الرئيسية / مؤتمرات / المشروع الحضاري العربي وأدوات التكامل الثقافي : رؤية نقدية*

المشروع الحضاري العربي وأدوات التكامل الثقافي : رؤية نقدية*

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس أبو نؤاس
أولا : مدخلات في الرؤية والمنهج والتفكير
1. مقدمة : الأهمية الحيوية للموضوع :
بالوقت الذي تتعالى أصوات العالم كله من أجل أن تنفتح أبواب المجتمعات وثقافاتها على بعضها الآخر وبمختلف الاتجاهات والمحاور والتخصصات وبسرعة مباغتة عبر موجات خفية لم تقتصر على ما مستحدثات الثورة التكنولوجية في القرن العشرين ، فان مرحلة ما بعد التكنولوجيا الحاسوبية وبدء ثورة المعلومات والعولمة قد أخذت تغير العالم كله تغييرا جذريا لابد أن نحسب حساباته نحن العرب مع معرفتنا بأوضاعنا المعاصرة ورؤيتنا لمستقبلنا وأجيالنا من بعدنا . وثمة من يندد بالمخاطر الجديدة هنا والمنتظرة هناك من جميع النواحي وخصوصا السياسية والثقافية . وتعج الحياة الثقافية العربية بمجموعات من النخب المثقفة المتنوعة بأفكارها ومرجعياتها واتجاهاتها وتياراتها .. ناهيكم عن أساليبها المختلفة . ولعل اخطر الكتابات والمساهمات الثقافية العربية هي التي تتلبسها الأقنعة الديماغوجية بكل ما تتمثله من الازدواجيات وما تعج به من التناقضات .. فهناك من يقف منظرا في أعالي الشرفات المؤدلجة بكل الشحنات السياسية ، وهناك من يثوى في أعماق الأدغال وازقتها المعتمة المغلقة ، وهناك المرتبكون المحتارون الذين يكررون النصوص عند الحواجز بين الأسوار المتهاوية وبين الجدران المنهدمة ناهيكم عن ركام المتحصنين في الأقبية والحصون القديمة التي لم يعد هذا العصر يلتفت إليهم ! والمشكلة أن الجميع يتحدث باسم الثقافة العربية والهوية والأصالة والتراث .. وان اخطر الأمور في الحياة العربية المعاصرة هي التي تتمثلها مجاميع من المتخلفين عن ركب العصر الذين لم يلاحقوا الزمن بغياب الوعي التاريخي لديهم وقد تجاوزهم العصر بمراحل فاصابهم التحجر مع يوتوبياتهم ونصوصهم التي يجترونها ليل نهار ، بل غدوا معضلة في الثقافة العربية لما يثيرونه من أزمات ومشكلات مفتعلة في الحياة الثقافية العربية تحت مسميات شتى .
لقد صدق وليم ماركيز في فكرته عندما كتب يقول : ” إن ما حققته البشرية في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين يفوق بكثير عما أنجزته على امتداد آلاف السنين ” ! ولا يمكن توصيف ما قد حصل فعلا في العالم في العقد الأخير من القرن العشرين ، نظرا لضخامته وركامات مكتشفاته ومعلوماته وقوة مؤثراته الصاعقة على مختلف المستويات في العالم كله ليس سياسيا وانما معرفيا بالدرجة الأساس ! وان افجع ما يمكن التفكير فيه تصور العرب في مجاميعهم التي تحدثت عنهم بأن كل الذي حصل هو تحصيل حاصل لدور الآباء والأجداد لحضارتنا العربية الإسلامية وان مستحدثات العصر يقيسونها من خلال ثوابتهم سياسيا كونها موجهة ضدهم وضد القيم والأخلاق والتقاليد والدين ! ولعل الذي يصعق حقا ما حدث من تيبس وتكلس عند أولئك الذين تهمشوا نتيجة متغيرات العالم الإسلامي اثر نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 فازدادت عزلتهم ، بل وانكمشوا على أنفسهم محاولين التوفيقية هذه المرة مع من كانوا يسمونهم بـ ” الرجعيين ” سلفا نتيجة هشاشتهم الفكرية عندما سقطت المنظومة الاشتراكية بعد أن كانوا يتنطعون قبل خمسين سنة بالثورية والتقدمية والتحرر من أغلال الدين والرجعية ( العفنة ) ـ كما كانوا يسمونها ـ! فغدوا لا يحملون الثنائيات والازدواجيات حسب ، بل وصلوا اليوم أعلى ذروة من الديماغوجية الفكرية إلا قلة من المثقفين الذين حكموا العقل والبصيرة في متغيرات العصر .
إن العقلانية العربية ، لابد أن تغدو منهج حياة ومستقبل بالنسبة للثقافة العربية وتكاملها إزاء متغيرات العصر ومواجهة ظاهرة العولمة ومن اجل إيقاف امتداد الموجات الغريبة والشحنات الصاعقة من الديماغوجيين الذين اختلطت عندهم المفاهيم والقيم والأفكار والمصطلحات والمعتقدات والتشيؤات والماديات .. ولعل ابرز العوائق التي تقف إزاء تكامل الثقافة العربية المعاصرة ضمن أي مشروع حضاري ليس تحديات الآخر حسب ، بل تحديات الدواخل نفسها ، ومنها : تيبسات الوعي الثقافي الجمعي والاغتراب عن العقلنة والابتعاد عن فلسفة التقدم ، والتخلف عن خلق المؤسسات الحديثة ، وتسويغ كل الماضويات بسلبياتها وإيجابياتها ، والعزف على الشعارات المؤدلجة بعيدا عن ثورة المعرفة والتفكير العلمي ، مع بقاء المؤسسات القديمة في كل من الدولة والمجتمع العربيين من دون أي تجديد وتنمية وتغيير وتطوير وخصوصا تلك التي تخص بناء المجتمع المدني تربويا وقانونيا وثقافيا وبالتالي سياسيا ! وتتمثل أسوأ الحالات في أساليب التوفيقية بين المألوفات والتجديدات التي عمرت في الثقافة العربية لأكثر من خمسين سنة من دون أي تحرر عن طوقها الذي ما كان يريده العقلانيون الكبار في الجيل الماضي والذين لم يشهدوا ما حصل اليوم من تطورات خارقة في الثقافة الإنسانية والمعرفة البشرية .. وعليه ، فلا يمكننا اليوم أن نتخيل مثقفا عربيا مهما كان تخصصه أو فكره أو عمله وهو يسبح بحمد مألوفاته وتقاليده وماضوياته أو أيديولوجيته ونصوصه القديمة وهو لا يتنصل أبدا عن استخدام آخر مبتكرات العصر ومستحدثاته العجيبة كالقنوات الفضائية والهواتف الخليوية النقالة وطائرات الجامبورجيت والمستحدثات الجينية وشبكات الانترنيت والحكومات الالكترونية ومعلومات المجموعة الشمسية واختراق الفضاء الكوني والصناعات الدقيقة وتقنيات الطب الحديث وصحة الانسان .. الخ
2. من التشكّل النهضوي إلى التجزؤ السياسي .. نحو التكامل الثقافي :
2/1 خطوط منهاجية :
ثمة محددات منهاجية لابد من إيضاحها قبل التوغل في مناقشة المفاهيم والموضوعات ، فربما تساعدنا في اختصار مسافات لا تحتمل تأويلات غير واضحة المعالم خصوصا عندما نعلم بأن التشكيل الثقافي العربي سواء ضمن مشروع اليقظة الأولى أو الاستنارة أو التكوين قد اقترن بالوعي الثقافي الموحد أولا ، الممتد في تكوينه إلى القرن التاسع عشر . وليس باستطاعتي القول أن ما سبقنا من مشاريع عربية في اليقظة والإصلاحية والاستنارة والنهضة وحتى في التكوين والتنمية والتحديث قد أوجدت تكاملا ثقافيا عربيا أو بلورت أي صيغ شبه تكاملية ثقافية على امتداد القرنين السابقين .. ويمكن القول أن تعايشا ثقافيا عربيا كان قد تبلور على امتداد تاريخ طويل من حياة المجتمع العربي وخصوصا بين أمهات المدن العربية ، وهو ما يفسر حالات التجانس والوئام والعيش المشترك والعلاقات العضوية .. وكلها دامت قرونا طويلة برغم حكم الغرباء وسطوته أولا وبرغم وجود كل التنوعات الدينية والطائفية والاقلياتية والعرقية .. في مركبات الجسم العربي بجغرافيته الواسعة .
ثمة مستلزمات منهاجية تطالبنا بتحديد الرؤية وتوضيح المصطلحات ، وتبسيط المفاهيم ، وتحليل الأفكار وتدعيمها بالنماذج والأسماء والأمثلة والأفكار .. ولكن لابد أن تثار بعض الأسئلة ضمن سياق المنهج ، وعادة ما يثار مثلها لدى قراءتنا لمفكرين عرب أو غير عرب . فماذا يمكنني أن أثيره من أسئلة ؟ وكيف يمكنني الإجابة عليها بكل وضوح ؟
ماذا يقصد بمصطلحات : ” الثقافة ” و ” الأبعاد الثقافية ” و ” التشكيل الثقافي ” و ” الوعي الثقافي ” و ” التكامل الثقافي ” ؟ وما هي العلاقة الجدلية التي حكمت بينها مصطلحيا ودلاليا حتى يمكننا ربط مضامين تكوين العرب الحديث ضمن أي مشروع نهضوي أو حضاري في المستقبل ؟ وهل ثمة مضامين في ذلك خصوصا عندما نستخدم كل ما له علاقة بالثقافة ؟ فثمة مفارقة منهاجية بين استخدام المصطلحات وبين تسويغ المضامين بأسماء مختلفة وعناوين متنوعة ! إذ يختلف المفكرون العرب في منطلقات الجذور التاريخية للثقافة العربية الحديثة .. كما يختلفون في مسار التطورات والاخفاقات التي حكمتها زمانيا ومكانيا ، ناهيكم عن التباين الواضح في الدلالات والعناصر ، فهل تطورت الثقافة العربية الحديثة كجزء حيوي فاعل من عمليات أي مشروع نهضوي أو حضاري للامة على امتداد القرنين الأخيرين بدءا بتشكيلها وصولا إلى تكاملها ؟ أم إنها قد أخفقت نتيجة عوامل شتى معقدة لكي تتجزأ ومن ثم تتشرذم وتصل إلى درجة ما يسمى بـ ” الاستلاب الثقافي ” ؟
ونبقى في تساؤلاتنا المنهجية : هل من بادرة عربية ( لا على مستوى اغلب المجامع اللغوية العربية “الهزيلة” ، بل على مستوى تفسيرات بعض المفكرين العرب المقتدرين في العديد من أعمالهم أو إسهاماتهم في منتجات وندوات بعض المراكز والمعاهد والجامعات العربية ) من أجل تحديد ما نرّوجه من مصطلحات وتوصيفات ومسميات نشترك فيها سويا ؟؟ فلقد بدا واضحا على امتداد القرن العشرين ، أن لكل جيل من أجيال المفكرين والمنظرين العرب مصطلحاته وتعابيره وتوصيفاته .. ولكي لا يتيه المرء في بيئتنا العربية اليوم ، ومن أجل أن لا يضيع المؤرخ في عصر قادم .. فلابد أن نتوقف قليلا عند تعريف محدد لابد أن يدركه التفكير العربي الراهن وخصوصا في لغتنا العربية لأن الأمر محسوم في اللغات العالمية ! وينبغي أن يدرك العرب أن “الإرث الحضاري” القديم هو غير ” المشروع الحضاري” الجديد لكي يتوقف عزفهم الهجين السمج والمتضارب وكأنهم في قاعة مملوءة بالصخب إن لم تكن مليئة بالمضاربات والمزايدات والشعارات والتناقضات !! عليهم أن يدركوا بأن ” الحضارة ” Civilization اليوم هي : حصيلة ما أنجزه الإنسان في كل مرافق الحياة المتطورة بدءا بنفسه وتفكيره وإبداعه وانتهاء بمؤسساته وخدماته ومنتجاته واكتشافاته .. وان ” الثقافة ” في دلالتها Culture هي : أسلوب حياة شعب معين أو مجتمع على وجه الأرض ما بكل ما يحفل به من عادات وتقاليد وتراث واداب وفولكلوريات .. تجسدها أزياءه وقيمه ومعيشته وطعامه ومعماره وفنونه ، وبكل ما يتصف به من المزايا والرزايا .. الخ فنقول : بأن للمجتمع العربي ثقافته الحيوية التي توارثها واكتسبها من بقاياه وجذوره التاريخية وهي قاسم مشترك عام يجتمع حوله أبناء الأمة قاطبة ، وبهذا المعنى يمكننا أن نتعمق في جزئيات الاختلافات الثقافية ضمن كل بيئة عربية وما تتصف به من الأبعاد الثقافية ضمن عناصرها السكانية والجغرافية ، وان لا تكامل ثقافي عربي من دون مشروع عملي وفعال في التحديث والتمدن والتحضر .
أما الثقافة في دلالتها Education فهي : حصيلة من المكتسبات والأدبيات والمنتجات التي تتميز بها نخبة معينة في المجتمع يكون لها قوة وخصوبة في التأثير والإبداع والممارسة والتخصص والمعلومات .. نتيجة بناء علمي أو أدبي أو فني .. ويمكن أن تتفرع عنها ومن خلال عناصرها جوانب متعددة ومتنوعة في الحياة المدنية الفاعلة فتغدو أمامنا جملة من النخب المثقفة التي تتمايز داخل بنية الأمة أو المجتمع بتكويناتها الحديثة فنجد هناك ثقافات : سياسية وقانونية وعلمية وادبية وفنية وادارية .. الخ وعليه ، فسوف تغيب كل التناقضات والازدواجيات التي تعشش في التفكير العربي إذا ما احسن فهم كل ما تقدم غيابا لا رجعة عنه أسوة بكل الأمم التي تحترم مواريثها ولا تقدسها ، وتخصب زمنها المعاصر ولا تفقده عن غباء ، وتتعلم من التجارب ولا تكررها ، وتنقد سلبياتها ولا تتواكل عليها ، وتوظف إمكاناتها ولا تبعثرها ، وتجدد حياتها دوما ولا تستنسخها ، وتنتج ما يخدمها من التشيؤات ولا تقتصر على صف الكلمات وإنشاء التعبيرات .. الخ
2/2 المصطلح والمضامين :
سؤال لابد من إثارته الآن حول اختلاف الدارسين للفكر العربي ضمن أي تجربة نهضوية ومشروع حضاري بشأن التشكيل الثقافي العربي : هل يمكننا أن نقرن الفكر العربي الحديث بالتشكيل الثقافي العربي ؟ وحول تصادم المفاهيم : هل يمكننا أن نقرن طبيعة الإحياء الإسلامي ووظائفه في عمليات المشروع الحضاري ضمن التشكيل الثقافي العربي الراهن ؟
دعونا نتأمل في أربعة مفاهيم تضمنها كل من السؤالين في أعلاه :
أولها : مفهوم الفكر العربي الحديث لمشروع حضاري عربي معاصر .
ثانيها : التشكيل الثقافي في معناه ومغزاه ضمن ما يسمى بـ التجارب النهضوية .
ثالثها : طبيعة الإحياء الإسلامي ووظائفه إزاء مستلزمات التحديث في الحياة العربية .
رابعها : التكامل الثقافي في عناصره وركائزه من اجل مستقبل الأجيال العربية القادمة.
نعم ، هل عرفنا بأن اختلافا كبيرا يجمع بين هذه ” المفاهيم ” الأربعة ليس من الناحية الدلالية والمصطلحية ، بل من النواحي الفلسفية وما يعّبر عنه كل مسمّى من مضامين ؟ ذلك لأن كل واحد منها له بنيته ومجالاته وتراكيبه وفلسفته ووظائفه وعناصره التي لا يمكنها أن تغيب عن الدارسين .. فالفكر وصّناعه وأصحابه هم من أبناء النخبة ( أو : الصفوة ) التي تبدع بأفكارها وآرائها ومشروعاتها واعمالها الفكرية العليا ، وبالضرورة سيكون هؤلاء من ابرز المثقفين . أما من يعد من المثقفين فهو الذي يجسد بتشكيلاته وإبداعاته الثقافية كي يكسب اعتراف مجتمعه به . والمساحة للمثقفين اكبر من نطاق المفكرين والمختصين وحتى علماء الدين ! ذلك لأن المثقف الحقيقي له مزاياه وأساليبه ووظائفه المتعارف عليها في مجتمعه ضمن الأفق واللغة والفن والمعارف في واقعه الذي يعايشه . فإذا كان المفكرون هم القلة والندرة ، فان المثقفين هم من المتمايزين في حقيقة الأمر ، إذ ليس كل من حمل شهادة دنيا أو عليا من المختصين ، أو كل من حمل إجازة دينية أو غير دينية .. له سمات المثقف عالي المستوى . أما الاحيائيون ( وهي تسمية جديدة في تفكير العرب اليوم ومحببة من قبل بعض الكتاب العرب في أيامنا الراهنة ) إذ لا نجد لها أية مضامين معاصرة في الفكر العالمي المعاصر ، فيراد بها جماعات من علماء الدين الإسلامي بدءا من المصلحين السلفيين الأوائل في تاريخنا العربي الحديث وصولا إلى الإسلاميين الجدد والأصوليين الأواخر عند نهايات القرن العشرين . وتبقى البقية الباقية من جماعات وكتل وأحزاب ونقابات واتحادات وجمعيات ومنظمات .. الخ تشغل مواقع توفيقية هائمة بين مختلف المرجعيات المضطربة لأنها أصلا لم تحدد في تفكيرها المعاني والمفاهيم وحتى الشعارات والتسميات .. فكيف تنجح في فرز المضامين وتفسيرها ؟ وان لم يتم تأسيس فرز علمي عربي ( وليس : أكاديمي بالضرورة ) لكل المصطلحات والمضامين من اجل تحديد المفاهيم التي ذكرتها آنفا ، فسوف لن يتبلور أي تكامل ثقافي عربي في الأفق ، ذلك أن إشكالية المصطلح والمضمون لا تحل مطلقا من قبل وزارات الثقافة العربية فنيا ، بل لابد أن يعالجها التفكير العربي الراهن على أيدي النخب الفكرية العليا من اجل تأسيس استراتيجية تفكير عربي لمشروع حضاري مستقبلي يعتمد عليها الجيل القادم في بناء عمليات تحديث الحياة العربية وبناء التكامل الثقافي العربي .
وعليه ، ومن خلال فرز المعاني للمفاهيم الأربعة ينبغي التفريق بشكل واضح بين الدلالات والمضامين الجزئية لكي لا يتم الخلط في كتابة أية أبعاد فكرية أو ثقافية أو دينية أو سياسية أو أيديولوجية في حياتنا العربية والإسلامية ، مع قياس أن أيا من هذه ” الأبعاد ” كان له مواصفاته وتسمياته في كل مرحلة من مراحل تلك الحياة التاريخية .
3. الجذور والتكوينات التاريخية :
3/1 الأجيال المثقفة :
هكذا ، لا يمكن أن نصف عمليات الحداثة والتحديث أو التجدد والتجديد إلا من خلال عوامل تاريخية معقدة ومتشابكة داخلية وخارجية ساهمت في منطلقات بنية التشكيل النهضوي ( لا الثقافي ) والإصلاحي ( لا الفكري ) ! وسواء اختلف الدارس والباحث مع من طرح عامل ” صدمة الغرب ” كأحد أبرز العوامل الخارجية في القرن التاسع عشر ، أم مع من طرح عامل التجديد والإصلاح الداخلي في الإرث العربي الإسلامي ( لا التشكيلة الثقافية العربية الإسلامية) مع القرن الثامن عشر ، فان ثمة ملاحظات هناك لابد من رؤيتها في هذا الصدد وخصوصا عند أولئك الكتاب الذين يجازفون بآرائهم واحكامهم بعيدا عن فهم ما جرى من متغيرات تاريخية قوية في بعض دول العالم العربي الحديث ومجتمعاته ..
لقد ولدت التكوينات الثقافية العربية الحديثة وتبلورت إزاء عدة مشروعات مركبة كانت لها أداة في النفع والضرر ، والتي دامت على امتداد القرنين الأخيرين بدءا بولادة أول حالة وعي عربي عام 1799في ثورة القاهرة الثانية استجابة لتحدي بونابرت ضد مصر . وتواصلت الأجيال المثقفة العربية منذ تلك الولادة التاريخية حتى اليوم بتركيب سبعة أجيال ، عمر كل جيل منها ثلاثون سنة كاملة . وكان لكل جيل عربي مثقف منها : سماته ورموزه ومواصفاته وعناصره وألوانه وتفكيره وشخوصه وادبياته ومنتجاته الخ التي يختلف فيها عن سابقه او لاحقه .. وعليه ، يمكننا تركيب الأجيال العربية في تكوين الثقافة العربية الحديثة حسب النسق التالي ( وصولا إلى نهاية القرن الحادي والعشرين بانتظار ثلاثة أجيال قادمة حتى عام 2099م) :

الرمز السياسي الوسيلة المتاحة أداة المشروع الإصلاحي / النهضوي السقف الزمني (بالميلادية ) الجيل
محمد علي باشا البعثات اليقظة النهضوية 1799ـ 1829 الأول
محمود الثاني الإرساليات التنظيمات الرسمية 1829ـ 1859 الثاني
عبد الحميد الثاني الصحافة المشروطية الدستورية 1859ـ1889 الثالث
جمال الدين الأفغاني الترجمات الاستنارة الفكرية 1889ـ1919 الرابع
سعد زغلول الراديو الليبرالية السياسية 1919ـ1949 الخامس
جمال عبد الناصر التلفزيون الثورة القومية 1949ـ1979 السادس
الإمام الخميني الفضائيات الحركات الدينية 1979ـ2009 السابع
؟ ؟ ؟ 2009ـ2039 الثامن
؟ ؟ ؟ 2039-2069 التاسع
؟ ؟ ؟ 2069-2099 العاشر

3/2 التأثيرات الأوربية : الحلقات التاريخية
وجدت المتغيرات السياسية الاستعمارية ركائز عملية لها في بعض المدن الكوسموبوليتانية من العالم العربي خصوصا ، وخصوصا في مدن بلاد الشام ومصر والعراق من النواحي التبشيرية وتأسيس بعض المدارس والقيام برصد أحوال بعض البيئات الحيوية من قبل الغربيين، والتي ستنطلق بحملة بونابرت على مصر وبلاد الشام عند نهايات القرن الثامن عشر ، كي تشكل فعليا صدمة حضارية صاعقة مباشرة ! وعندما يؤسس البعض من المفكرين العرب كل منتجات البدايات النهضوية في العالم العربي لتحديد زمن المنطلقات الأولى تاريخيا ، فانهم ينسون أو يتناسون حجم التأثيرات الواسعة للغرب على ذلك العالم في القرن التاسع عشر نتيجة لتفاعل عوامل تاريخية معقدة لم يكن لها وجود قبل ذلك ! واستمرت التأثيرات الأوربية بشكل خاص عند العرب على امتداد القرن العشرين .
4. تفكيرنا في دواخلنا : استجلاء الرؤى المعرفية
4/1 معنى التشكيل الثقافي :
إن التشكيل الثقافي يعني بكل بساطة ووضوح مجموعات هائلة ومركبة ومعقدة ليس من منتجات الفكر فقط كما يتصور البعض ، بل من منتجات الحياة السياسية ومواريث المجتمع وعاداته وتقاليده وفولكلورياته وآدابه وفنونه وإبداعاته .. فضلا عن دور ذلك ” التشكيل” في إغناء مؤسسات الدولة بالمشروعات الدستورية والقانونية والمدينية والعمرانية والخدمية والسكانية والإعلامية .. الخ ناهيكم عن دور ذلك ” التشكيل ” في تطوير المجتمع وتربوياته وعلومه ومعارفه وأساليب حياته وتنمية تفكيره ومدارسه وجامعاته وانديته وملتقياته ومعارضه ووسائل راحته وملاعب أطفاله .. إضافة إلى دور ذلك ” التشكيل الثقافي ” في تحديث الحياة الاقتصادية ومجالاتها النفعية والأسواق والاستثمارات والبنى التحتية وعمليات التبادلات والمواصلات والاتصالات والتسويق والبنوك واحترام ساعات العمل .. الخ
إن حصيلة ما يقدمه ” التشكيل الثقافي ” في أي أمة تسعى نحو التطور والتحديث هو جزء أساسي من عملية المنجز الحضاري .. ومن دون شك ، فان المفكرين الاصلاء من المثقفين الحقيقيين في أية أمة تحترم نفسها وتاريخها ، إنما يقفون على رأس ذلك ” التشكيل ” فمنهم المستشارون ومنهم المساعدون ومنهم التكنوقراط والبراغماتيون ومنهم المبدعون والفنانون والإعلاميون والمختصون وحتى البعض الذكي من القادة السياسيين .. وكلهم لابد أن يشاركوا صانع القرار في الخطط والمشروعات والبرامج التي تعمل أساسا من اجل المستقبل على أسس علمية من اجل التغيير لا من اجل الإصلاح ومن اجل التحديث لا من اجل التراجع .. ويبقى الاحيائيون مهما كانت فصائلهم وتوجهاتهم من تقليديين وإصلاحيين وتراجعيين وسلفيين وأصوليين .. وغيرهم أن يقيموا جسور حوار مع المثقفين الحقيقيين من اجل أن تكون لهم مشاركتهم ومنافعهم الحيوية للمجتمع في عملية الإرشاد والتهذيب وزرع مكارم الأخلاق ليس إلا ، وعليهم أن يؤمنوا بالثقافة الحديثة ويشاركوا في مجالاتها الخصبة أدبا وشعرا وفنا وغناء ورسما ونحتا وموسيقى .. فكرا وفولكلورا وحداثة وإعلاما ومتغيرات اجتماعية وسياسية وتعلم لغات .. قوانين وتحديثات وسياسات واتجاهات وحريات وحقوق عمل ومتطلبات واقع واشتغال المرأة .. الخ وكل ذلك لا يتعارض أبدا مع الإسلام في جوهره الناصع ومبادئه السمحاء ومعتقده الراسخ وسموه وتجلياته العظمى ، وبعكسه فان الحياة الحديثة والمعاصرة تطالب من يقف ضد أي نوع من تشكيلها الثقافي أن لا يستخدم وسائلها العولمية المتطورة ومنتجاتها التكنولوجية المفيدة وإبداعاتها الخدمية الرائعة وأساليب الاتصالات السريعة والمواصلات الجديدة .. فضلا عن وجوب انتزاعهم واستئصالهم حالات التناقض والمزدوجات التي يعيشونها ليل نهار !!
4/2 كيف نفهم فلسفة التشكيل الثقافي عند العرب ؟
من أجل توسيع الرؤية في فهم هذا ” المصطلح ” ( أو : التعبير) والتعمق في فلسفته ، فلابد أن ندرك بأن مصطلح ” الثقافة” نفسه ، إنما هو نحت لغوي ومعرفي عربي مستحدث لا يرقى استخدامه لأكثر من سبعين سنة ، فهو وليد القرن العشرين . وعليه ، فان معانيه الجديدة لا تنطبق بالضرورة على عناصر ومنتجات ومنظومات تجد مرجعياتها في مواطن لا علاقة لها به أصلا ، فضلا عما لحق به من دلالات واستخدامه في عدة من التوصيفات المعاصرة كالوعي الثقافي والتبادل الثقافي والعلاقات الثقافية والعناصر الثقافية والمؤسسات الثقافية والنخب المثقفة والغزو الثقافي والملحقيات الثقافية والمنظمات الثقافية .. الخ وعليه ، فان الثقافة والمثقف ربما يستفيدان من عناصر ايجابيات التراث ، أي تراث ، مهما كانت طبيعة ذلك ” التراث” من اجل أن يوظف التراث أو يستفاد منه في المنتجات الثقافية الحديثة والمعاصرة .
ولنا أن نتصور قوة التحولات في التشكيلات الثقافية التي حدثت في العالم العربي والإسلامي إبان القرن التاسع عشر ومؤثراتها النفسية والاجتماعية ، ومنها مثلا : تغيير واضح في أساليب الحياة ، وتغيير جملة كبرى من سكان المدن لأزيائهم باستحداث الأزياء الأوربية ، ثم العمل والانتظام في تطبيق الأنظمة والقوانين والخطط الجديدة التي أقرتها دول العالم الإسلامي ، مع استحداث المدارس المدنية والانتظام فيها ، ثم مواجهة صدمات متتالية كانت تثير التساؤلات على اقل تقدير إن لم تكن تثير الاندهاش ومنها السفن والموتورات البخارية ثم الرسائل البرقية والتلكرام وانتقال الأخبار بواسطة الصحف التي لم يكن لها وجود قبل القرن التاسع عشر ، وصولا إلى انبثاق الفنون الجديدة كالرسم والمسرح وثمة قصص خيالية كانت تروى بصدد مشاهدة الصور الفوتوغرافية .. الخ من المعالم والتقنيات والتشيؤات الثقافية التي أثارت الوعي عند العرب والمسلمين قبل غيرها من الأمور كالكتابات والشروحات ! وصولا إلى صدمات متتالية آثارها وصول الغرامافون والراديو والسينما .. ثم التلفزيون والأقمار الصناعية .. وهلم جرا في القرن العشرين ! المشكلة التي يمكن لأي مفكر عربي أن يدركها في قراءة التشكيلة الثقافية العربية تمييزه بين جنسين من المخلوقات العربية : جنس أول تصنع منه الصدمات والتفكير بالتشيؤات الحديثة وعيا يدفعه للإبداع ، وجنس آخر في منتهى الغباء لا تصعقه المستحدثات ولا تستحثه الابداعات ، إذ قفل على نفسه ولم يفكر أبدا بقيمة ما يتمتع به من تلك التشيؤات الدنيوية ! فالجنس الأول يمكنه أن يبدع فيغدو من المثقفين ، والجنس الثاني لا يمكنه البتة أن يكون جزءا من التشكيلة الثقافية المبدعة .

ثانيا : معالجة المضامين : رؤية نقدية
1. انحلال التكافؤ العربي :
لعل أخطر ما أضاعه العرب على امتداد مائة سنة من حياتهم المعاصرة إنما يتمثل ببناء المؤسسات السياسية المدنية أولا وتطوير التعايش الثقافي المتكافئ ثانيا .. وثمة أسباب وقفت وراء ذلك منها تخلفهم وتواكليتهم وسلبيات مواريثهم التي أضاعوا من خلالها زمنهم وفاعليتهم وحيويتهم التي كان لابد لها أن تكون اليوم مضاعفة عما كان يطالبون به قبل خمسين سنة من اليوم . لقد شغلوا أنفسهم ليس عن تأسيس وعيهم الثقافي العربي وحده ، بل حتى عن الوعي بالآخر وبما هو حاصل اليوم في العالم . لقد استعار البعض أفكارا ومفاهيم ونصوصا وبيانات وأيديولوجيات وترجموا كتبا وأشعارا وفلسفات وسياسات .. بل وقلدوا الآخر في الاشتراكية والتعاونية والليبرالية والإصلاحية والنقابية .. وحتى التقاليد الرسمية والأكاديمية ، بل وطال التقليد والتأثر بالثقافة الغربية بحيث لبس العرب الألبسة والأزياء الأوربية رجالا ونساء ، ناهيكم عن وسائل العيش والسكن والعمارة وأفلام السينما والكهربائيات والغذاء والأدوية والأجهزة وحتى السكاير .. الخ ولم يكتفوا بذلك بل لم يعد باستطاعتهم أن يستمروا في عيشهم من دون المنتجات الصناعية الأساسية الغربية الضخمة والدقيقة في كل مرافق الحياة .. فاختلفت الثقافة العربية اختلافا جذريا عما كانت عليه قبل مائة سنة .. ولكن مع كل هذه العوامل التي لابد أن يعترف بها العرب اعترافا حقيقيا وصادقا لا لبس فيه ، إلا أنهم أنفسهم على امتداد خمسين سنة ، لم يساهموا على مستوى وعيهم الثقافي الجمعي إلا تكريس الانغلاق وتشريع الممنوعات وبناء الجدران العالية بينهم وبين ذواتهم أولا ، وبينهم وبين العالم كله .. واستعرت حرب مفتعلة شعواء في ما سمي بـ ( الأصالة والمعاصرة ) بحجة الحفاظ على التراث أو القيم أو الدين أو الهوية ..
وإذا كان هذا الصراع المفتعل قد بدأ تحت حجة المحافظة على التراث ، فلقد انتهى اليوم تحت لافتة الحفاظ على الهوية ! فضاع زمن ثمين جدا من حياتنا العربية المعاصرة ضياعا مريرا ، والمشكلة أن مثل هذه الأزمات المزمنة لم تبق منحصرة بأيدي أبناء المجتمع العربي ، بل كان للدولة العربية دورها الخطير في الموضوع سياسيا وإعلاميا وتربويا .. وكانت الدولة اكثر تلفيقية من المجتمع مما ساعد كثيرا على الانحسار الحضاري وكبح جماح التقدم على عكس ما حدث لدى مجتمعات ودول أخرى في النصف الثاني من القرن العشرين ، إذ لم تشغلها مثل الذي شغل العرب طويلا ، وساهم في بعثرة أولوياتهم الثقافية . وهناك عوامل أخرى كانت مفجعة في تاريخنا المعاصر وخصوصا في الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين ، عندما تبدلت السياسات العربية على أسس انقلابية مفاجئة وزاولت العسكريتاليا العربية دورها الغبي في كل المؤسسات المدنية واتخذت قرارات وطبقت مشروعات اغلبها كانت فاشلة برغم مسمياتها وبرغم كل ما أطلق عليها من شعارات التقدمية والثورية .. الخ وفي ابرز البلدان العربية المهمة .
2. خصوصيات الثقافة العربية : تفكيك المعاني المصطلحية والمباني الفلسفية
لابد أن يدرك كل مثقف عربي وكل كاتب ومتخصص ومفكر بأن مصطلح ” الثقافة ” بحاجة إلى تفكيك ومعالجة ، لأنه مصطلح غير مستدرك في مضامينه المتنوعة عربيا ، إذ نقف عند تعريف ” الثقافة ” في اغلب الانسكلوبيديات والمعاجم العالمية ، اتها أسلوب حياة أي شعب من الشعوب بكل ما يميزه من تقاليد واعراف وقيم وفولكلوريات مشتركة ـ كما قدمنا آنفا ـ . وعليه ، فان لكل مجتمع من مجتمعات الدنيا ثقافته التي لابد أن يدافع عنها باعتبارها هوية قومية له . ويواجه هذا ” التعريف ” مفهوم آخر لـ ” الثقافة ” التي تعرف في الأدبيات اللاتينية كونها أسلوب تربوي وفكري يميز بعض النخب في المجتمع ، بكل ما تتصف به تلك النخب المثقفة التي يمثلها المثقفون الحقيقيون في المجتمع .. وعليه ، إذا كان التعريف الأول للثقافة يعني إنها : أسلوب حياة للمجتمع ، فان التعريف الثاني لها إنها تعبير عن واقع مجتمع .. وان كلا من التعريفين لمصطلح “ الثقافة “ هما مستمدان من القاموس السوسيولوجي الغربي ، ليس بالنسبة للعرب حسب ، بل بالنسبة لكل مجتمعات العالم ، ومنها من خاضت ثورة ثقافية مثل الصين ، أو المظاهرات التي قام بها المثقفون في فرنسا أو حركات المثقفين في أمريكا اللاتينية ، أو معارضة المثقفين في الاتحاد السوفييتي سابقا وغيرها .
3. إشكاليات الرؤية والتفكير :
3/1 التصنيفات واشكاليات المثاقفة العربية :
ويبدو واضحا أن اغلب ثقافات شعوب العالم لها أطر تكاملية سواء في ما تختص به من أساليب حياة حتى لو تنوعت من منطقة إلى أخرى أو ما تتصف به أشكال تعبيرية معينة يتميز بها أي مجتمع من المجتمعات . ولقد مضى قرن كامل على المجتمع العربي من دون حدوث أي تطورات على مستوى التكامل الثقافي العربي لا في أساليب الحياة العربية ، ولا في أشكال التعبير عن واقع تلك الحياة ! لم تزل الرواسب التاريخية من الموروثات الصعبة تتحكم في أساليب الحياة الاجتماعية ، ولم تزل فسيفساء من الثقافات المحلية تعبر عن ذاتها بشكل متناقض ، ولم تزل عوامل التخلف مستحكمة في اغلب أصقاع الرقعة العربية ، ولم تزل حالات التصادم مستفحلة بين ثلاث بنى أساسية في المجتمع العربي : المدينة والريف والبادية .. وتتباين الثقافة المناطقية العربية تباينا جغرافيا كبيرا وبرغم انحسار بعضها ، إلا أنها لم تزل تعبر عن ذواتها خصوصا عندما تشجعها السلطات في الدولة تحت ذرائع مختلفة . فلا ننسى حالات التريف التي غزت مدنا عربية كاملة بعينها وبدأ التريف المتخلف يقضم ثقافة بعض أهم المدن العريقة التي كانت تمتاز بالخصب والتنوع والتمدن ، وكان من الممكن تطوير الأرياف وسكانها خصوصا وقد برز منها العديد من المبدعين الحقيقيين . من جانب آخر ، فان الترسبات الثقافية السالبة القديمة المتوارثة قد وقفت سدا منيعا ضد كل من محاولات التطور والتكامل ، فلا تكامل ثقافي من دون تطور في الآليات والبرامج ، ولا تطور من دون وعي وإدراك ثقافي متبادل عند العرب من اجل ردم التناقضات وتقليص الفجوات وتنشيط الموجبات ووأد السلبيات .. ربما كانت القواسم المشتركة في عموم الثقافة العربية تخص القيم وبعض العادات والتقاليد المتوارثة ، ولكن هناك ثمة ثقافات دفينة ومثاقفات مستهجنة متباينة منظورة وغير منظورة تعمل في الخفاء على تعبئة التناقضات وزيادة حدة الاختلافات في المجتمع العربي الكبير ، فهناك : الدينية والقبلية والعشائرية والاقلياتية والطائفية والعائلية والنخبوية والفئوية والبدوية والعرقية والطفيلية والمهمشة والأصولية والمتزمتة والانعزالية والمتريفة .. وهناك : الساحلية والنهرية والجبلية والسهلية والصحراوية والحدودية .. الخ
3/2 إشكاليات المعالجة :
هذه النزعات المميتة التي تفاقمت مخاطرها سياسيا وثقافيا مؤخرا كانت مخفية بشكل أو بآخر في اللاوعي الجمعي العربي وكان لابد من معالجتها من قبل برامج الحكومات العربية عبر منظومات وسياسات وتربويات وبرامج وقوانين داخلية وبالتنسيق مع جامعة الدول العربية باعتبار الأخيرة واحدة من ابرز وأقدم المنظمات العربية التي اعتنت بالشأن الثقافي العربي .. وكان على جامعة الدول العربية أن تهتم بالشأن الثقافي التكاملي بشكل اكبر من اهتمامها بالشأن السياسي التجزيئي ومشكلات هذا الأخير ومعضلاته المعقدة . وأنني أرى وبتواضع شديد انه حتى خطة مشروع الثقافة العربية الذي تبنتّه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ونشرته بأجزاء عدة قبل سنوات ، وصرفت عليه مبالغ مالية ضخمة ، لم يؤت ثماره ونتائجه المرجوة منه نظرا لاختناق دراساته وبحوثه وغرقها بالتنظيرات التي لم تنزل ـ مع الأسف ـ من أبراجها العاجية إلى ارض الواقع العربي وتعالجه لتقدم رؤية متكاملة وواضحة من اجل تطوير الثقافة العربية الحديثة . وعلينا أن نسأل اليوم : ما الذي فعلته تلك ” الخطة ” بالثقافة العربية وتطورها بعد مرور قرابة عقدين من الزمن الثمين على معالجتها ؟؟
ثمة مشكلة مزمنة يعاني منها العرب في جل مشروعاتهم التي لا تفضي إلى نتائج مثمرة ـ مع الأسف ـ كون ثقافتهم المعاصرة لم تعبر تعبيرا حقيقيا عن التقدم والتغيير من اجل معالجة كل الأبعاد في الحياة العربية ، وإن جلها الأعظم يبدو معبرا عن حالات التخلف والإحباط وشقاء الوعي وعبادة النصوص والمكررات والمألوفات والخطابيات والأغنيات والعاميات والإنشائيات القاتلة والكلام الفضفاض والاطنابات من المسهبات التي لا تنتهي إلى معان محددة وواضحة .. وبهذا ، فقد غابت جملة من المفاهيم والمناهج والتحليلات والمكاشفات والنقدات والترجمات والابتكارات والإبداعات !!!
3/3 من كان وراء ذلك كله ؟
أقول : إنها جملة من العوامل الارثية المعقدة ومن بقايا ما تركته التواريخ السكونية التي عاشها المجتمع والثقافة العربيين .. وكان من المؤمل أن تتطور الثقافة العربية وترقى نحو التكاملية بعد جيلي الاستنارة الفكرية والليبرالية السياسية في النصف الأول من القرن العشرين ، ولكن هذا لم يحدث لاحقا ، إذ ساهمت الأيديولوجيات وتناقضاتها في الخطاب العربي المعاصر وخصوصا تلك التي عاشت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين في إنزال الثقافة العربية من مكانتها العليا إلى حالات الابتذال تحت مسميات وشعارات مختلفة ، ثم دخلت في الثمانينيات والتسعينيات في جوف بئر مظلم لكي تعيش أسوأ حالاتها بمختلف عناصرها بغلبة من يناهضها وسيطرته على مرافق الإعلاميات والتربويات .. فتغدو الثقافة العربية اليوم في موقع الدفاع عن نفسها وهي تعاني من مأزق التأخر إزاء جيل متعطش لها ولكن من دون أي تطوير في ضوء ثورة حضارية ومعرفية ومعلوماتية عميقة الجذور في التاريخ الحديث ، وواسعة الامتداد والتجاذب في الجغرافية البشرية .
أن المشكلة بحد ذاتها إنما في تكمن الذهنية العربية التي كانت وما زالت تعتقد بأن العرب لهم ثقافتهم الموحدة التي لا تباينات فيها ، ولا تراجعات عن منطلقاتها ، ولا مكاشفات لعناصرها ، ولا نقدات لمرتكزاتها .. ناهيكم عن عدم ملاحقة تلك ” الذهنية ” لما جرى في المجتمع العربي من متغيرات واستفحال النزوعات الثقافية الانقسامية مؤخرا بفعل تأثير أحداث وظروف وتبدلات معقدة سياسية وإعلامية وتربوية .. وغابت المعالجات الحرة والجريئة العربية لمكامن الخلل والضعف والأخطاء ، وكان العلاج ولم يزل يكمن في توليد وعي جماعي عربي جديد يؤمن بالتطورات وبالتغير الثقافي من اجل استئصال كل الترسبات والعوائق والبقايا الموروثة السالبة وتحقيق نوع من التكامل الثقافي العربي شريطة أن تعمل الدول العربية ضمن برامج تربوية وإعلامية وثقافية اقرب إلى المشاركة منها إلى التباعد والانفصام . إننا نقف اليوم عند سياسات مختلفة وإعلاميات متباينة وتربويات متباعدة عند العرب ، وقد أنتجت فعلا مثاقفات متعددة ولكنها مضطربة وسالبة في اغلبها الأعم كما يتضح لنا ذلك من خلال الأدبيات والتعليمات والصحف ووسائل الإعلام في الخطاب العربي الراهن .. فهناك من يمجد سياسة القبيلة والآخر يضفي على مجتمعه صفة القداسة ، والثالث يشجع العشائرية ، والرابع يقوم كيانه على البنية الطائفية ، والخامس يسبح بالعرقية والتشنجات القومية ليل نهار ، والسادس يعد نفسه الأسمى وطنية ، والسابع يعزف على أوتار الدين وشكلياته ، والثامن يرى في نفسه العظمة التاريخية ، والتاسع يثقف أبناؤه على الانعزالية والتقوقع .. الخ
3 /4 حاجتنا لتنمية التفكير والقيم النقدية :
وهنا علينا أن نتساءل أيضا لكي نثير التفكير من اجل تنميته باتجاه نقد الأوضاع لمعالجتها عند العرب عند بدايات قرن جديد ، ومن اجل استفزاز الوعي الجمعي العربي بهدف التكامل والخروج من أزمة الرضى المقنع بالشعارات المألوفة التي تربت الأجيال السابقة عليها باسم الحفاظ على الهوية أو ما سمي بـ ” الأصالة ” .. أي بمعنى : مطالبتنا بالتحرر من مشروعات الانغلاق على الذات الإقليمية والقطرية والمحلية وحالات الانفصال التي نخشى على الأجيال العربية القادمة أن تبقى في دوامتها المسيسة والمؤدلجة القاتلة . أن التكامل الثقافي العربي لا يمكن تحقيقه إلا بعد أن يحدث تمفصل معرفي في الذهنية العربية بين الانفتاح والانغلاق ، وإلا بعد أن تحدث قطيعة تاريخية بين المواريث والبقايا السالبة وبين الرؤى والتحديثات والبرامج المستقبلية ..
إن أي مشروع عربي للتحضر من اجل بناء منظومة عربية في التكامل الثقافي العربي مستقبلا لا يمكنه أن يعالج إلا على أسس نقدية بحتة ومكاشفات تحليلية مقارنة لما هي عليه اليوم مجتزءات الثقافة العربية التي تحمل في أرحامها مثاقفات متضاربة لا نريد لها أن تكون خانقة لابنائنا من الجيل الجديد في عصر تتلاقح ثقافات العالم كله بعضها مع البعض الآخر .. وخصوصا ما يعيشه عرب اليوم من انقسامات حادة تعبر عنها وسائلهم وآلياتهم الإعلامية والتعبوية والتربوية حتى وصل الأمر لأن نسمع أن لكل بلد عربي مصطلحاته وادبياته السياسية والصحفية والثقافية الخاصة به ـ مع الأسف ـ ! والأخطر من كل هذا وذاك ما أطبق على العرب في العشرين سنة الأخيرة من حالات الترهل والشعبوية والانغلاق والتراجعية والاجترارية والنظرات الطوباوية ألما ورائية التي بدأت تغطي على كل القيم المشتركة الثقافية والمبدعة بتأثير آفات التراجعيين والمترهلين والمتخلفين والتواكليين والطفيليين والديماغوجيين والسلفيين .. الخ الذين اخذوا ينتشرون في كل مكان من البيئة العربية .. ويعدمون كل المواريث الموجبة ويكتمون أصوات من يجهر بالحداثة والنسبية والتقدم .. وفي زمن أخذت فيه تحولات العالم تسرع الخطى بشكل لا يمكن تصديقه أبدا في الإبداع واستحداث مديات ثقافية جديدة للحياة المكوننة !
4. أسئلة أخرى لابد من البحث عن أجوبة لها :
كم يقتل العرب بضخامتهم الديمغرافية الهائلة زمنهم الثمين ؟ وكم هناك من وعي جمعي بأهمية الزمن وحيويته في كل من التربية والتعليم والثقافة والإنتاج مهما كانت طبيعة ذلك المنتج ومهما كان مردود تلك المثاقفة ؟ وكم هي نسبة الثقافة الحية الدينامية العربية ( لا : الاستاتيكية ) التي ألفها المجتمع العربي وقواه الفاعلة بين الماضي والحاضر أولا ، وبين المحيط إلى الخليج ثانيا ؟ وكم هي نسبة تلك النخب المثقفة وعناصرها الفاعلة والمبدعة في الهيئة الاجتماعية العربية الواسعة ؟ وما تأثيرها ( أقصد : النخب ) من خلال المؤسسات العربية المتنوعة ؟ وكم هناك من مثقفين عرب واقعيين لهم رؤيتهم المنطقية والعملية البراغماتية للأمور إزاء مثقفين عرب طوباويين وخياليين حالمين لا يمكن مطلقا أن ينفكوا عن يوتوبياتهم المطلقة وتقاليدهم السياسية لا المنطقية وأيديولوجياتهم المستوردة والمستنسخة ؟ وهل هناك أي توازن قيمي في التفكير العربي المعاصر بين السياسات والأنظمة والقوانين والتعليمات التي تعيشها الدولة العربية ( أيا كانت ) وبين الأفكار والآراء والقيم والأعراف والتقاليد التي يثوى في أقبيتها المجتمع العربي ( أيا كان ) ؟
ونسأل أيضا : هل نجح العرب بعد قرابة مائة سنة من تأسيس دول وإنشاء مؤسسات وأجهزة وتعليم ومدارس ومعاهد وكليات وجامعات وحركة اقتصادات ومال وبنوك ومسارح وسينماوات ومتاحف وحدائق وإذاعات ومحطات تلفزيون ومعارض رسم وأزياء وقصور وفلل وشوارع وعمارات واسواق وكازينيوهات وفنادق ومنتديات وكافيتريات … الخ هل نجح العرب بعد كل هذا وذاك من العناية بالإنسان والمرأة والأطفال والشيخوخة والعيش الكريم وحقوق الورثة والأرامل والأيتام والمطلقات والسكن والخدمات والتثقيف وتشجيع روح الفريق والجماعات وسيادة القانون وضمان العمل وفرص رؤية العالم وإشباع الحاجات وتكافؤ الفرص ومجانية التعليم .. ثم تأتي بعد ذلك حرية التعبير والانتخاب والتشاور والاجتماع .. الخ وعلينا أن نتساءل أيضا : هل انفرد العرب في القرن العشرين في العالم بإنتاج نوع معين من المنتجات والمصنوعات المتميزة على غرار ما تميزت به شعوب أخرى كجزء من موروثها الثقافي ؟
ونسأل أيضا : هل تميز العرب بإبداع ثقافي متميز ومعين في العالم يمكن أن يشار إليه بالبنان في الثقافة الإنسانية المعاصرة ؟ ولابد أن نسأل : لماذا وصلت هجرة الأدمغة والعقول العربية إلى حد كبير نحو العالم المتقدم على امتداد خمسين سنة والحبل على الجرار ؟ وهل ثمة معالجات لمثل هذا المنحى الخطير الذي لا يمكن أن يقارن بغيرنا من الشعوب ؟ وهل من إجابة حقيقية وصادقة على تساؤل مريع وخطير على مستقبلنا العربي : لماذا ازدادت نسبة المهاجرين من المثقفين العرب إلى الغرب في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين ؟ ولابد أن نسأل أيضا : هل تكمن مشكلات الثقافة العربية المعاصرة ـ بما هو رائج اليوم ـ بأزمة الديمقراطية والحريات ومأزق الأنظمة السياسية التي عاشها العرب في القرن العشرين بمختلف أجيالهم .. أم أن مشكلاتها تكمن أصلا بطبيعة النظام الاجتماعي والثقافي العربي ومختلف تناقضاته الصعبة والمريرة ناهيكم عن رهبة سلطوياته التقليدية التي قمعت على امتداد نصف قرن جملة من نخب المثقفين العرب المستقلين باستثناء مثقفي السلطة التابعين ؟؟
كلها أسئلة بحاجة إلى بحث لها عن أجوبة حقيقية وصادقة وتطبيقية ومقارنة .. وعلى العرب جميعا تقبّل تلك ” الأجوبة ” مهما كانت درجتها من القوة وإظهار الحقائق وإيجاد البدائل بعيدا عن نغمة ما يشيعه البعض من الطوباويين المؤدلجين الراضين بما هو عليه الواقع تحت أقنعتهم المزيفة .. وبعيدا أيضا عن مصطلح غبي يتداولونه اليوم ويسمونه ” جلد الذات ” من اجل أن يبقوا الأمور على ما هي عليه والتراقص تنظيريا وإنشائيا وأيديولوجيا وحتى دينيا على تناقضاتها المريرة !
5. مستلزمات التكامل الثقافي العربي في إطار بحث أي مشروع حضاري للتحديث :
إن القوى الفاعلة والنخب المثقفة في البيئات العربية المتنوعة بحاجة ماسة اليوم وعند فاتحة القرن الحادي والعشرين إلى المزيد من الحيوية وتكافؤ الفرص والحريات العامة وإمكانات الحركة والتنقل والانفتاح وتأسيس العلاقات الجديدة والتربويات المتطورة والإعلاميات الذكية وتبادل الخبرات والمشاركة الجماعية والتفكير العملي البراغماتي.. وان من أهم عوامل تكاملها انشدادها للمناهج الجديدة والخطط المستحدثة والبرامج المعتمدة واللغة المشتركة .. وهي مستلزمات أساسية لا يمكن إهمالها أبدا أو تأجيل العمل بها ، بل لابد من السعي لتحديد أساليبها ومواصفاتها في الزمان والمكان المعينين مع قياس حجم التباينات في الانتماء الفكري والبيئة الإقليمية والمبادلات العولمية ودرجة الوعي والثقافة الموسوعية والمكاشفات النقدية والتحليلات العلمية والتنمية الاجتماعية والهوية الوطنية والقومية والدينية .. فضلا عن الإعلاميات النظيفة والتقنيات التربوية والخطط الدراسية البيداغوجية عالية المستوى سواء في المدارس أم المعاهد والجامعات .. وان يجري العمل ضمن آليات دينامية وتجريبية مستفيدة من تجارب العالم الثقافية المعاصرة . وهنا ، لا يمكن إهمال كل من مبدأ المعايشة والمشاركة الجماعية من اجل بناء الإطار التكاملي في كل المرافق الاجتماعية والمؤسسات المدنية والاعتناء بالدولة وملاحقة المتغيرات المفاجئة وتنمية الوعي من خلال تخصيب الأداء الثقافي على أيدي النخب كافة والاعتناء بالنخب المثقفة والمبدعة والمختصة واحترام مكانتها وتشجيع منتجها في أداء التغيير حتى ولو كانت مغتربة .. وصولا إلى رفع مكانة المجتمع العربي بالعناية بالمرأة والطفولة والشباب والشيوخ ..
أما الوسائل التقنية الحديثة ، فلابد من العناية بها ليس لما تقدمه من وظائف من دون التفكير فيها تفكيرا عميقا يؤمن بمكانتها في حياة العصر فضلا عن دورها الأساسي في الحياة الثقافية العربية ، ومنها : تأمين انتشار الحاسبات وشبكات الاتصال والمعلومات الإلكترونية والقنوات الفضائية وغيرها من المستحدثات الجديدة .. ناهيكم عن التجهيزات المدرسية والطبية والإعلامية والخدمية والترفيهية .. الخ وكلها وسائل لم ينتجها العرب لأنهم لم يتمكنوا بعد من صناعة وانتاج تقنياتها وهم بذلك ما زالوا يعتمدون على غيرهم من المجتمعات المتطورة تكنولوجيا وثقافيا .. لقد أتلفوا القرن العشرين بطوله وعرضه في تغييب أساليب خلق المنتجات والتشيؤات بسبب إضعافهم للتفكير والوعي بالآخر وانشغالهم بقضايا تنظيرية وإنشائية وأيديولوجية وادبية متنوعة لم تبعدهم عن طور المعاصرة حسب ، بل أخذت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين توجههم نحو إحياء الماضي بدل بناء المستقبل !
6. نقد ما آل إليه الحال العربي :
السؤال الآن : ماذا سبّب كل ذلك لدى الطموحين والمبدعين والمتطلعين والمثقفين العرب الحقيقيين ؟
1. ضمور جذوة الحماس والاندفاع والطموح نحو التقدم بعد أن غسلت أذهان نخب كاملة بعينها من خلال وسائل سياسية بالدرجة الأولى بلورتها أسباب دعائية وسلطوية واجتماعية وأيديولوجية .. وانعدام روح المنافسة بين الدول العربية من اجل التقدم ، مع عدم الاستفادة والتعلم من تجارب بعضها البعض الآخر في التمدن والتحديث والاعمار .
2. ضياع المؤسسات المدنية بعد اخفاقات بعضها على أيدي السلطويين العسكريين الذين اغتالوا رؤى المثقفين الأحرار وتحجيم نخبهم وخنق نقاباتهم وإماتة تطلعاتهم باستغلالهم أو ادلجتهم أو كتم أفواههم تحت ذرائع غبية شتى .. فخبا دور اعرق البلدان العربية التي كانت تعج بالمثقفين في حين تطورت نخب وجاليات مثقفة عربية جديدة في بلدان أخرى .
3. كارثة السياسات السريعة وصناعة القرارات الفردية والمرور بتجارب فاشلة في تسيير دفة كل من الدولة والمجتمع .. فانقلبت طبيعة المجتمع العربي بالضد رأسا على عقب مما اثر سلبا على نخب المثقفين العرب في بيئاتهم المدينية والجامعية والمؤسساتية بازدياد الهجرة من الريف إلى المدينة .. من دون أن تسير الأمور على طبيعتها بتطوير الأرياف والبوادي وتنوير ابنائها مما سبب مشكلات لا حصر لها في بيئات عربية معروفة بتخلف اريافها وبواديها تخلفا مريرا .
4. تقلص حجوم الطبقة الوسطى في المجتمع العربي واختناق الشرائح البورجوازية فيه والتي كانت قد قادت حركة الثقافة العربية وتطوير عناصرها وقضاياها على امتداد عقود القرن العشرين .. مما سبب انقلابات خفية وعلنية في الطبائع والمعاملات والعلاقات .. إذ يبدو المجتمع العربي اليوم منقلب على ثوابته الثقافية والاجتماعية التي ألفها في الحداثة والتغيير على حساب تضخم الطبقة الدنيا التي بدت تمثل الطفيلية الاجتماعية بأسوأ صورها نظرا لفقدانها أي وازع ثقافي باعتبارها حلقات ضعيفة ليس باستطاعتها أن تحتل دور النخب المثقفة مطلقا !
5. ازدياد الضغوطات الاجتماعية والسياسية على المثقفين الحقيقيين الذين عاشوا تجاربهم المريرة في القرن العشرين من شقاء الوعي عربيا من دون أي استعدادات من قبل الدولة والمجتمع لحمايتهم ، فكبر حجم هجرة العقول العربية إلى الخارج بشكل خطير .. ولم تقتصر الهجرة على أصحاب العقول فحسب ، بل وصل الأمر حتى بخريجي الجامعات من الشباب العربي يتشكل عنده طموح بالهجرة نحو الشمال !
6. ارفضاض أي علاقة تجسير عربية بين الحاكم والمثقف إذ كانت دوما في حالة خصام ( باستثناء مثقفي السلطة أو مثقفي المرحلة ومنهم من المثقفين الاقوياء ومنهم من انصاف المثقفين ) . أي : عدم تطوير أي عقد اجتماعي له تاريخيته القوية بين الطرفين على امتداد قرن كامل .. كان بامكانه أن يعمل على تكافؤ الفرص للمبدعين العرب الذين يقع عليهم العبء الأساسي في الارتقاء أولا والتكامل ثانيا .. بل حصل العكس ، إذ كانت العلاقة متقطعة ومتأزمة وفي بعض الأحيان عدائية بفقدان الممارسة الديمقراطية التي يعتبر التجسير في المبدأ والتطبيق أحد أبوابها العريضة خصوصا في ظل الفصل بين السلطات أولا وتدول السلطات ثانيا .




7. المتغيرات الثقافية وتحولات المجتمع العربي:
يعرف قاموس ويبستر الحديث مفهوم ” التحول ” بأنه : تغير كامل أو أساسي للتركيب والبناء . وانه في ضوء هذا التعريف –هذا الفرق بين عمليتي التغير والتحول- أضع ملاحظاتي النقدية على الموضوع:
7/1 طبيعة مفهوم التغير الثقافي:
دعونا نبدأ بمفهوم التغير: لا يوجد حاجة للتمعن طويلا بالتغير الثقافي أو غيره، في المجتمع العربي اليوم ذلك إن المظاهر كثيرة جدا، منذ بدء اليقظة “أو : النهضة” في بداية القرن التاسع عشر، ثم بدأت عمليات الاستنارة الفكرية ومشروعات في النهضوية العربية وخصوصا بعيد تأسيس الكيانات الوطنية في القرن العشرين .. وكان العالم العربي يخضع، بأشكال مختلفة وبمقاييس مختلفة لقوى ديناميكية سريعة التحولات، وذات نفوذ وتأثير من الحضارة الغربية الحديثة، وهذا ما شهدته بلدان ومجتمعات أخرى ومناطق وبيئات عاشت نفس التأثير –أيّا كان الزمن وأيّا كانت الظروف- إذ بدأت عملية تغير شاملة. ولقد كان هذا أحد الثوابت الأساسية لتاريخ العالم الحديث. وكان لابد أن يجد العرب أنفسهم وخصوصا عند فاتحة القرن الحادي والعشرين على درجة من القوة والوعي والمقدرة في الثقافة واستيعاب التحولات .. ولكن هذا لم يحدث ـ مع الأسف ـ بل حدث العكس ، إذ تراجع العرب كثيرا في تفكيرهم وثقافتهم وأساليب حياتهم ..
7/2 الملاحظات النقدية :
هناك خمس ملاحظات فقط يلزم وضعها هنا فيما يتعلق بالتغير الثقافي في المجتمع العربي – الملاحظات التي اعتقد أنها قابلة للتطبيق كذلك في مجتمعات أخرى مكافئة أو في نفس الظروف التاريخيةـ :
1- التغير الثقافي كان قد حصل بوسائل مباشرة أو بوتائر غير مباشرة، وهو العامل الأكثر أهمية ، إذ اثر انتشار التعليم فيه بشكل مباشر . كانت المؤسسات التعليمية ذات الأشكال والمستويات المختلفة قد انتشرت بسرعة عبر بيئات العالم العربي، وتنامى عدد الطلاب والخريجين بقفزات وطفرات كبرى . أما بالنسبة للعوامل غير المباشرة، فإنها كثيرة جدا لا تحصى .. حقا إن أي تغير سياسي أو اجتماعي أو أي تغير آخر له إفرازاته الثقافية كان لابد أن تؤثر على المواقف الذهنية، والتطورات الفنية، والقيمية الروحية الأخلاقية.
2- التغير الثقافي يظهر نفسه، ليس فقط في أجزاء محددة من العالم العربي أو في نطاق شرائح صغيرة من مجتمعه المتنوع، لكن كذلك بدرجات اقل في قطاعات تقليدية بعيدة ومنعزلة، أود ذكر مثالين فقط: الجامعة والآلة الحديثة حيثما وجدت- لقد وصلت إلى زوايا بعيدة في العالم العربي فان تأثيرها على المواقف والقيم والسلوك يتم غرسه ويستمر في النمو بشكل شامل ومكثف في السنوات القادمة. لكن الأكثر أهمية من ذلك، من وجهة نظر دراستنا، هي وسائل الإعلام الحديثة والتي تبنتها الحكومات بشكل متزايد، ولكنها استخدمت استخداما مقننا ، وبرغم ذلك ، أخذ تأثيرها ينافس الوسائل القديمة ويميتها شيئا فشيئا ، وغالبا يفوق تأثيرها المثالين السابقين.
3- إن القوة الأكثر نفوذا ومبادرة وسيطرة على المجتمع العربي المعاصر هي الدولة. بشكل مختلف عن طبيعة واتجاه التغير الثقافي، فان الدولة كانت هي العامل الأساسي منذ البداية، سواء في شكل الحاكم الإصلاحي مثل محمد علي باشا أو في شكل قوة المستعمر مثل بريطانيا، فرنسا أو إيطاليا. لكن لا شيء في الماضي يقارن، سواء في الشدة أو الشمول، بالعمل النشط الذي ينبغي حدوثه في المجتمع العربي المعاصر، والذي يطمح بإشاعة الرفاه العام لابنائه في هذه الأقطار التي تنبت شكلا أو آخر من الاشتراكية فان الأيديولوجيا السائدة قدمت زخما في هذا الاتجاه ولكنه عانى من اختناقات مريرة ! أما في الأقطار الأكثر تقليدية، فان طفرة الثروة النفطية قد قدمت وسائل اكثر عملية وخلقت الطلب القومي على مثل هذا التغير.
4- تناقض السياسات العربية في إدارة التغيير ونمذجته على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين .. وعلى المرء أن يقارن فقط قائمة أسماء وزارات حكومية عربية تواجدت في بداية الاستقلال مع قائمة مناظرة اليوم ليس فقط وزارات جديدة ومديريات مدركة للمخزونات الثقافية المباشرة وغير المباشرة –مثل تلك المرتبطة بالثقافة، المعلومات، الإرشاد، الشباب، التخطيط، والشؤون الاجتماعية- لكن الوزارات التقليدية مثل وزارات الزراعة، الأشغال العامة والاعمار ( وهي مهمة بصورة استثنائية من وجهة نظر بحثنا) وزارة التعليم، كاستجابة لنداءات التنمية الحديثة فنمت بسرعة ، ولكن عجت بالتناقضات في ما يخص الموارد، والانشطة والمخرجات.
5- غياب التفعيل الثقافي بعد الموافقة الجماعية على القرارات العربية .. وحتى نقصر أنفسنا على الثقافة بشكل خاص، فان اللقاء الأول “للوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية” والذي عقد في عمان في ديسمبر 1976 والذي شارك فيه مفوضون من (18) بلدا عربيا، أعطى الدليل – من خلال تقاريره، مداولاته، وقراراته كما لخصت في “إعلان عمان” 23 ديسمبر 1976- على الدور النشط بشكل تزايد الذي يقوم به الوزراء أو يخططون القيام به للمحافظة على الإرث القومي. وتشجيع الإنتاج الفني واللغوي، وإشاعة الثقافة ، ولكن هل يقارن تفعيل ذلك عربيا على امتداد ربع قرن مع ذاك الذي يتم تفعيله عربيا من قبل وزراء الداخلية العرب ؟؟ .
7/3 هل يقود التغير إلى تحول من أجل مواجهة التحديات ؟
دعونا نعود إلى الموضوع الأساسي: هل قادت عملية التغير هذه أو أنها تقود إلى تحول ثقافي بمعنى التغير الكامل؛ أو تغيير أساسي في التركيب والبناء؟ أخشى أن التغيرات الثقافية التي حدثت، بالرغم من عمقها وسرعتها النسبية، لم تؤد الآن إلى مثل هذا التحول، لذا يلزمنا –كما يلزم كل العرب وكل أولئك المهتمين بشكل إيجابي بمصيرهم- فحص العوامل التي أخرت أو أضعفت هذه العملية وكمحاولة استكشاف لوسائل وطرق يمكن بواسطتها التغلب على تلك ” العوامل ” أو على الأقل كبحها. لكن أولا، هناك سؤالين. هل عملية التحول الثقافي هذه مرغوبة ؟ اعتقد ـ متواضعا ـ أنها ستكون كذلك عاجلا أم آجلا بحكم ضرورة واحتياجات كل من الدولة والمجتمع العربيين اليوم، وفي عصر التغير المتسارع ضمن عمليات العولمة .. وإزاء مستقبل مواجهة تحديات خارجية وداخلية ضخمة، سوف لن تكون للعرب القدرة على المشاركة بإيجابية في الحياة المعاصرة والاستجابة السريعة لاستيعاب العولمة الثقافية إلا بإبداعية عربية تكاملية من اجل استجابتهم للتحديات الكبيرة . وهذا لن يحدث بدون اجتياز تحولات كلية يلعب فيها العنصر الثقافي دورا مهما إذا لم يكن أساسيا.
أصبحت هذه الحاجة ظاهرة لعدد من المحللين العرب الأذكياء ممن حاول فحص فشل العرب في مقاومتهم العسكرية النظامية أو الكفاحية النضالية وما شابه للصهيونية وإسرائيل ! إن العوامل الجوهرية التي حددت مسار هذا الصراع وانتجت نتائجه السيئة لم تكن سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو محلية أو دولية ولكن بشكل أساسي ثقافية بالمعنى العريض للكلمة. لقد غدا التحول الثقافي ضرورة جوهرية للعرب سواء على مستوى الوعي والإدراك المتبادل ، أو على مستوى التفكير الحر وتنمية آلياته ووسائله في مختلف التخصصات .
8. اجتهادات معيارية من اجل مشروع تحديثي عربي معاصر :
لكن –وهذا هو السؤال الثاني- ما الذي يمكن أن يدل عليه هذا التحول الثقافي من اجل التكامل العربي ؟ وما الذي ينبغي أن تطمح إليه، وان تحاول تجسيده؟ حتى تكون كاملة وأساسية في بناها، ينبغي أن تجتهد في تحقيق تكامل إيجابي لأربع قيم رئيسية موجبة لأحداث التغيير الثقافي من اجل بناء مشروع التحولات الحضارية لدى الأجيال الثلاثة القادمة في القرن الحادي والعشرين :
1. التأكيد على العقلانية العربية في المعنى العام للكلمة ، وهي الدافع الرئيسي للثقافة الحديثة وأداة حقيقية للتنمية ، التي بدونها لا يمكن لمجتمع حديث أن يأمل في التقدم أو حتى في الوجود .
2. إثراء إحساس صادق بالهوية ـ مهما كان نوعها ـ المتولدة على اكتشاف ودمج المساهمات المستمرة والإيجابية للتراث العربي الثقافي بإعلاء شأن إيجابياته ونقد كل سلبياته من اجل إثراء التفكير العربي الراهن .
3.نشر القيم الثقافية والفكرية الحديثة بين جماهير الناس.. تلك القيم الحديثة التي لا يمكن بدونها معرفة متغيرات العالم والانفتاح عليه والتعامل معه على أساس إقامة أي نوع من التوازن المتكافئ بين العرب والعولمة .
4. الحنين للمساهمة بإبداعية عربية لاغناء الحياة الإنسانية ككل ، وهذا لا يمكن تطويره عند الجيل العربي الجديد إلا بتربية الملكات والمواهب والاعتناء بالكفاءات وتقدير منتجاتها الإبداعية باستخدام الوسائل والأدوات المتطورة بيداغوجيا تربويا وتقنيا إعلاميا .
9. اشتراطان أساسيان :
إن التغيرات الثقافية التي حدثت في المجتمع العربي المعاصر ينبغي تقييمها بهذه المعايير الرباعية التامة المذكورة في أعلاه ، سواء كانت هذه التغيرات تمثل تقدما أم لا فانه ينبغي الحكم عليها بالاشتراطين التاليين :
(1) المدى الذي تساعد به في تطبيق هذا المعيار .
(2) والمعدل الذي تساعد به في تطبيق هذا المعيار.
إن المتطلب الأول يحتاج إلى رؤية واضحة وحكما سليما للتمييز بين ما هو تقدمي وتنموي وحداثوي وبرامجي وما هو غير ذلك بعيدا عما يجري اليوم عربيا مثلا في صفوف المدارس وقاعات الجامعات أو محطات الإذاعة المحلية وقنوات التلفزيون الفضائية . والثاني قرار حاسم، ومبادرة نشطة لتسريع عملية التحول من اجل التكامل في هذه المرحلة الزمنية المهمة التي تتوفر فيها كل الإمكانات المادية العربية وكل الوسائل العولمية والتكنولوجية المتاحة . إن التغير، ثقافي أو أي شيء آخر، ليس مثاليا في ذاته، بالرغم من أن بعض المجتمعات المعاصرة يبدو أنها أثارت الموضوع لهذا المستوى. انه فقط في القياس الذي تساهم به في إيجاد ومساعدة القيم الذي ذكرناها والتي يمكنها أن تعتبر نفسها قوة تؤسس وتقيم تقدما حقيقيا.
فيما يتعلق بالمتطلب الثاني، اعني به تسريع عملية التحول من اجل إحداث أي إرهاصات للتكامل الثقافي بين العرب ، دعنا نتذكر أن معظم الاختلافات الحادة بين المجتمعات اليوم هي اختلافاتهم في العصر التاريخي، بينما هم متساوون في العصر الطبيعي الذي هم فيه.
إن المجتمعات النامية لا يمكنها تحمل إضاعة الوقت بالتردد والاختلاف حول أمور اعتبرها ساذجة ، أو إضاعة العصر الطبيعي أو الزمني المتوفر لهم، بافتراض حاجتهم الملحة لإغلاق أو لتضييق الفجوة التي تفصلهم عن المجتمعات الأخرى والتي سبقتهم خلال مراحل عديدة من الزمن التاريخي مثلا الخبرة الاجتماعية والإنجازات الثقافية.
10. التحول الحضاري العربي : كشف للمعوقات ونقد للكوابح
لا أود إنكار –بسبب انه قد يكون غير حقيقي وغير عادل- الجهود القوية من قبل الحكومات العربية وشعوبها، خاصة منذ حصولها على الاستقلال لاثراء اتجاه “التنمية” بمعناها العام والنتائج المفيدة لهذه الجهود على المستوى الثقافي. إن الانتشار الواسع والسريع للتعليم على كل المستويات، والمخصصات المرتفعة في بعض البلدان العربية بشكل مطرد للتعليم في ميزانياتها، والمخرجات المتنامية للقوى البشرية المتعلمة والمدربة تشكل فقط أحد -إذا لم تكن الأكثر أهمية- مظاهر الجهود القوية هذه. وهناك مظهر آخر يتمثّل بالتشجيع الذي منح من خلال الجماعات الثقافية المتعددة والمنظمات داخل البنى الحكومية أو التي ترعاها الحكومة وتمولها (مثل: مجامع اللغة العربية والأكاديميات العلمية والإنسانية واللغوية والمؤسسات الثقافية ). إن كل أشكال النشاط الثقافي العربي يمكن للمرء أن يرسم قائمة طويلة من الإنجازات الثقافية التي تستحق الاعتراف وتوحي بالأمل والثقة في أجيال المستقبل ، علما بأن هناك ثمة سلبيات لا حصر لها ، منها تباطؤها الزمني عن ملاحقة ما جرى في العالم في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين ، وضعف مستويات بعض عناصرها في الأداء ، وتكريس الثقافة التجزيئية لا التكاملية وضعف المناهج التربوية في المدارس والتعليمية في الجامعات، وقلة أعداد المبدعين العرب مقارنة بازدياد وتضخم أعدادهم السكانية .. ناهيكم عما تعانيه بعض الأقطار من استفحال الرشوة وانعدام تكافؤ الفرص والمحسوبيات والمنسوبيات والتحزبات وتغليب العلاقات الشخصية على الصالح العام .. الخ
لكنني اعتقد انه يمكن أن يكون الأمر اكثر فائدة –خاصة -عندما ننظر إلى المستقبل ، وليس في بالنا إلا أن نركز على المعوقات التي تقف في طريق هذه العملية من التحولات والتي تجنح نحو التباطؤ أو حتى تعاكس اتجاهنا، وهكذا تضعف إمكانياتها وتفسد إنجازاتها الإيجابية.
تنشأ هذه المعوقات بشكل كبير من الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام للمجتمع العربي، ولابد من الاعتراف بهذه الحقيقة، من اجل الحصول على فهم متوازن للإنجازات والحفاظ عليها ، فضلا عن معرفة المحددات والناتج الممكن للجهود العربية تجاه التحول الثقافي، وان الفراغ المحدود لا يتيح اكثر من تعداد لهذه العوامل السلبية أو الكابحة. أملي أن ما يتبع سيحفز نقاشا نقديا ويشكل الخطوة الأولى نحو معالجة اكثر استيعابا لهذا الموضوع الأكثر حساسية وخطورة :
1- توجد محددات داخلية لعملية التحول الثقافي ، وبالطبع من الممكن تسريعها، أو اختصارها واختزالها ، ولكن ضمن المناخ الفكري والاجتماعي والسياسي العربي الراهن ليست العملية متاحة دائما، أو عندما تكون متاحة فإنها تحتوي على محددات خاصة بها بين بلد وآخر ، وغالبا ما تشمل أخطار ومخاطرات لا تحصى ! اذ يمكن للمرء أن يسرع – مثلا – بعملية بناء مصنع أو جسر من خلال تخصيص أموال طائلة أو أعداد اكبر من العمال أو بواسطة استخدام خبراء أجانب، لكن لا يمكن للمرء التسريع بطريقة مشابهة لتسريع الزراعة بواسطة عقل متعلم أو تسريع الاستعداد بواسطة متخصص ذو تدريب عالي. إن عامل الزمن هنا مهم جدا، خاصة بالنسبة لتطور الشروط والاستيعاب الثقافي الإنساني اللاتكنولوجي، كما أن الاهتمام بالفرق بين النطاق الزمني القصير للنهضة العربية الحديثة، ومشروعاتها المعاصرة في القرن العشرين خاصة منذ الاستقلال، وذلك الذي تطورت وتشكلت فيه الثقافة العربية الحديثة يقدم نماذج متضاربة للشوق أو الإحباط أو الشقاء الذي يشعر به معظمنا كعرب عن البطء النسبي للعملية، ولتشويه جهود العرب بواسطة عدم التعاطف أو العداء.
2- المخاطر التي تعرض لها العرب وفي مقدمتها الخطر الصهيوني الإسرائيلي وانشغالهم بدفع ضريبة الدم مع تخصيص حصص كبرى بشكل حاد من مواردهم (خاصة في الدول غير المنتجة للنفط) من اجل بناء قواتها الدفاعية وما يترتب على المجتمع من دفع ضرائب مالية وصحية ونفسية .. ناهيكم عما احرقه العرب من موارد على حروب داخلية واقليمية وحدودية وانقسامية واهلية ومؤامراتية ومخابراتية وانقلابات عسكرية .. الخ وهكذا كان لدى العرب أموال محددة للتنمية في جوانبها المتعددة ومن ضمنها الثقافة ، ولكنها بددت من دون وازع عقلاني ابدا !! ان هذه ليست طريقة للحياة على الإطلاق بأي معنى من المعاني، تحت سحب المخاطر والتهديد بالحرب والدمار ، وبقيت القضية المركزية في الصراع العربي ـ الصهيوني ” معلقة على صليب من الحديد …” على امتداد نصف قرن من الزمن الصعب ، صنعت شعوب أخرى خلالها نفسها من لا شيء ، فغدت الأكثر ثراء والأكثر تقدما من الناحية التكنولوجية في العالم . إن الأجيال القادمة ستتحسس المشهد العربي بكل ألم وحسرة وستدرك التأثير الهائل لظاهرة امتصاص الدماء هذه على جميع جوانب التنمية العربية، وستدرك بأن العرب قد ضيعوا فرصا ذهبية في كيفية صناعة الأحداث التاريخية وادارة الصراع ضد الصهيونية واستخدام الموارد الرأسمالية والبشرية من اجل التنمية الاجتماعية والنهضة الثقافية.
3- في نطاق مجال التنمية الثقافية كذلك هناك ثمة منافسات على الموارد المالية للبلدان العربية مع الحاجات الأخرى للتحديث والتي التزمت بها الحكومات العربية: بناء الإدارات الحكومية، تولي مشروعات ضخمة في عملية إعادة البناء الاقتصادي التخفيف من الفقر والجوع والمرض وإشاعة العدالة الاجتماعية وسيادة القانون .على الرغم من إن المرء يمكنه أن يتمنى أن تكون الحكومات اكثر استجابة لحاجات النهضة والإغناء الثقافي بذاته، فان على المرء أن لا ينسى أن اهتمامهم الرئيسي كان لابد أن يوّجه نحو حاجات الجماهير واستثمار الزمن بإخصاب الإنتاج وتقديس ساعات العمل وان أية تنمية اقتصادية أو اجتماعية في النهاية سوف تنعكس بذاتها في تقدم ثقافي. إن ما نراه من تطورات مذهلة في واحد من البلدان العربية المعاصرة وقد أصبح قبلة لكل العرب ، إذ نجح باختزال الزمن فيه لم يكن المال وحده وراء تحولاته السريعة ، بقدر تبلور عوامل أخرى قوية ساهمت في نهضته القوية ، منها : حكمة سياساته وكوزموبوليتانية موانئه وانفتاحه على العالم وإشباع حاجات سكانه وفاعلية مؤسساته وسيادة القانون فيه وتضامنيات مجتمعه التي تحولت من المواريث القبلية الى النزعات الوطنية الحديثة .. الخ فحبذا لو غدت تجربته مثلا رائعا يحتذى للعرب عند فاتحة القرن الجديد .
4- لقد غلّب العرب السياسة على الاقتصاد والأيديولوجيا على المعرفة والمواريث على الثقافة المعاصرة .. إن مجرد حدوث تغير في الأذهان لدى الجيل القادم ، سيقود من دون شك إلى ثورة في التوقعات والتي يمكنها أن تلتهب في العالم العربي كما هي في مناطق نامية أخرى، حتى في ظل الأيديولوجيات الكاسحة التي تجبر عليها بشكل أو آخر، فتضغط على السلطات الحكومية لتلبية حاجات الناس في نطاق التعليم والصحة والثقافة والخدمات .. ، وسيظهر ذلك في نمو كمي مؤثر، لكن هذا النمو سوف لن يترافق سريعا وكاملا في أرجاء العالم العربي كله ، بل ستبقى بيئات عربية مدينية قابلة للنضج بحكم تجاربها النهضوية مع تعزيز معاصرتها لكل ما يقابل بالجودة .. في حين ستبقى بيئات عربية أخرى متأخرة جدا بحكم ما يتمكن فيها من عوامل التأخر والضعف والتخلف !
5- حقا، هناك من المفكرين العرب العديدين ممن يهتمون بأساليب هذه التنمية ( والثقافية بالذات ) ، سواء كمراقبين أو مشاركين، وانهم يلاحظون فسادا في الجودة ويحذرون من عواقبها الخطرة، سواء في التعليم، طبق البعض من المعايير السابقة، وسواء في المخرجات الأدبية “العامية” وهي تتجاوز الإبداع الأصيل نظرا لان الإنجازات الثقافية تقاس كثيرا بارتفاع القمم المدعومة بقاعدة عريضة وعميقة، ونظرا لانه لا توجد أمة تأمل اليوم بالعيش والحياة من دون أن تتميز بين الآخرين أو حتى أن تحافظ على التفوق والإبداع والتمدن .. وعليه ، ينبغي الإسراع بأن يوقظ التفكير لدى أبنائها عموما والعمل لكي تساهم المحاولات الحازمة بكل الأمور التي تقلق بها الأمة.
6- توجد عوامل أخرى تساهم كذلك في هذا التأخر سواء تبلورت من خلال الانشداد والعزف على نغمة التأصيل أو الشعور الدائم بالتهديد الدائم للمخاطر الخارجية والسعي الحثيث للتنمية الداخلية بشكل مركزي وغير شامل ، وخصوصا عندما يتم الاهتمام بالعواصم المركزية وترك الأطراف والتوابع غارقة في تخلفها ، بالإضافة إلى الأيديولوجيات الراديكالية والحزبية والثورية والتي ترافقت معها وتفاعلت بها، إذ تظهر أمام الأنظمة السلطوية والتي تدعي الديمقراطية باسم الشعب ولكنها في الواقع تكره النقد والرأي الآخر كراهية عمياء ! في حين أن مثل هذه الأنظمة تتمتع باستخدام كبير وامتيازي لوسائل الاتصال والتعليم، فان مجال حرية التعبير للأفراد والجماعات خارج الزمر الحاكمة مقيد بشكل خطير . هكذا، فالإبداع الثقافي الأصيل قد صودرت واحدة من شروطه الأساسية ، وبالتالي أضعفت واستنزفت الطاقات الكامنة للمبدعين والمنتجين العرب الحقيقيين .
7- سبب آخر لهذا الاستنزاف الكبير، والهبوط النسبي للمجتمع العربي ككل، إنما يتمثل باستنزاف المواهب العربية سواء الكامنة أو المصقولة باتجاه الدول المتقدمة، ويلمس جميعنا الأثر المدمر لهذا الاستنزاف، ليس فقط على العالم العربي، ولكن على المجتمعات النامية كذلك . وتحاول بعض الحكومات العربية إحباط هذه النزعة، إذ أقرت تشريعات تقدم فرصا مغرية لاغراء المواهب الوطنية والمواهب الأخرى العربية في العودة إلى الوطن. لكن هذه الجهود والجهود الأخرى لا زالت بعيدة جدا عن إيقاف هذا الدمار المتنامي، بسبب عدم الأمن والحرية المقيدة ( أو : المعدومة ) في أرض الوطن والفرص المغرية التي لا زالت موجودة في الخارج.
8- معوق آخر للتقدم الثقافي في المعنى المقيد للكلمة هو التشديد على المفهوم الشائع حاليا للتنمية الاقتصادية والتكنولوجية والعملية، هذا التشديد ينقل البحث العلمي النظري والمتابعات الإنسانية إلى تراتب أدنى في سلم الأولويات، من بين الضغوطات لمواجهة المشكلات الراهنة، إذ تظهر هذه الاهتمامات كشيء ترفي يمكن الاستغناء عنه أو تأجيله، وهذه هي إحدى الإشارات العديدة لعدم التوازن إذ يقع في قوائم التخصصات التي تقدم لها الحكومات العربية منحا دراسية في الخارج. وفي كل مجال تلوح التطبيقية والتكنولوجية بالسيطرة على النظرية وتحكم السلطة والأيديولوجية في تقييم الشأن العام وعلى ما اصطلح عليه تقليديا تحت شعارات ابتذلت كثيرا في الأوساط العربية على امتداد عقود من الزمن، ومنها : ” ابن الإقطاع ” و ” البورجوازي ” و ” الرجعي ” .. الخ إزاء شعارات من نوع آخر ، مثل : ” ابن الشعب ” و ” التقدمي ” و ” الاشتراكي ” و ” الثوري ” .. الخ
9- إن قائمة المعوقات هذه قد تكون ناقصة إذا لم تتضمن مشكلة اللغة في جوانبها العديدة، يستحق اثنان منها اهتماما خاصا، ذلك أن الزخم القومي الذي عم المجتمع العربي حمل معه منذ البداية نشاط التعريب في معنى حماية، وصقل وإشاعة اللغة العربية، الرباط الأكثر بروزا على الوحدة بين قسمات المجتمع العربي في كل من المشرق والمغرب العربيين . إن عملية تعريب التعليم في المستويات الأساسية والثانوية وفي العديد من فروع المستويات العليا ، مع ضعف واضح في التلقي والاعتماد والترجمات الفجة عن اللغات الأساسية في العالم قد أخرت العملية الضرورية لمحاكاة الثقافة العالمية والمعرفة الحديثة، والتي من ابرز وسائلها : اللغات الغربية المسيطرة وبالتالي عملت تلك العمليات المتخلخلة كعامل مؤخر أو مستنزف آخر!
10- لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الذي يمكن أن تلعبه لغة قومية ما –خاصة لغة ثرية وصقيلة وعميقة كالعربية- في تشكيل الهوية القومية، والحفاظ على الإرث الثقافي، واعادة المساهمة المميزة في الثقافة الإنسانية، لكن لا ينبغي على أحد أن ينكر أن جميع هذه الحاجات تتطلب أن تكون ذات قدرة استيعابية لتقديمها للمجتمع العالمي اليوم وللمشاركة في صراعاتها وإنجازاتها، ولهذا فان البراعة في لغة المعرفة والثقافة السائدة في العالم هي أمر ملح بالنسبة للجيل العربي القادم من اجل أن يكون اكثر تفاعلا مع الحضارة العالمية والثقافات الجديدة .
إن الجانب الآخر لمشكلة اللغة هو انه بالرغم من التركيز الشديد لاهتمام العالم العربي على اللغة العربية، فان الكفاءة فيها لم تتحسن، هذا إذا لم تتراجع في السنوات الأخيرة ! ولا يمكننا تناول الأسباب المعقدة لهذا المأزق اللغوي، لكن يمكننا الاقتصار على اللغة المبسطة نفسها وتعليمها. و يظهر انه لا أمل في استحداث أساليب للتغيير والتطوير ، ذلك لأن التحولات – إن كان هناك ثمة تحولات – لم تقم على أسس تحديثية ومبرمجة ومدروسة .. أو قانون جديد يلزم الجيل الجديد بتطبيق كافة بنوده في هذه المجالات الخاصة باللغة العربية لتصبح مصدرا للهوية الحية والتكامل الثقافي بين العرب أجمعين ، فضلا عن كونها وسيلة براغماتية عملية نحو بناء ثقافة ومعرفة عربية متقدمة كما كانت في عهود الإبداع العربي إبان زهرة الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى.
ثالثا : المخرجات :آراء واقتراحات واستنتاجات
1. أسس التنمية والتحديث من اجل التكامل الثقافي العربي إزاء المستقبل :
هل يمكن للمعوقات السابقة في طريق عملية التحول الثقافي كما قد صورناها آنفا أن تزول ؟ أو هل يمكن لتأثيراتها السالبة المؤخرة أو الموهنة أن تتعادل ؟ يعتقد أن الثقافة لا يمكن إنتاجها أو تنميتها بشكل مباشر، بدلا من ذلك، فإنها تنشأ كنتيجة طبيعية لعوامل أخرى سياسية اقتصادية أو اجتماعية .. لكن في هذه المرحلة، عندما يتم تقدم تنمية مخططة وشاملة وينصح بها كهدف أساسي لكل المجتمعات أو بشكل خاص للنامية منها، وعندما تحصل الحكومات على سيطرة اكبر على الموارد البشرية والمالية لبلدانها، فإنها تنشأ توقعات جمة وطموحات عريضة ، ولكنها سرعان ما تتبخر وسط لجة من الأخطاء والسلبيات وعدم التخطيط والتنظيم . إن الثقافة مثل الجوانب الأخرى من الحياة الاجتماعية، يمكن وينبغي أن تكون جزءا من التنمية الحديثة برمتها . وهكذا تستمر التنمية الثقافية كجزء من هدف عام ينبغي أن يخطط لها ، ثم يستوجب أن تدرك وتتابع إجرائيا بشكل واع كجزء حيوي من المشروع الحضاري العربي .. وهذا ما لم يحصل مع الأسف ! وتلح المنظمات الدولية مثل اليونسكو وبعض مؤسساتها على الحكومات العربية أو غيرها من دول العالم النامي لصياغة “سياسات ثقافية” ناجحة وعملية وواقعية تهدف إلى الحصول على “التنمية الثقافية” الحقيقية. ولكن ؟
لكن لا توجد معايير واضحة لمثل هذه التنمية قد تم وضعها نظريا ، أو أجريت تطبيقات مهما كان نوعها عمليا لحد الآن . ومن نافل القول بأن هذه أو تلك ليست مهمة سهلة أبدا ، حتى ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين . الآن ، هناك الكثير من الثقافة بطبيعتها غير ملموسة ولا يمكن الوصول إليها بالمقاييس الكمية، حتى في واقع التنمية الاقتصادية، فان قياس (رود) الذي استخدم بشكل عام، وبالتحديد الناتج القومي الإجمالي (GUP) هو الآن موضع تساؤل على نطاق واسع. زيادة على ذلك، إذا كان على التنمية أن تشمل تغيرا بشكل إجباري، فان نتائجها في واقع الثقافة –واقع العقل والروح- هي اكثر جدية منها في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية بشكل واضح، في واقع الثقافة كما في كل مكان، لكن فيه بشكل خاص، فان توازنا صحيحا ينبغي البحث عنه بثقة شاملة بين عمل القوى التطورية والتخطيط، والتوجيه والرقابة الصارمة. وعليه ، ينبغي للسياسات الثقافية العربية أن تهدف إلى إعطاء زخما معتبرا إلى الديناميات الثقافية والإبداعية من خلال إزالة المعوقات من طريقها بدلا من فرض نماذج مسبقة وقنوات صارمة .
في ضوء هذه الفكرة المرشدة ينبغي على الحكومات العربية أن تناضل ببراعة وذكاء لصياغة وتطبيق سياسات ثقافية عملية وواقعية ومتنوعة ، وبشكل طبيعي، فان شرح محتويات تفصيلية لمثل هذه السياسات لا يمكن القيام بها في حدود هذه ” الدراسة ” .. فعلا أن مثل هذا الشرح يتجاوز استيعاب أي فرد وينبغي أن يهتم به فريق –أو فرق ( = طواقم عمل )- من العاملين أو يكون موضع بحث أو نقاش أو تقييم أو نقد مستمر. هكذا، فقط قلة من الأسس الرئيسية والتي ينبغي أن تحتم هذه المحاولة يمكن ذكرها هنا:
1- إن جهدا حثيثا وبصيرا، ومنسقا ونقديا ينبغي توجيهه إلى الإرث العربي الكلاسيكي مع نظرة إلى اكتشاف و”إحياء” بعض عناصره الصالحة عالميا ووثيقة الصلة بذلك. هذا “الأحياء” لا ينبغي تصوره كما جرى بين الأفراد والجماعات المتعلمة، كبحث مساعد للأدب أو المصادر (=الأصول) الأخرى من هذا الإرث، ومساعد على صيانتها، ومساعد على نشرها بشكل غني بالمعرفة. وتعد هذه المهمات ضرورية بالتأكيد ولكنها تمثل البداية، وليس نهاية “إحياء” حقيقي، إن النهاية هي فحص نقدي شامل لمحتويات هذه المصادر، في ضوء حاجات العرب للحاضر والمستقبل لتحقيق التأليف السعيد ولكن الصعب تأسيس التوازن بين الأصولية والتجديد والتي ستغني الثقافة العربية الجديدة بالتميز والعالمية . وهنا ينبغي على العرب أن يحترموا تراثهم الزاهر بدل تقديسه ، وان يتفهموا انه سوف لن يكون بديلا عن المعاصرة أو توفيقيا لها !
2- إلى جانب هذا الاهتمام بالتراث ينبغي أن يكون هناك رفض للانغلاق عليه واعتباره أسّا لكل المتغيرات العربية ، فإذا كان زاهرا في أزمان معينة، فإنه سوف لا يكون وافيا دوما لكل الأزمان .. وبدلا من “الانغلاق القلق ” ينبغي أن يبحث العرب عن “الانفتاح المغامر” على المستقبل تماما، والاقتراب اكثر فاكثر من الثقافات الإنسانية الأخرى في الشرق والغرب ، وان تحقيق مثل هذا الانفتاح المغامر بالضبط كان العرب المسلمون القدامى قد بنوا الحضارة العربية الكلاسيكية باهى صورها الإبداعية، وبالضبط بهذا الأسلوب يمكن للعرب المعاصرين أن يؤمنوا بشكل حقيقي بتراثهم التاريخي الذي يزدحم بأشكال الانفتاح ومظاهر المغامرة والاستكشاف .
3- ينبغي أن يهتم العرب كثيرا بإبداعية نوعية وبتميز حقيقي للنوعية العربية المنتجة والمبهرة بدل اهتمامهم بالانتشار الكمي، وان تؤسس العدالة على قواعد من تكافؤ الفرص بحيث يحتل كل عربي متحضر موقعه الحقيقي في مجتمعه ليملأه .. وهذا لا يأتي إلا من خلال فرز أبناء الجيل الجديد على أساس تخصصاتهم ، وأن تشرّع لوائح فقه عربي جديد يضمن الحقوق والواجبات والحاجات المشروعة للجماهير .. وهي مسألة أساسية لا يمكن ولا ينبغي أن يتم تجاهلها، فان إمكانيات الإنجازات الثقافية الإبداعية يجب كذلك أن تتلقى حصتها الوافية من الاهتمام والتشجيع. إن آمال العرب ينبغي أن تتجاوز مجرد محاكاة ونشر الثقافة والمعرفة المتوفرة ببغاويا ، إلى مشاركة أصيلة نشطة وفاعلة ومنتجة في تقدمهم، وهي أجدى طريقة يمكن للعرب أن يكونوا بها من الورثة الحقيقيين لماضيهم وفي نفس الوقت مشاركين في بناء حاضر ومستقبل الإنسانية.
4- ينبغي تحقيق تنسيق اكثر فعالية للجهود الثقافية للحكومات والمنظمات العربية، لكي نتجنب إضاعة الوقت في متابعة نفس المهمات ولتشجيع التبادل والمنفعة المتبادلة، ولقد أجريت محاولات مشكورة في هذا الاتجاه من قبل الجامعة العربية وبجهود لجنتها الثقافية السابقة والوريث الحالي لتلك اللجنة (الاليكسو) (=المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) من خلال اجتماعات منتظمة لوزراء التعليم والتخطيط وتكريس اجتماعات منتظمة للأنشطة الثقافية وكذلك من خلال ترشيق وتهذيب وتعميق البرامج وعقد المؤتمرات والندوات الناضجة والمنتجة بواسطة الجمعيات والمجالس الثقافية. لكن العديد من الاحتمالات الإضافية، مع هذه الخطوط والخطوط الأخرى، تبقى مفتوحة وينبغي أن تتابع بشكل مباشر.
5- بشكل خاص، دعونا نلاحظ فرصة تخصيص بعض مدخولات الثروة النفطية العربية لأغراض محددة من تشجيع للأنشطة الثقافية العربية عبر بيئات العالم العربي. إن أهمية تأسيس صندوق عربي للتنمية الثقافية قد أشير إليه من قبل مؤتمر الوزراء المسؤولين عن النشاطات الثقافية في عام 1976 ، وكانت هناك فرصة ضخمة للاستثمار في تنمية الإمكانية الثقافية والرأسمال البشري للعرب ، ولكن لم يتحقق أي شيء ـ مع الأسف ـ حتى يومنا هذا خصوصا في تفاعلات ما حدث بعد عام 1979 والمتغيرات التراجعية التي قادت الاهتمامات والانشغالات والتوجهات نحو الماضي بدلا عن المستقبل ، ناهيكم عن تأثير مأزق الحروب الأهلية والداخلية والإقليمية المفجعة التي نكب العرب بها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ! وعليه ، وفي نطاق هذا السياق ، فان ما اسمي بـ “التعاون العربي “، لابد من التشديد عليه بصيغة التنسيق اكثر من الوحدة والتكامل بديلا عن الاندماج . إن الشعار الذي يروج له أحيانا “الوحدة الثقافية العربية” اصبح فارغا وعقيما عندما قصد بالوحدة “التماثل” إن ما ينبغي البحث عنه هو التعزيز والإثراء الكلي من خلال التفاعل بين عناصر متنوعة لكنها مترابطة بشكل تبادلي .. ذلك أن اكثر من نصف قرن على الاستقلالات الوطنية العربية قد ساعد على تبلور تباينات لابد أن يعترف بها بين أي دولة عربية وأخرى .
6- إن ما يجمع هذه الأسس أو يحكمها هو المبدأ الأساسي في المشروع الحضاري العربي لاستقلالية الثقافة العربية أو بروزها. إن الثقافة لا يمكنها أن تزدهر أو أن تبقى إذا اعتبرت أنها ضيعة للأيدلوجيات السياسية أو أداة أي نظام سلطوي حاكم ، إنها خلاصة للإنجاز المبدع للعقل البشري والروح البشرية وتميز المجتمع ، ويعلم الجميع بأن لا حياة لأي مشروع حضاري عربي مستقبلي من دون فاعلية حقيقية للنخب المثقفة في كل من الدولة والمجتمع . وعليه ، فان الثقافة هي غاية بحد ذاتها، ربما غاية بالنسبة للتجارب الاجتماعية العربية المتنوعة ، اما اعتبارها كوسيلة لأمر تضمره سلطات أو قوى معينة فلابد أن تقوم بانتهاك قدسيتها والقضاء على ضرورتها ، وهذا ما يحصل – مع مزيد الأسف – !!
هذه الأسس

شاهد أيضاً

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا يسرّنا جدا دعوتكم الى الحضور والمشاركة في الاجتماع التأسيسي …