبيراً من حيث نوعية الحكم الذي قام في العراق. لقد كان لها دور في صناعة الممالك وتنصيب الملوك واختيار الوزراء وتقسيم النفوذ والأرزاق وهنا يشير منيف إلى أنها كانت هي التي رجحت تولي فيصل بن الحسين العرش على منافسيه, وقد نجحت في ذلك باللجوء إلى المداهنة والإقناع مما حمل أكثر المرشحين حظاً على الانسحاب ولجأت إلى القوة والحزم في إبعاد ثم نفي طالب النقيب الذي كان أقوى المرشحين ويشكل خطورة حقيقية على فيصل.
وفي سياق الكتاب يستعرض منيف مشكلة الموصل والمؤامرات التي جرت بخصوص إلحاقها سواء بالعراق أو بتركيا في إطار الصراع على النفط. وقد كان موقف بريطانيا يتراوح بين الحماس لحل المشكلة أو إبقائها موضع مساومة لحمل الأطراف الأخرى على تقديم تنازلات وفي أكثر من موقع وضمن هذه الأطراف فرنسا والولايات المتحدة, وقد أصبحت الأخيرة أكثر تشبثاً من قبل بأن تكون ضمن الشركاء الأساسيين في اقتسام الثروة النفطية إلى أن انتهى الأمر بإقرار تبعيتها للعراق عام 1926.
وفي إطار تناول التفاعلات العراقية في تلك الفترة يتطرق منيف إلى شخصية ياسين الهاشمي الذي كلف بتشكيل الوزارة, وقد كان شخصية لها حضور مميز, وكانت سياسته مناوئة للسياسة البريطانية ليس في العراق وحده وإنما في المنطقة العربية, وهو ما ساعد على خلق مواقف إيجابية وسلبية منه, فكان انقلاب بكر صدقي عليه والذي ثبت أن له صلات بالسفارة البريطانية, وتولي حكمت سليمان خليفة الوزارة, وهو تحالف لم يكتب له الاستمرار إزاء تزايد نقمة الرأي العام على أداء حكومة سليمان. ووسط هذه التطورات يتوفى ياسين الهاشمي في بيروت التي إبعد إليها لترفض الحكومة العراقية دفنه في أراضيها ليدفن في سورية.
ومن التاريخ العراقي غير البعيد يستدعي منيف شخصية الدكتور سندرسن الطبيب الذي تمكن من خلال التقرب من الملك فيصل أن يطلع على الكثير من الأسرار والخفايا, فضلاً عن أن هذا القرب من الملك ومن بيرسي كوكس المندوب السامي مكنه من أن يقوم بمهمات خطيرة وقد استطاع سندرسن أن يطور وضعه في فترة ما بعد الملك فيصل بالمشاركة في السياسة متخفياً وراء ملابسه الطبية, ولذلك توثقت علاقاته مع نوري السعيد ومع الملكة علياء زوجة الملك غازي, ومن هنا يبرز دوره في صناعة صيغة الحكم الجديدة أولاً بتغييب غازي ثم اختيار عبد الإله وصياً على عرش الملك فيصل الثاني. وما أن انتهت مراسيم تسمية عبد الإله وصياً على عرش العراق حتى بدأ الدور الكبير والخطير للعراق ولعبد الإله, فلقد قدر عبد الإله غريزياً وعن طريق بطانته المرتبطة بالإنكليز أن من يتحالف مع بريطانيا وتقدره أكثر من غيره سوف يحظى بالموقع الأقوى والأهم, وهكذا بدأ الصراع بينه وبين نوري السعيد على احتلال المركز الأول.
وفي هذا يشار إلى أن المرحلة التي سبقت ثورة 14 يوليو 1958 كانت مطبوعة أغلب الوقت بطابع الثلاثي الدائم: السفير البريطاني في بغداد, ونوري السعيد السياسي المخضرم, ثم عبد الإله مع تفاوت في أهميته وأدواره تبعاً للمرحلة الزمنية. لقد كان عبد الإله يردد بفخر ومباهاة أنه غير قادر على التخلي عن الإنكليز لأنهم وحدهم الذين يقدرون عل حمايته ورد خصومه عنه خاصة بعد أن انكشف دوره في تصفية الملك غازي. أما نوري السعيد فإزاء الجو الذي بدا خالياً له وحده إثر غياب ياسين الهاشمي فقد قرر -وبدعم من الإنكليز- أن يبقى في الرئاسة لأطول فترة ممكنة, فكانت معاهدة التحالف مع البريطانيين عام 1930 التي أثارت استياءً واسعاً لدى الرأي العام. وهنا يستعرض منيف جانباً من الصراع بين السعيد ورشيد علي الكيلاني والتي انتهت مرحلياً بقيام الكيلاني بتنحية الوصي على العرش وتسمية الشريف شرف ثم سقوط حكومة الكيلاني نتيجة التدخل العسكري البريطاني في مايو 1941, وبالتالي عودة الوصي على العرش عبد الإله ونوري السعيد إلى الواجهة مرة أخرى حيث دخل الوصي بغداد على متن دبابة إنجليزية. ولم يكن من الغريب أن تودي هذه الأوضاع إلى علاقات بين العراق وبريطانيا سمتها تبعية الأولى للثانية.
ويبدو أن هذه الهوامش التي غامر عبد الرحمن منيف بنشرها تحتوي الكثير من الهنات المعلوماتية غير الدقيقة، والتي يتصدى لها الدكتور سيار الجميل (الكاتب والباحث العراقي المعروف) فيقول في مقالة نشرت بحلقتين في بعض مواقع شبكة الإنترنت العراقية والعربية: معترضاً أن التاريخ يكتب بمضامينه قبل الهوامش وأن تاريخ العراق المعاصر معقّد جداً وله مخاطر لا تحصى ولا تستقصي, وأن أغلب الذين تعاملوا معه من المؤرخين العراقيين والغربيين كانوا على درجة من التخصص والسيطرة على معرفة بالعراق ومكوناته وأطيافه ومشكلاته وتعقيدات كل ألوانه… فضلاً عن توفر قدر كبير من الحيادية والأمانة والشمولية من خلال اتباع منهج ذكي وبارع في التعليل وتحليل المضامين والمواقف والأحداث التاريخية والأبطال والشخوص وصولاً إلى النتائج والاستنتاجات التاريخية ومن ثمّ توظيفها جميعاً في خدمة البحث العلمي. إن تاريخاً رصيناً للعراق الحديث لا يمكن كتابته من خلال هوامش عادية وقصاصات ورقية من قبل أديب روائي هام في دوامة سياسة خرقاء قادت بعد عقود من السنين إلى كل هذا الوباء الذي تشهده المنطقة في بدايات القرن الواحد والعشرين. ويستطرد في مستهل توضيحه للأخطاء التاريخية التي وقع فيها الراحل عبد الرحمن منيف:
ويعترض الدكتور سيار الجميل على عبد الرحمن منيف قوله: “فثورة العشرين مثلاً التي انفجرت مع بداية الحكم البريطاني للعراق…” (ص 11) ونحن نعلم بأن الاحتلال البريطاني للعراق استغرق أربع سنوات للفترة 1914 – 1918م، ولم تندلع الثورة إلا بعد ثلاث سنوات على احتلال بغداد من قبل الجنرال مود عام 1917. ويستنكر قوله بأن “أغلب مناطق العراق أصبحت تحت سيطرة الثوار عام 1920 إذ ما عدا بغداد والبصرة، والتي كانت تتمركز فيها القوات البريطانية وكان يحاصرها الثوار أيضاً، فإن باقي المناطق كانت محررة وتخضع لسيطرة الثوار…” (ص 42). وهذا غير صحيح أبداً، فالمراجع التاريخية جميعها لا تقر بمثل هذا الكلام أبدا، بما فيها المصادر من كتابات بعض الذين شاركوا في الأحداث.
ويرى الدكتور سيار الجميل بأن المستر (عبد الله) فيلبي لم يكن أحد صانعي السياسة البريطانية في المنطقة العربية، خاصة في العراق, كما يرد في (ص 70), بل هو من منفذي السياسة البريطانية وليس من صنّاعها، ولكن في نجد من الجزيرة العربية وليس في العراق بعد أن اقترح أن يكون الأخير جمهورية وليس مملكة. وقد عاش في الرياض ردحاً طويلاً من الزمن وكتب كل مؤلفاته عن السعودية ونجد والملك عبد العزيز آل السعود… ولا بد أن نرجع للكم الوفير من كتبه ومنشوراته ونتدارسها لنرى حجم ما كتبه عن موضوعات الجزيرة العربية مقارنة بالذي كتبه عن العراق.
وبشأن قضية الموصل يستنكر الدكتور سيار الجميل قول منيف بأن بريطانيا (كانت) مستغلة بقاء لواء الموصل موضوعاً للمساومة، لأن هذا اللواء بقي موضع تجاذب بين تركيا وبين بريطانيا وبين فرنسا” (ص 71). وأقول: لا أبداً، فمشكلة الموصل لم تظهر للعلن إلا بعد 1921 أي بعد تأسيس كيان الدولة في العراق وبعد معاهدتي سيفر ولوزان. وسيتكر قوله بأن الملك فيصل الأول كان يلجأ (المس بيل) في الصغيرة والكبيرة إلى أن وصل الأمر إلى حد الالتباس في العلاقة، وتشير المس بيل ذاتها إلى عدد من الحالات حين كان فيصل الأول يستدعيها إلى مزرعته الخاصة في خانقين ليناقش معها بعض الأمور، أو لكي يفضي إليها بمكنونات عقله وقلبه” (ص 76). وهنا أتساءل: ألم يكن بمقدور مؤلفنا عبد الرحمن منيف أن يوثق هذا الخبر الذي يتعلق أساسا بشرف الملك فيصل الأول وأخلاقياته؟ إذا كنت قد اعتمدت على كتاب عبد الرحمن البزاز في توثيق المرشحين للملكية في العراق، فلماذا لم توّثق هكذا رواية خطيرة تتعلق بأثمن ما يمتلكه الإنسان؟ هل غدا التاريخ ألعوبة أو دمية بأيدي البعض من الروائيين الراديكاليين الذين لا يحترمون كلمتهم؟ وإذا كان المؤلف يطلق بهكذا أحكام جزافا على الآخرين، فلسوف يتهم بعدم الأمانة في أعماله كلها! وسواء التقى فيصل خلسة بالعجوز الإنكليزية المس بيل في مزرعته أم قصره أم لم يلتقِ، فالمس بيل لم تكن عربية ولا مسلمة ولا فتاة عراقية باكر يأبى أهلها على شرفها.
ويوضح السيار كيف أن عبد الرحمن منيف أيضاً يطعن في فيصل الأول وأخلاقه وسيرته أيام مرضه ووفاته، فيقول: “وضمن ملابسات تلفت النظر لتشابكها وغرابتها، وبعد أن التقى فيصل بسيدة هندية قيل أنه كان يحبها، وبعد أن شرب الشاي معها تعّرض لأزمة قلبية أودت بحياته” (ص 91). ومرة أخرى، هل استطاع المؤلف أن يوثّق الخبر بدل جعله سائباً هكذا قيل عن قال؟ لماذا ملابسات تلفت النظر؟ وأين التشابك والغرابة؟ كيف التقى فيصل بسيدة هندية وكان يحبها وهو على سرير المرض في سويسرا؟ ومن الذي قال للمؤلف بأن فيصل كان يحبها؟ لماذا هكذا تلفيقات بحق رجل اعتقد أنه لم يسرق العراق ولم يضطهد العراقيين. أعتقد أنه كان مؤسساً بارعاً لدولة جديدة. وأعتقد أنه الزعيم الوحيد الذي حكم العراق في القرن العشرين وقد فهم العراقيين فهماً عميقاً.
وإذا كانت المعلومات المؤكدة والموثقة تقول بأن ممرضة هندية كانت تقوم في إحدى مستشفيات سويسرا على راحته. وتتهم بزرقه إبرة فيها سم وليس هناك أدلة دامغة تكشف هذا الخبر. فلماذا قمت بتحريفه أخرجته عن حقيقته؟ وأسألك: إذا كان هناك محبة قد جمعت فيصل الأول بسيدة هندية فلماذا قتلته؟ هذا كلام هامشي فعلاً ولا يصلح أن يعتمد عليه أبداً القراء العرب من العقلاء والمثقفين الناضجين.
ويستمر السيار معترضاً على قول عبد الرحمن منيف: “في عام 1921 كانت المباحثات من أجل إقامة الدولة، تجري بين فيصل بن الحسين ومعه كوكبة من الذين شاركوا في ثورة العشرين، وكان غبار المعارك لا يزال عالقاً بعباءاتهم وجفونهم. والطرف الثاني في المفاوضات مجموعة من القادة العسكريين والسياسيين البريطانيين الذين عرفوا المنطقة وناسها” (ص 83). وأنا أتساءل: ما هي أسماء تلك الكوكبة الذين شاركوا في ثورة العشرين؟ فالتاريخ لم يقل بمثل هكذا رواية تاريخية، فمن أين أتى المؤلف بها؟ ونحن نعرف قادة ثورة العشرين واحداً واحداً. فمن هو ذاك الذي جلس يفاوض الإنكليز؟ هل يمكن للمؤلف أن يخبرنا بما سجله بكل سرعة؟
يقول المؤلف: “تم الاتفاق بين الأطراف جميعاً على اقتسام الثروة النفطية. أما الخمسة بالمائة الباقية فقد تركت للسمسار الدولي كولبنكيان” (ص 90). ولا أدري من أين استقى منيف معلوماته، فالمستر كولبنكيان لم يكن سمساراً دولياً، بل كان عراقياً أرمنياً يمتلك مقاطعات كبرى من الأراضي الواقعة في لواء كركوك التابع لولاية الموصل واكتشف النفط في أراضيه، وأن حصتّه لم تكن حديثة العهد بل تعود إلى شركة النفط العثمانية وقد قررت حصّته على هذا الأساس منذ العهد العثماني أيام عهد السلطان عبد الحميد الثاني. وبقيت علاقة الرجل قوية بالعراق حتى بعد أن عاش حياته في الخارج وللتاريخ أقول كما يعرفه أغلب العراقيين القدامى أنه منح الكثير من عائداته إلى العراق والعراقيين بصفة منح ومشروعات وأعمار وخدمات وبعثات دراسية للطلبة العراقيين… إلخ. وبعد تأميم النفط من قبل أحمد حسن البكر, تأممت حصّة كولبنكيان من قبل البعثيين ومنحت الخمس بالمائة إلى صدام حسين شخصياً إذ سيطر عليها منذ ثلاثين سنة حتى زوال حكمه. أسأل الآن: لماذا لم يؤرخ عبد الرحمن منيف ذلك؟ لماذا لم يقل كلمة حق إزاء المستر كولبنكيان الذي أفاد العراق والعراقيين من الخمس بالمائة.
يقول المؤلف: “… أما اتفاقية سان ريمو، فقد أعطت نفط العراق لبريطانيا وفرنسا وخصت بريطانيا بالانتداب على العراق لكن قيام الثورة البلشفية فضح هذه الاتفاقيات…” (ص 95-96). وكلنا يعرف بأن اتفاقية سان ريمو كانت قد وقعت في 25 أبريل / نيسان 1920، وأن الثورة البلشفية الروسية قد اندلعت يوم 17 أكتوبر / تشرين الأول 1917، فكيف تفضحها وقد سبقت الثورة تلك المعاهدة بثلاث سنوات. إنه يقصد اتفاقية سايكس – بيكو. ثم يكتب المؤلف من عندياته أشياءً لا أساس لها من الصحة، فمثلاً يقول: “ولكن الولاية (= الموصل) تضم بين سكانها مجموعات عرقية متعددة، فقد حاولت الأطراف المتنازعة أن تعزز مواقعها وأن تمالئ أكبر عدد من المجموعات العرقية كي تكسبها إلى جانبها، الأمر الذي استدعى تدخلات كثيرة واستطلاع آراء من قبل لجان متخصصة سميت عن عصبة الأمم، أو من بعض الدول التي عرضت وساطتها، مثل الولايات المتحدة، والتي أصبحت شريكة في هذا النزاع بمرور الوقت وليكون لها في النهاية نصيب في الثروة النفطية” (ص 96).
ولكي أجيب على مثل هذا التزييف للتاريخ والأحكام البليدة ليعلم الأخ المؤلف بأن الموصل ولاية عربية قديمة تنتمي إلى العراق منذ عصر سحيق، وأنها قاعدة بلاد الجزيرة الفراتية وهي جزء علوي شمالي من بلاد ما بين النهرين, وكانت تضم على امتداد التاريخ أعراقاً وقوميات وأقليات متآخية متعايشة في المدينة والريف. في الجبال والسهول والهضاب والبوادي. لقد كان انبثاق لجنة تقصي الحقائق عن عصبة الأمم بمثابة صمام الأمان يضمن عراقية الموصل التي كان الأتراك بدؤوا يطالبون بها بذرائع واهية. وكان عمل أفراد تلك اللجنة الدولية معرفة التوزيع السكاني ومعرفة الانتماءات السكانية سواء للعراق أم لتركيا, وهي من أنجع الوسائل الدولية في بدايات القرن العشرين.
وبقيت اللجنة الدولية تتدارس طويلاً ميدانياً أوضاع السكان وآرائهم والحدود وتواريخهم وجغرافياتهم. ولا ينسى فضل الموقف المشرف لأبناء مدينة الموصل من خلال أحزابها السياسية: الحزب الوطني وحزب الاستقلال ولجنة الدفاع الوطني في الاستماتة من أجل عروبة الموصل وعراقيتها. فماذا يتكلم المؤلف في كتابه؟ ولماذا تزييف الحقائق؟ ولماذا لا نعترف فعلاً بدور كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت من أجل إبقاء الموصل في إطار العراق؟ لماذا نستخدم الإسقاطات المعاصرة على التاريخ، وإذا كانت أمريكا مكروهة اليوم، فلماذا يسقط المؤلف كراهيته على أدوارها منذ ثمانين سنة؟ وليكن معلوماً أن كان المؤلف لا يدري بأن مواقف الولايات المتحدة في النصف الأول من القرن العشرين كانت ممتازة إزاء قضايا الشعوب وكانت تناصر قضايا عدة في العالم إزاء ما كانت ترسمه كل من بريطانيا وفرنسا. وكنت أتمنى من المؤلف أن لا يخوض في هكذا موضوع من دون وثائق ومستندات تاريخية كتلك التي استخدمها المؤرخون المختصون، أمثال فاضل حسين, وأنصح المؤلف منيف بأن يراجع مرة أخرى وبتمهل شديد ما كتب عن هذه “المشكلة” التاريخية التي لولا التدخلات الدولية لصالح عراقيتها لاستحوذت تركيا الكمالية عليها خصوصاً وأنها كانت أقوى من العراق كثيراً، ولكان أصبح مصيرها مصير لواء الإسكندرون. ولكن الإصرار العراقي والبريطاني، وخاصة عند أبناء الإقليم وبالذات أهالي مدينة الموصل ودور أحزابهم السياسية على تدويل القضية قد أكسبها أبعاداً في كسبها الذي عد انتصاراً للعراق كله.
أما عن موضوع الفريق بكر صدقي، يقول المؤلف: “من صفات هذا الضابط (= بكر صدقي) الكفاءة العسكرية والطموح السياسي، وباعتباره كردياً فقد كان يفكر ويعمل من أجل إنشاء كيان خاص للأكراد في شمال العراق” (ص 108). ويقول المؤلف أيضا: “ولأن طموحات بكر صدقي بإقامة كيان كردي في الشمال العراقي أصبحت علنية ومكشوفة…” (ص 115). وهذا هو الخلط بعينه وإنني أتحدى المؤلف أن يأتينا بنص وثيقة واحدة تعلمنا بأن بكر صدقي كان يسعى لتمزيق العراق وإنشاء كيان انفصالي كردي. صحيح أن بكر صدقي من عرق كردي، لكنه كان عراقياً صلباً ويعتبره كل المؤرخين الذين اعتنوا بتاريخه أنه كان ضابطاً عراقياً محسوباً على المجموعات الشريفية التي آمنت في البداية بأفكار الشريف حسين بن علي، ومن ثم كان لبكر صدقي دوره في تأسيس الجيش العراقي، ولكنه وجد نفسه في تيار عراقي وطني يقف إزاء تيار عربي قومي في بنية الجيش العراقي –كما أشار إلى ذلك المؤرخ حنا بطاطو- ولم يكن في نية بكر صدقي أبداً تأسيس أي كيان كردي في شمال العراق, ولكن خصومه كانوا قد روّجوا ضده جملة من السيئات وخصوصاً بعد مصرعه أنه كان شعوبياً وانعزالياً عن العروبة وخصوصاً بعد مقتل جعفر العسكري مؤسس الجيش العراقي أثناء انقلاب بكر صدقي الشهير في العام 1936. وللعلم فإن بكر صدقي كان هو الضابط القوي الذي يؤثره الملك غازي على غيره من الضباط العراقيين. وأقول أيضاً بأن النغمة التي يرددها الكثير من الكتاب العرب المعاصرين بأن الأكراد انفصاليون إنما هي فرية وأكذوبة يوظفونها من أجل تمزيق وحدة العراق المصيرية، ويدخلون أنوفهم في ما لا دخل لهم به، فالعراقيون العرب وأنا منهم يعترفون بأن إخوتهم الأكراد العراقيين هم ملتصقون بالعراق التصاقاً قديماً, وقد أثبتت الأحداث بأن مصيرهم هو مصير كل العراقيين. ولقد أنجب العراق العشرات, بل المئات من الشخصيات الكردية المدنية والعسكرية ومن المثقفين والإداريين والمبدعين المخلصين للعراق وترابه, وكلهم كانت لهم أدوارهم الوهاجة في تقدم العراق الحديث.
أما عن مصرع الملك غازي، يقول المؤلف: “وهكذا دبرت عملية اغتيال الملك (= غازي) في ليل بهيم من قبل بعض خدم القصر وبادعاء أن عمود الكهرباء سقط على السيارة التي كان يقودها الملك” (ص 116). ويقول أيضاً: “وكان بطلها الضحية غازي وفرسانها نوري السعيد وعبد الإله والملكة عالية” (ص 116). وفي مكان آخر: “وقد اشترك في هذا الاغتيال ثلاثة: نوري السعيد والملكة عالية والأمير عبد الإله” (ص 151). ويقول عن نوري السعيد: “خاصة بعد أن انكشف دوره في تصفية الملك غازي، وبداية ارتقائه درجات السلم نحو الموقع الأول في السلطة” (ص 155). أما الشهادات التي اعتمد عليها فكانت لناجي شوكت الذي قال: “لا يستبعد أن يكون” (ص 117), وتوفيق السويدي الذي لم يتهم أحداً (ص 117), وصلاح الدين الصباغ الذي اتهم عبد الإله ونوري بإصبعه, ولكن الصباغ كتب ذلك في فرسان العروبة في العراق بعد حركة 1941 أي بعد أن انقلب من صديق وفي لعبد الإله إلى عدو لدود. ويكرر المؤلف اتهامه لنوري بقتل غازي (ص 167). نعم، لقد راجت إشاعات لا حصر لها ضد نوري وعبد الإله, كما روج البعض عن دور للملكة عالية, وروج آخرون لدور قام به الإنكليز… وكتبت دراسات وكتب وبحوث ولكن حتى يومنا هذا لم يعثر على أي وثائق دامغة تدين أي طرف بقتل الملك غازي.
إن مشكلة المؤلف ليس في ترويج مثل هذه الاشاعات والأقاويل، ولكن وجدناه يكتب عن أشخاص وكأنهم فعلاً قد قتلوا. ويعيد ويكرر من دون استخدام أي عبارات توحي بشكوكه كمؤرخ. فالمؤرخ الحقيقي لا يمكنه أبداً أن يحّول على مزاجه مجموعة اتهامات إلى حقائق وإدانات من دون أن يطلعنا على حقائق ثابتة. وكل الذين كتبوا في الموضوع تكهنوا بحدوث مؤامرة دبرت لقتل الملك, ولكن من هو القاتل الأساسي؟ إنني أتحدى المؤلف أن يأتيني بتلك الحقائق! وعليه فلا يمكن أن نوزع الاتهامات على أناس نكرههم ونمقتهم ونحن نجهل حقائق التاريخ, ولا يمكن لضميرنا أن يقبل جعل التاريخ محطة لرمي كل أحقادنا وكراهياتنا عليه, ولا يمكن تشويه ذلك التاريخ الذي ستقرأه الأجيال القادمة. ويمكن أن يتحول عندها ما تقرأه من الأكاذيب إلى حقائق. أما ما ذكره المؤلف عن نوري السعيد وبداية ارتقائه السلطة، فلقد أخطأ مرة أخرى، إذ لا بد أن يعلم المؤلف بأن نوري ترأس أول وزارة له في عهد فيصل الأول. كما وكان نوري وراء توقيع معاهدة 1930 وتطبيقها قبيل رحيل فيصل العام 1933 التي أدخل العراق بموجبها عصبة الأمم بعد أن نال استقلاله الشكلي. وعليه نقول بأن لا إثباتات ملموسة ولا قرائن محسوسة منذ مصرع الملك غازي حتى يومنا هذا تؤكد المؤامرة التي يلوكها الجميع بأن غازي قد رحل بعد تصفيته, ولا دلائل قانونية فعلية تشير إلى اشتراك نوري أو عبد الإله بتلك المؤامرة؟ فكيف يمكن لكاتب مرموق مثل عبد الرحمن منيف أن يغّلب فيها كراهيته للهاشميين ونوري السعيد ولا يقتصر على اتهام عبد الإله ونوري بقتل غازي، بل يجازف بإشراك الملكة عالية زوج غازي بقتل زوجها، وهذا اتهام باطل وقذف وطعن لا أساس له من الصحة إن لم نتأكد تأكيداً وثيقاً. ولا يمكن الاعتماد على الخصم في لصق الاتهامات. إن مصداقية أي كاتب في هذا الوجود لا يمكن أن تبقى ثابتة لا تهزها الرياح إلا من خلال حفظ الكاتب نفسه من الوقوع بفوضى القيم وتغليب الكراهية على تحكيم العقل .
ومن التاريخ إلى الواقع يرسم منيف لنا صورة محزنة على ما أسفرت عنه الحرب الأميركية على العراق فيما يتعلق بآثاره مذكراً بالضجة التي أثيرت لدى إسقاط حركة طالبان تمثالين لبوذا فيما صمت العالم على الجريمة التي جرت في العراق معتبراً أن ما حصل في العراق من قبل الإمبراطورية الأميركية سيظل سبة في جبين هذه الدولة إلى يوم القيامة معرباً عن دهشته مما قد يؤول إليه حال العالم في العصر الأميركي الجديد, وكيف سيتصرف رعاة البقر إذا لم تتحد البشرية كلها لمواجهة هذا الطوفان من الهمجية ووضع حد للبربرية الجديدة. ومذكراً بوضع اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية يدعونا منيف إلى الحفاظ على ثروة العراق من العلماء الذين يعدون هدفاً أميركياً إسرائيلياً مؤكداً أنهم الرأسمال الحقيقي للعراق والأمة العربية.
فيكتب في صحيفة السفير تحت عنوان اللصوص يحرسون الكنوز متهماً الولايات المتحدة هي التي قامت بتلك الفعلة الشنعاء وإن استعملت أيدي الآخرين في نهب المتحف العراقي، وتحطيم ما عجزوا عن حمله، وحين أحرقوا مركز الوثائق في بغداد، وكذلك المكتبة الوطنية، وما فاتهم حمله، أو تأخروا في ذلك لجؤوا إلى إحراق المكتبة. كذلك فعلوا بالنسبة لمكتبة الأوقاف، التي تعتبر من المكتبات المهمة، لأن كثيرين كانوا يوصون بمكتباتهم الخاصة إلى هذه الجهة، وكانت هذه المكتبات تحوي عدداً كبيراً من المخطوطات المهمة والنادرة. وكذا الحال بالنسبة لسجلات النفوس والسجل العقاري ومؤسسات عديدة أخرى. وما عدا عدد محدود من ذوي الضمائر اليقظة الذين احتجوا على هذه الأفعال, فإن معظم الناس في العالم أصموا آذانهم أو تظاهروا بأنهم لم يروا. وهكذا بعد أسابيع سوف تطوى هذه الصفحة السوداء في التاريخ، وكأنها لم تكن، لأن الذي قام بهذه الفعلة الشنعاء ليس الرعاع واللصوص وإنما الولايات المتحدة، وإن استعملت أيدي الآخرين”.
ويرى أن الولايات المتحدة تفاخر بالمتاحف التي لديها في نيويورك وشيكاغو وبنسلفانيا، وفي مركز كل ولاية من ولاياتها الخمسين, بل أكثر من ذلك لديها متاحف خارج المدن وفي عدد كبير من الجامعات، وفي هذه المتاحف معظم كنوز العالم من الآثار واللوحات والتماثيل، بحيث تعتبر ما تمتلكه هذه الدولة يفوق بعدده وأهميته ما تمتلكه أية دولة منفردة. إن في متاحف الولايات المتحدة آثاراً بالغة الأهمية والحجم. فالآثار الفرعونية في متحف المتروبوليتان مثلاً توازي أو تفوق ما هو موجود في المتحف المصري، وما عدا الأهرامات والمسلات فإن الآثار المصرية تنتشر في متاحف المدن الصغيرة والجامعات.
ما يقال عن الآثار ينسحب على المخطوطات أيضاً، ففي مكتبات أميركا ملايين المخطوطات المسروقة أو التي تم شراؤها بأثمان زهيدة، بحجة أنها عديمة القيمة أو يمكن أن تحفظ في أمكنة مناسبة، وستعاد إلى مواطنها في يوم من الأيام. إن المخطوطات المهمة والنادرة والتي تتمتع بقيمة تاريخية وفنية، رحلت عن المنطقة العربية إلى عواصم الغرب وحواضره، وهناك قفل على القسم الأكبر، بحيث لا تتاح الفرصة أو العرض، أو مجرد الرؤية، والأمر نفسه ينسحب على الأعمال الخشبية والنحاسية والسجاد القديم النادر، وكذلك الحال بالنسبة للفسيفساء والتماثيل وأعمال الخزف وغيرها من المشغولات اليدوية.
ويرى عبد الرحمن منيف بأنه كان من أيسر الأمور حماية هذه المرافق، إذ يكفي أن توضع دبابة واحدة من دبابات “التحرير والفتح” عند كل مرفق لمنع هذا الذي حصل. لكن كان وراء تسهيل الوصول أمر مدبر ومبيّت. فعمليات الإغراء والتشجيع للرعاع، والأغلب أنه تم تحضيرهم في وقت مبكر للقيام بهذا العمل، كي يتم التستر وراءه من أجل عمليات نهب منظمة وواسعة من قبل القوات الغازية أو عن طريق هذه الحثالات. إن إسرائيل وأميركا ليستا بعيدتين عما حصل، إذ لم تكتفِ قوات الغزو بمشاهدة كل ما يحصل، وإنما حمت اللصوص ويسرت لهم أن يحملوا مسروقاتهم ويهربوا بها، وما تعذر حمله حُطّم أو أحرق، وإلا فكيف نفسر تحطيم أو نهب ما يزيد على سبعة عشر ألف قطعة أثرية؟ ولماذا تشعل النيران بالمكتبة ومركز الوثائق، وبعدد آخر من الدوائر والمؤسسات الحكومية؟ إن من يفتقد للتاريخ يحاول أن يخترع لنفسه تاريخاً ملفقاً. ومن يبحث عن تاريخ لكي يسند حججه وادعاءاته يمكن أن يفعل أي شيء من أجل الوصول إلى ما يعتبره أثراً أو مستنداً. وكلنا نتذكر كيف أن موشي دايان، بعد أن تتوقف النار قليلاً، كان يهب إلى الفأس ليبحث عن الآثار من أجل تعزيز حجة إسرائيل بأن اليهود مروا من هنا، وهذا هو الدليل. حين بدأت التعبئة لخوض الحرب على العراق، تبارى قادة الولايات المتحدة في تحديد المآل والمصير الذي ينتظر العراق، ليس فقط من حيث الدمار، وإنما من حيث التخطيط لإرجاع هذا البلد إلى العصور الوسطى، أي إلى ما قبل الصناعة. والموقف من الآثار والمخطوطات وغيرها من الكنوز التي تراكمت عبر آلاف السنين، يهدف إلى خلق “ذاكرة” جديدة مزورة، إذ المطلوب تجريد العراق من تاريخه وتراثه، وأيضاً من علمائه الذين يشكلون الضلع الثالث في هذا المثلث.
ولو بذلت قوات “التحرير” الحد الأدنى من الجهد في حماية المرافق الأساسية، ومن ضمنها ما أشرنا إليه، لما واجهنا هذه المأساة التي تبدو اليوم بعض مظاهرها الأولية، أما بعد أن يبرد الجرح، كما يقال، ونتأمل في ما حصل، فسوف نكتشف أن الخسارة ليست كبيرة فقط، وإنما لا تعوض، مما يعكس جوهر الحضارة الأميركية ومدى حرصها على التراث الإنساني، ومدى ما تخبئ للشعوب في المستقبل.
ما حصل في العراق من قبل الإمبراطورية الأميركية سبة في جبين هذه الدولة إلى يوم القيامة. حتى أستراليا لا تنجو من هذه اللعنة، وأيضاً تلك الدول المتحمسة للمشاركة في تلويث أيديها بدماء العراقيين بهدف أن ترفرف في ميادينها أعلام ماكدونالد. لقد شاركت بعض هذه الدول بعنصر واحد، وأخرى بعثت بعشرة من رجالها لتفكيك الألغام وإعلان الولاء للراعي الأميركي. والغريب أن دول أوروبا الشرقية، التي كانت أكثر صداقة للعرب، بذلت كل جهدها للتكفير عن هذه الصداقة، ومحاولة إلغاء الذاكرة. كل ذلك لإرضاء أميركا وكسب رضاها، ومحاولة الانتقال إلى الجنة الموعودة.
*كاتب عراقي مقيم في مملكة تايلاندا.
المصادر:
http://www.arabiancreativity.com/almoneef.htm
http://www.sana.org/The%20Arabic/Culture/Literature/apd%20alrhman%20monif.htm
http://www.albayan.co.ae/albayan/book/2003/issue279/reviews/1.htm
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=11554
http://www2.dw-world.de/arabic/kultur/1.40994.1.html
http://www.qateefiat.com/02/mq/88%20kainowz.htm
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=8102

شاهد أيضاً

مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !

قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …