الرئيسية / الشأن العراقي / غابة نخل أم مزرعة بصل ؟

غابة نخل أم مزرعة بصل ؟

قالت العرب قديماً “الحمق داء لا دواء له، والجهل موت الأحياء”، ولا أجد أي تبرير لفشل مؤتمر القمّة العربي الذي انعقد في بغداد بين 27-29 مارس الماضي، إلا عمليّة استعراضيّة ميتة لا معنى لها أبداً. لقد وصف المؤتمر بالنجاح من قبل الحكوميين العراقيين، ولا أدري أين نجاحه؟ فقد كان تمثيليّة عربية فاشلة، شغل بها العراق ورقصت معه جامعة الدول العربية. بل ولا تكفي صفة الفشل عنواناً له، ليس بسبب غياب معظم الرؤساء العرب، بل سيفشل حتّى بمشاركة الجميع بسبب أوضاع العراق الصعبة، من منطقته الخضراء إلى مرابعه الحمراء..
لقد أصدر مؤتمر بغداد بياناً هزيلًا، عّبر تعبيراً حقيقياً عن تردّي المؤتمر.. من دون أيّة قرارات! كان المسؤولون العراقيون يصّرون إصراراً غريباً على عقد المؤتمر في بغداد لتأهيل العراق عربيّاً، بعد أن شهدنا طبيعة العلاقات العدائية بين الطرفين، سياسة وإعلاماً وعلاقات، وما أعلنه العراقيون في خطاباتهم وتصريحاتهم وسياساتهم وتناقضات مواقفهم وأولويات تخندقاتهم.. ونسوا ما كتب في الدستور العراقي عام 2005. هنا نسأل: بضمائركم، هل يعقل صرف مليار وربع المليار دولار من واردات العراقيين على مؤتمر هزيل كهذا؟ أليس أهل العراق بحاجة ماسّة إلى هكذا مبالغ، والعراق يعيش مخاضاً صعباً من انعدام الخدمات وانهيار البنية التحتيّة؟ لماذا عطلّتم الحياة في العراق على مدى أسبوع كامل، فلا مدارس ولا جامعات ولا مؤسسات ولا دوائر ولا حياة عامة.. بسبب المؤتمر؟ لماذا جعلتم بغداد على مدى شهر كامل، أشبه بثكنة عسكريّة عانى فيها السكّان من جرّاء التشديدات الأمنية التي مارستها السلطة؟!
لقد كان اندفاع المسؤولين العراقيين متهوّراً لعقد مؤتمر القمّة في بغداد، وكان رهانهم على انعقاده، أنه سيعيد العراق إلى أسرته العربيّة، ولم يدركوا أبداً طبيعة النظام العربي، بل ولم يعرفوا شيئاً عن تاريخ مؤتمرات القمّة منذ أكثر من ستين عاماً، فضلًا عن الجهالة السياسية بطبيعة المؤتمرات في التاريخ.. مع قصور في التفكير، إذ كانوا وما زالوا يعتقدون أن النجاحات تشترى بالمال، وأن نفراً من موظفي الجامعة العربيّة يمكنه أن يخدمهم، وهو يسخر منهم سخرية يستحقونها، إذ يدركون أن مؤتمراً كهذا لا نفع فيه أبداً، فهو أشبه بمزرعة بصل. لقد شغلتم الدنيا وتركتم مشكلات البلاد وراءكم من أجل هذه المزرعة، وصرفتم الأموال والمنح بلا وجع قلب، وما أطلقتموه من شعارات واهية وإشغال الناس بتوافه الأمور، بل وأتعبتم الناس على مدى شهرين كاملين، وشغلتم أنفسكم عن قضايا أساسية، من أجل مؤتمر هزيل مضى وكأن لم يحدث شيئاً، لا في المواقف ولا العلاقات. فهل تغيرّت صورة العراق في الذهنيّة العربيّة؟ وهل تغّيرت صورة العرب في الذهنيّة العراقية؟ هل تعلّمتم شيئاً من هذا “الدرس” المضني؟ وأحسب أن من جاء إلى السلطة قبل قرابة عشر سنوات، لا يمكن اعتباره جزءاً من ثوّار الربيع العربي، كما أن علاقات العراق مع منظومته العربيّة، كانت ولم تزل على أسوأ ما يكون، جراء عوامل معقدّة جداً في الصميم.

إن انحساراً كهذا في تاريخ العراق إزاء منظومته العربّية، لا يمكن أن يعالجه “مؤتمر قمّة” ينعقد لبضع ساعات، في ظلّ أجواء الخوف وانعدام الثقة وانعدام الأمن.. هكذا مسألة لا يمكن أن تعالجها خطب وكلمات مهما كانت بليغة، أو حتّى طويلة ومملة. لقد ظهر للعالم مرّة أخرى مدى العجز السياسي المرير، وما ضيعّه من زمن كان العراق أحوج ما يكون إليه، وأهدرت أموال .. العراقيون أحوج ما يكونون إليها.. لقد أخذ العراق في طريق محفوف بالمشكلات والمخاطر، ولم تحقّق القمّة نتائج كالتي شغلنا بها الإعلام الحكومي، وما زال فرقاء السياسة العراقيون عاجزين أو متقاعسين عن عقد مؤتمر وطني، يمكنهم من خلاله حلّ مشكلاتهم التي لا أول لها ولا آخر! العراقيون ينتظرون حلولًا، والسياسيون يغرّدون خارج الأسراب.. العراق في أمسّ الحاجة اليوم إلى وحدته الوطنية، وأنتم تبحثون عن رئاسة للقمّة العربيّة التي لم يحضرها إلا ممثلوّن أو مندوبون.. ألا يكفي ذلك كي تعرفوا حجم المأزق الذي أنتم فيه، ليس بين العرب فقط ولكن بين الأمم؟!
وهل كان العراقيون أو غيرهم لا يعرفون حقائق العراق على الأرض، حتى تقدم إلى المؤتمرين صورة كاذبة براقة عن العراق؟ لماذا استخدام مثل هذه “اللغة” أمام مثل هؤلاء المؤتمرين؟ هل يقتنع العراقي أو العربي بما يسمع، وهو يرى حالة التفسخ السياسي الذي آل إليه العراق؟ بل ويرى الانهيار القيمي بين القادة العراقيين أنفسهم، بتوجيه أقسى التهم وتبادل أرذل الشتائم، ليس في إطار الديمقراطية، بل في محنة انتهاك الدستور الذي صنعتموه لمقاساتكم؟ هل يمكن لهكذا قمّة ملتبسة أن تعقد في بغداد ومنطقتنا تمرّ بتاريخ صعب جداً؟ لقد تضّمن إعلان بغداد الذي صدر في ختام القمّة عواطف المؤتمرين إزاء المواطن العربي، إذ تشير الفقرة الخامسة إلى أن القمّة ” تتبنى رؤية شاملة للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بما يضمن صون كرامة المواطن العربي وتعزيز حقوقه”.. ولكن ما الذي سمعناه بعد انتهاء المؤتمر بثلاثة أيام فقط في بغداد عن سوريا؟
إن المؤتمر لم تكن له مصداقية، بل إن عثراته قد زادت من هشاشة العراق، الذي لم يعترف قادته بفشلهم في مهمّتهم الحقيقيّة، وهي أن يلتفتوا إلى شؤون العراق بدل هذه المسرحيّة الاستعراضيّة المكشوفة، وكأن رئاسة المؤتمر ستغّير العراق في ليلة وضحاها!إنّ العراق لا يمكن أن يكسب ثقة العالم به، عرباً أم غير عرب، إلّا من خلال وحدته الوطنية واستقلاليته وتماسك بنيانه وتطوّر أوضاعه نحو الأفضل، وأن يعيد تشكيل نفسه من جديد، ليغدو غابة نخل بعد أن بقي طويلاً مزرعة بصل!
نشرت في البيان الاماراتية ، 10 ابريل / نيسان 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …