الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / التاريخ المرئي لعهد الملك فيصل الثاني 1953 – 1958

التاريخ المرئي لعهد الملك فيصل الثاني 1953 – 1958

الحلقة (1)
رؤية نقدية بخطوط عريضة



لماذا هذا النقد ؟

عندما تسلمت عدة مناشدات من قراء واصدقاء ومهتمين عراقيين ، كي اكتب شيئا عن مسلسل تلفزيوني اسمه ” آخر الملوك ” عرض على شاشة قناة الشرقية الفضائية خلال شهر رمضان الماضي ، لم اكن قد سمعت به ، أو شاهدته ، كون هذه القناة لم تصلني الى كندا .. وقد استجبت لتلك المناشدات بالتفرغ لمتابعة حلقات ” المسلسل المذكور ” الذي وجدته مخزّنا على اليوتيب .. وبالرغم من ضيق وقتي ، الا انني آليت ، بعد أن مضيت في مشاهدة حلقات هذا المسلسل ، أن اكتب دراسة نقدية عنه ، واعالجه في باب النقد التاريخي الذي نحن بأمس الحاجة اليه اليوم ، ونحن نعيش في خضم فوضى فكرية تجتاح حياتنا ، وخصوصا ، نحن العراقيين . ويبدو أننا استسهلنا كل المجالات لنزيد من حطامنا من دون اية اعتبارات علمية وفنية ولا اجتماعية حقيقية ، ولا أي احترام لتاريخنا القريب وموتانا جميعا ، مهما كانت أروماتهم واتجاهاتهم ومعتقداتهم السياسية التي آمنوا بها .
إن هذا ” المسلسل ” يأتي ، كما يأتي غيره ، ليقع في خضم هذه الفوضى العارمة التي نحن بأمسّ الحاجة جميعا الى العقل والحذاقة والنقد في معالجتها معالجات هادئة ، بعيدا عن اي توجهات سياسية ، او قناعات ايديولوجية ، او سذاجات اجتماعية .. وصدّ كل ما يحصل من تشوهات وتزويرات وأخطاء لا تستوي ومنطق العقل ، ولا حقائق التاريخ .

تجربة فاشلة لم يستفد منها أحد !
اكتب هذا اليوم ، وانا لست ضد قناة الشرقية الفضائية التي صرفت أموالها هباء على هذا المسلسل ، ولا ضد صاحبها الأخ سعد البزاز ، ولست ضد مؤلفه او مخرجه او منتجه او مستشاره التاريخي .. ولا حتى ضد الذين أدوا الادوار فيه من أخوة ممثلين مبدعين ( بعضهم من الأصدقاء ) ، وفنيين محترفين وكومبارس وعاملين .. بل يدفعني الحرص على ان نكتب او نعيد الرؤية لتاريخ عراقي قريب جدا على افضل وجه .. وان لم تنجح محاولاتنا ، فان السكوت افضل لنا ، كي نترك المهمة لاجيال قادمة . اكتب هذا ، بعد ان صرفت الساعات الطوال على مشاهدة عمل فني عراقي ، واكتب عنه بلا أي جزاء ولا أي شكر ، ولا اطلب أي ممنونية من أحد .. أكتب وأنا مقتنع تماما بأن المسؤولين والمشاركين في هذا العمل سوف لا يلتفتون الى ما اقول ، او ما يقوله غيري ، ولكن سيهتم بما أقوله كل الذين كانوا يترقبون عملا ناضجا ، ولكن خاب أملهم ! إن تجربتي وملاحظاتي في كتابتي ضد المسلسل الذي سبقه في العام الماضي وعنوانه ( الباشا نوري السعيد ) لم يأخذ أي أحد بها ويا للاسف الشديد ، بل جرى الدفاع عن الأخطاء من دون أي اعتذار ، بل ونصّبوا من أنفسهم فقهاء في تاريخ العراق .
إنني واثق أن المسؤولين عن هذا ” المسلسل ” المسمّى ” آخر الملوك ” لم يأخذوا بآراء المستشار التاريخي ، وهو الصديق الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف الذي عرف بدقته وموضوعيته .. ويبدو انه قد حدث له نفس ما حدث لي عندما كنت مستشارا لمسلسل ( الباشا ) ، فكنت أن أعلنت براءة ذمتي من ذلك العمل لاحقا بعد عرضه ، وانكشاف أسباب حالت دون تقديمه بالشكل اللائق ، كما جاء في تبريرات المسؤولين عنه وقت ذاك . لقد كتب في نقد مسلسل ” آخر الملوك ” عدد من الكتّاب والمتابعين الأجلاء ، فقد قرأت ما كتبه الأخ الأستاذ جاسم المطير في عدة حلقات وعالج الموضوع سياسيا ، وكتب الأستاذ طارق الخزاعي مقالا نقديا ، وعالجه من باب فني وسياسي أيضا .. ولا ادري إن كان غيرهما قد نشر أي نقد عن المسلسل ، دعوني أعالج الموضوع تاريخيا ، متمنيا على طاقم مشروع هذا ” المسلسل ” أن يأخذوا بما سأقوله على محمل الجد ، فليست لي أية أجندة سياسية معارضة ، بل أن غايتي علمية صرفة ، وهي تلّح من اجل تقويم الأخطاء ، كي نقدّم صورة سليمة للأحداث والأشخاص بعيدا عن إطلاق الاحكام السريعة ، ناهيكم عن هدف آخر بأن يبقى تاريخ العراق نظيفا ، وبعيدا عن كل تزوير وتشويه كما نشهد ذلك اليوم في خضم الفوضى الفكرية والسياسية العارمة التي يخوضها كل العراقيين .

من الباشا نوري السعيد الى الملك فيصل الثاني
نعم ، اعتقد أن قناة الشرقية الفضائية ، لم تستفد ابدا من تجربتها السابقة في العام الماضي عندما عرضت مسلسل ( الباشا ) ، ولم تنظر ابدا الى ما كتبه العديد من النقاد والمتابعين من ملاحظات نقدية واضحة ، وآراء وافكار وتصويبات فاضحة ، فعاودت تجربتها ثانية وبمسلسل آخر ، ولكن كان عنوانه هذا العام ( آخر الملوك ) ، وهو يحكي التاريخ المرئي التلفزيوني لعهد الملك فيصل الثاني في العراق 1953- 1958 . وهنا أسأل قناة الشرقية وبالذات صاحبها الأخ سعد البزاز ، وهو ممّول المشروع : ما الذي يمنع قناة الشرقية من عدم الاستئناس بآراء الذين لهم خبراتهم ومعلوماتهم ومعايشاتهم وشواهدهم ؟ ما الذي يمنعها من استمزاج آراء من تبقى من اناس عراقيين قدماء شهدوا ذلك العهد ، والذي دام خمس سنوات وثلاثة أشهر من خمسينيات القرن العشرين ؟ واذا كانت الشرقية في العام الماضي قد بررت اخطاءها بالاستعجال ، والظروف الصعبة والضيقة ، والأسباب السياسية .. فما هو تبريرها اليوم ، وهي تقدم تاريخا مرئيا مشوها تابعته الالاف المؤلفة من الناس على شاشة التلفزيون ؟ لماذا تصّر الشرقية على أن ما تقدمه هنا هو الصحيح ، وتضرب عرض الحائط كل الذين ينصحونها ، ليس لكي تقنعنا بكل ما تفعله ، بل لكي لا تقدم للاجيال الجديدة تاريخا مشوها عن عهد اختلف فيه السياسيون والإعلاميون ، ولكن اتفق حول تقييمه العلماء والمؤرخون ؟ وهل تعتقد ان من الشجاعة بمكان تقديم عدة شخصيات عراقية راحلة بطريقة مشوهة ، وأنها لا تطعن عن قصد وسبق اصرار باهم ما يعتز به الأبناء والاحفاد ؟ اذا كان فيصل الثاني لم يجد اليوم من يدافع عنه وعن أسرار بيته ، فان من حق أبناء العديد من الشخصيات العراقية التي ظهرت في المسلسل اليوم مقاضاة الشرقية على سوء ما قدمته بصدد آبائهم وامهاتهم واجدادهم ، كما اعلمني بذلك احد ابناء اولئك الناس !

طبيعة عهد فيصل الثاني
يعتبر عهد الملك فيصل الثاني 1953- 1958 من اهم ما مر بالعراق من عهود في القرن العشرين ، اذ شهد حراكا سياسيا وفكريا واجتماعيا .. وفيه احتدم الصراع الى اوجه بين الشرق والغرب ، وفيه نضجت افكار العراقيين ، والنخب ، والبورجوازية الوطنية ، والحركات التقدمية .. ناهيكم عما قدمه العراقيون من ابداعات على المستوى التشكيلي والادبي والفني والعلمي .. وفيه يبلغ الصراع اشده في الدواخل العراقية طبقيا وفكريا وأيديولوجيا.. وخلال ذلك العهد يبلغ فيه الحراك القومي اشده من خلال صعود نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، ومن خلاله تبلغ الحرب الباردة العربية اوج ذروتها بين مصر والعراق ، وتتحقق الوحدة المصرية السورية لتقابل مباشرة بالاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن عام 1958.. إننا أمام مرحلة تاريخية صعبة جدا ، فمن يطمح أو يريد المجازفة بمعالجتها علميا وفنيا من خلال مشروع تاريخ مرئي تلفزيوني ، فان عليه ان يكون دقيقا ومحايدا وموضوعيا ومستقلا .. ان هذا المسلسل اراد ان يضفي المديح لفيصل وعهده ، ولكنه فشل فشلا ذريعا ، لأنه شوّه الحقائق ، وقدم كل المرحلة وشخصياتها ومناخها العام ، بأسلوب ساذج لا يمكن ان يقبله خصوم ذلك العهد ، فكيف يكون مقبولا من قبل المؤيدين له .. ونحن ندرك ان العراقيين كانوا وما زالوا لهم انقسامات شديدة في رأيهم بتقييم ذلك العهد . نعم ، ونحن بعد مرور أكثر من خمسين سنة ، نشهد انقساما حادا بين مؤيدين له وبين خصوم ضده . صحيح ان التاريخ لا يمكن تمثيله على وجه مطابق تماما ، ولكن ما يؤلم حقا ، أن تفهم الأجيال الجديدة التي لم تقرأ تلك المرحلة قراءة متمعنة وتفصيلية ، بأن ما قدمه المسلسل هو الحقيقة بذاتها .. وهذا غبن كبير يلحقه العراقيون بتاريخهم عن قصد ، بل وجرم كبير أن يجد كل العراقيين تاريخهم القريب مزيفا ، وهم يتابعونه في بيوتهم وغرف نومهم .

ذوو العلاقة الاولى
أثناء متابعتي ومشاهدتي لحلقات هذا العمل ، قمت بالاتصال بعدد كبير من الاصدقاء ، وخصوصا من ذوي العلاقة بتلك الشخصيات التي ظهرت في ” المسلسل ” ، لاستطلع رأيهم ، او استجلي مواقفهم ، او استفسر عن معلومات خاصة منهم .. فوجدتهم كلهم يغالبهم الاستياء الشديد ، وبعضهم عزف عن اكمال مشاهدة المسلسل لرفضه هذا التشويه ، وهذه السذاجة ، وهذا التصنّع . نعم ، لقد اتصلت بكل من الأصدقاء الفضلاء والفضليات : السيدة تمارا الداغستاني ، والأستاذ عطا عبد الوهاب ، والأستاذ يقظان كامل الجادرجي، والأستاذ عماد عبد الوهاب مرجان ، والأستاذ عصام صالح صائب الجبوري ، والأستاذ موفق عبد الرحمن التكريتي ، والسيدة سلوى جمال تحسين علي ، والسيدة ميادة العسكري ، والسيدة اميمة محمد صديق شنشل ، والأستاذة زكية حقي وغيرهم ممن لا يود ذكر اسمه . ويجمع كلهم على صحة كل الآراء التي أعلنها للملأ الآن . وكم كنت اتمنى على المؤلف الاخ فلاح شاكر ان يتصل بعدد كبير من ابناء تلك المرحلة ، أو بمن له صلة بها ، كي يسترشد بمعلوماتهم وافكارهم وهم كثر .. هل تمّ الاتصال بالدكتور فالح حنظل الذي كتب كتابا عن نهاية قصر الرحاب ، وانه كان ضابطا في الحرس الملكي إبان عهد فيصل الثاني وكان شاهدا ؟ هل تم الاتصال بالسيدة تمارا غازي الداغستاني التي تعتبر من اقرب المقربين للمرحوم فيصل وعائلته ؟ هل تم الاتصال بالشريف علي بن الحسين ووالدته الأميرة بديعة التي تقطن في لندن ، وهما من اقرب المقربين ؟ هل تم الاتصال بعوائل معينة تمتلك الرؤية الكاملة عن تاريخ تلك المرحلة ؟ هل تم استمزاج رأي بعض المؤرخين العراقيين الذين كتبوا عن تلك المرحلة كتابات اكاديمية ومذكرات سياسية ؟
انني اذ اكتب عن هذا ” العمل ” التلفزيوني الذي يعرض عهد الملك فيصل الثاني ، فانني اعالجه من منطق مؤرخ عراقي مستقل لا يتعاطف مع اي عهد ، ولا يدافع عن اي اشخاص ، ولا ينطلق من محاباة اية جهة او حزب او جماعة .. لن ادافع عن عهد ملكي ، ولا أهاجم أي عهد جمهوري .. لم اكن ملكيا اكثر من الملك ، ولم اكن شيوعيا ، ولا بعثيا ، ولا قوميا ، ولا إسلاميا .. انني انسان حر يمتلك رؤية معينة لتاريخ العراق والمجتمع العراقي يدركها جميع من يتابع اعمالي وكتاباتي ، وليس لي إلا محاولات متواضعة لمقاربة الحقيقة .. وما يهمني قبل كل هذا وذاك العراق ماضيا وحاضرا من اجل عرض أية مقاربة تخدم مستقبله والاجيال القادمة .

المشكلة الحقيقية
ان المشكلة الحقيقية التي يعاني منها العراقيون اليوم ، ويفصلهم عن ذاك العهد اكثر من نصف قرن ، الاختلاف الكبير بين الذي كان عليه العراقيون عهد ذاك ، وبين ما آل اليه وضعهم وتفكيرهم اليوم .. بين مناخ سياسي وفكري واجتماعي كان عليه آباؤهم ، وبين الذي آل إليه الحال هذه الايام على أيدي الأبناء .. إن التباين الذي يحكم مرحلتين باختلاف ثقافتين اجتماعيتين ، ومناخين سياسيين ، وذهنيتين متباعدتين .. تباين واضح ومتباعد بين مجتمعين اثنين : أولاهما كانت تسوده العلاقات القديمة والمتوارثة وقد ترسخت فيه قيم الأسر المتنفذة والأعيان والطبقات القديمة في المدن ، والمحددات التي تعرفها كل طبقة في المجتمع وقت ذاك . وثانيهما ، غدت تسوده العلاقات المتنافرة والفوضوية والطفيلية ، مع انهيار منظومة القيم القديمة بايجابياتها وسلبياتها . لقد تغّيرت حتى اللغة المحكية التي كانت تسود في كل مدينة عراقية ، وخصوصا العاصمة بغداد .. لنشهد اختلافا مضحكا حتى في مخارج الحروف لدى الناس الجدد ، وهم يؤدون أدوارا لأناس لم تكن لغتها المحكية هكذا أبدا !
إن أزمة ” المسلسل” تقع تحت وطأة هذه ” المشكلة ” التي قلما يستوعبها مؤلف مسلسل ، او مخرج له ، أو منتج شاشة، أو ممثل دور .. ولعل تمثيل ادوار مرحلة وشخصياتها ونخبتها وطبقيتها واحزابها وافكارها .. وخصوصا إذا استقطبها ” ملك ” يقف على رأس الجميع .. وهي من أصعب ما يكون على ايدي اناس لم يدركوا طبيعة المناخ العام الذي كان يسود ، فكيف بالتفاصيل الدقيقة التي كانت عليها الاوضاع ؟! كيف يمكن لاناس ان يقدموا ادوارهم عن مرحلة تاريخية عمرها خمس سنوات من حياة العراق ابان اواسط القرن العشرين ، وهم لا يجيدوا ما كان يسود من تفكير سياسي ، أو مناخ فكري ، أو حتى اللغة المستخدمة ؟ وهل انحصرت كل الحياة العراقية بقصر ملكي يقبع فيه اشخاص ما كانوا يعيشون كما عرضه المسلسل ابدا هكذا بكل شخصياتهم ؟ لماذا ضيّع موضوع الملك فيصل الثاني بسذاجات وتفاهات ليس فقط انها لم يكن لها اي وجود ، بل لأنها اساءت الى تاريخ معين ..
إن التاريخ المعين الذي يرمز له بعهد فيصل الثاني ، لم يكن ملكا له ومفوضّا باسمه في الطابو ـ رحمه الله ـ بقدر ما كان للشعب العراقي عهد ذاك ؟ لماذا شوّهت اللغة المستخدمة تشويها كاملا ؟ لماذا وقع المسلسل باخطاء لا تغتفر من النواحي التاريخية والفنية ؟ ان الاخ المؤلف لا اعتراض عليه كونه يمتلك موهبة فنية وحبكة روائية ، ولكنه عجز منذ مسلسله الاول عن الباشا نوري السعيد ، وزاد من تعاسة الموقف في مسلسله اليوم عن الملك فيصل الثاني ، كونه لا يمتلك اي رؤية تاريخية عن تلك المرحلة أولا ، وان ثقافته التاريخية محدودة ، بل تكاد تكون منعدمة .. فلا يمكن ان يصلح ابدا للتاريخ الروائي او التاريخ المرئي .. وأتمنى عليه أن لا يبقى يعاند ويكابر ويدافع عن أخطاء ارتكبها ، وجعل الآخرين في عربته يدوسون على تاريخ العراق بهذه الطريقة ! إنني واثق بأن الأمر لا يعني أحدا اليوم ، ما داموا يعتقدون أن الفيلم أو المسلسل ضرب ضربته ، أو هكذا يتوهمون ، وسيقومون بالتحضير لمسلسل آخر في العام القادم ، وستبقى قناة الشرقية تمضي في مثل هذا الطريق من دون ان تقول كلمة وفاء لمن يخدمها علميا ، وان من يخدمها علميا لا يطالبها بأي مقابل !

انتهت الحلقة الاولى وتليها الحلقة الثانية
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 4 اكتوبر 2010
www.sayyaraljamil.com


الحلقة (2)
الاعتراضات الأساسية على (آخر الملوك)




دعوني احدد بعض الاعتراضات الأساسية قبل ان أدلي بالتفاصيل .. فماذا نجد ؟

اولا : المجتمع العراقي بين زمنين
لا عتب أبدا على الأخوة الممثلين والممثلات ، فهم جميعا قد اختيروا لأداء ادوار أساسية ، أو ثانوية ، ولكن كل العتب ينصّب على مؤلف العمل ومخرجه ومنتجه الذين سمحوا بأداء وتمثيل شخصيات ، هي بعيدة كل البعد عن أشكال وأساليب وأفعال وأقوال أولئك الذين عاشوا قبل أكثر من خمسين سنة .. وقد وجدت ابتعادا كبيرا بين الحقيقة والتمثيل .. بين شخصيات عاشت ضمن اعتبارات معينة وممثلين لها لا يمثلونها أبدا .. لقد كان توزيع الأدوار سيئا للغاية ليس بسبب مشكلة المخرج ، بل لأن النص أصلا قد اخطأ في تقديم الأدوار ، سواء كانت هزيلة ، أو منكفئة ، أو رديئة ، أو غريبة .. الخ إنها مشكلة التبدلات التي أصابت المجتمع العراقي في أدق تفاصيله .. إن ما كان يتصرف به الناس من الآباء والأمهات في مجتمعنا العراقي قبل خمسين سنة من اليوم ، لم يعد موجودا في عرف أبناء اليوم ، ومما زاد في الطين بلة ، أن من قام بكتابة العمل وتنفيذه لم يعيا طبيعة العلاقات بين الناس عهد ذاك ، بل ولم يعيا قيم الماضي القريب ، فكيف بهم يدركون طبيعة العلاقات بين الأعيان والطبقة العليا في المجتمع ؟ وعليه ، فلقد انعكست سمات الحاضر اليوم بكل رداءتها على الماضي ، وشوه الماضي . لقد وجدنا ذلك في الملبس واللغة المستخدمة في المحادثة والمخاطبات والرؤية للأمور والأساليب الاجتماعية العليا التي كانت متوارثة لدى العوائل الكبيرة وقد انتهت اليوم .. الخ

ثانيا : اللغة المحكية بين زمنين
ليس هينا أن تصوّر حياة عهد سياسي عمره خمس سنوات ، وقد مضى عليه أكثر من خمسين سنة بمثل ما جرى في هذا ” المسلسل ” الذي عكس تاريخا مشوّها جدا لحياة العراقيين . إن اللغة التي استخدمت في المسلسل مشوهة تماما ، ليس فقط من ناحيتها الفيلولوجية اللفظية ، ولكن من النواحي الاجتماعية والشخصية والسياسية .. العراقيون مثلا يلفظون كلمة ( الباشا ) بالباء المعجمة ” التي تحتها ثلاث نقاط ، وكأنهم يلفظون حرف P في الانكليزية ، فهم ليسوا كالمصريين يلفظونها بالباء العربية .. فما الذي وجدناه في هذا المسلسل ؟ كل ممثل يلفظها بطريقته ، من هو قديم يلفظها عراقيا ، ومن هو شاب يلفظها مصريا ، فكانت مضحكة للغاية ! وعكس ذلك ما جرى لكلمة ( باش أعيان ) التي يلفظها العراقيون بالباء العربية ، ولكن المسلسل جعلها بالباء المعجمة !
لقد استخدم المؤلف ألفاظا ليست في محلها أبدا ، بل وادخل من عنده عدة ألفاظ جلفية ، لم تكن تستخدم أبدا في المحادثة بين الناس وقت ذاك ، فكيف يستخدمها الأعيان ؟ بل وكيف بها تستخدم بين أعضاء العائلة المالكة . لا يمكن أبدا أن تخاطب الأميرة عابدية صديقتها بكلمة ( ولج ) ! ولا يمكن أبدا أن نجد مصطلحات مصرية وكلمات جديدة مثل ( المشوار ) و( نتناقش ) و ( تحليلات ) في لهجة أيام زمان العراقية ! إن الفرق كبير بين ملك ( بكسر اللام ) وبين ملك ( بفتح اللام ) ، فيقال ملك ( بالفتح ) الموت وليس ( بالكسر ) ! وكما وقع المؤلف في مشكلات مثل هذه في مسلسل نوري السعيد في العام الماضي ، فقد أوقع نفسه في المشاكل ذاتها ، ولا ادري لماذا يصرّ على أن يكون هو نفسه مالكا للحقيقة وغيره لا يدركها ؟ العراقيون لا يسمون الكهوة المرة ، بكهوة سادة ، كما طلبها نوري السعيد في المسلسل ، ويبدو أن المؤلف قد تأثر بالأخوة السوريين أو المصريين ، لكي يطلب نوري باشا القهوة السادة ! أو كما جاء على لسان زوجة المسواقجي قولها ” اكل بكلبي حلاوة ” ! أو ما جاء على لسان الأمير عبد الاله : ” فاض بيّ ومليت ” ! ما هذه العبارات غير العراقية التي اسقطها المؤلف على تاريخنا ؟
صحيح ان العائلة المالكة العراقية كانت تتكلم بالعراقي ، وخصوصا فيصل الثاني الذي اشتهر بلكنته البغدادية الصرفة ، ولكن بقية أعضاء عائلته كانوا يتكلمون بلهجة عراقية مضطربة تشوبها النكهة الحجازية .. والحجازية ليست كالتي أداها الشريف حسين زوج الأميرة بديعة في المسلسل ، فهذه التي أداها خلطة بدوية وأردنية وخليجية لا تمت لها بأي صلة للحجازية ، فلهجة أهل الحجاز أيام زمان لا هي بلهجة أهل حائل ، ولا بأهل نجد ، ولا بأهل الإحساء ولا بأهل الأردن ولا العراق . فهل أدرك المؤلف والمخرج ، كم تجنّوا في نصهم ومسلسلهم على أصحابه ؟ وإذا كان احمد مختار بابان يتكلم البغدادية بتثاقل ، فان سعيد قزاز كان يتكلم العراقية باللهجة الكردية ، أما السيد محمد الصدر فلغته نجفية مفخمّة .. ولا اريد ان اصف هزال كلام بقية الشخصيات في المسلسل . لقد اخطأ المسلسل بحق كل شخصية من شخصياته .. فما كانت هكذا هي اللغة المحكية وقت ذاك ! إن اللغة الملكية داخل القصر أو خارجه ، لم تكن سوقية ، بل كانت على اشد ما يكون من التهذيب . ليس صحيحا أبدا أن تخاطب مديحة الداغستاني صديقتها الأميرة عابدية بقولها ” لج عيني عابدية .. ” ! هذه اللغة لم تكن موجودة في القصر الملكي !

ثالثا : غياب الاهم والمهم معا
صحيح أن المسلسل يتحدث عن عهد فيصل الثاني لخمس سنوات ، ولكن هناك مأخذ أساسي عليه . انه يتكون من ثلاثين حلقة ، ولكن صاحبنا المؤلف قضى أكثر من عشرين حلقة وهو يراوح في مكانه لسنة واحدة بين التتويج عام 1953 وبين فيضان بغداد عام 1954 ، وعالج السنوات الأربع الأخرى على عجل في عشر حلقات .. توقف طويلا أمام شخصيات معينة ، ونسي شخصيات مهمة أخرى ، مثل : ارشد العمري ، ومحمد مهدي كبه ، وعبد الكريم قاسم ، وعبد السلام عارف ، والملك حسين وغيرهم .. حصر الملك في قصره .. صحيح أن فيصل لم يختلط بعامة الناس ، ولكنه كان على امتداد سنوات عهده كثير الزيارات للمدارس والمعاهد موثقا علاقته بالنخب المثقفة .. إذا كان المؤلف قد وظف بعض الأحداث المهمة مثل فيضان بغداد لغايات وطنية من اجل بغداد ، فلقد الّح على ذلك كثيرا ، بحيث افقد الدور مصداقيته ! وقد جاءت مشاهد عدة تقول بأن المؤلف لو كان أطلق عنوان ( آخر المسواقجية ) على مسلسله بدل ( آخر الملوك ) ، فاغلب المشاهد مسلطة على سلمان ابو جعفر مسواقجي القصر او ما يطلق عليه بـ ( الخزمه جي ) وتفاصيل دقيقة عن حياته ونسوانه وإبراز تناقضاته وكأنه يمثل كل الشعب العراقي ! صحيح ان الفنان سامي قفطان قد اجاد الدور ، ولكنه لم يصلح في مثل هذا المسلسل .
وإذا كان المسلسل يدعي في بداية كل حلقة القول انه يمثل وقائع حقيقية .. فان ما وجدناه لا يمثل ذلك ، إن التركيز على المسواقجي بمثل هذه الشكل ، وعلى أشياء لا تبرز تناقضات الحياة العراقية بصورة واضحة ! لقد اخفق المؤلف تماما في جعل المسواقجي لا يستسيغ أكل النواشف من يد زوجته الثانية التي لا تطبخ التمن والمركة إلا في الأسبوع مرة واحدة ! ما فائدة مثل هذه الهوامش كي تقحم إقحاما علينا ؟ إن كل ما تضمنه المسلسل ، قد اتلف وقت المشاهد ، وأضاع من قيمة العمل ومتعته . انه خروج متعمد عن فحوى تاريخ آخر الملوك ! فضلا عن مماحكات تلك الزوجة الثانية جنان وابنتها . إن مشكلة المسواقجي مع زوجتيه وابنه قد أخذت كثيرا من قضايا الشعب العراقي . إن حوارات ساذجة وتافهة قد شغلت حلقات عدة ما كان لها أن تكون ، بل كان الوقت ثمينا جدا كي يوظّف لمسائل أخرى أساسية وضرورية .

رابعا : غيبوبة الاحزاب السياسية وحركة الضباط الاحرار
إنني أقول بأن المؤلف قد اختلق وقائع من عنده ليس لها أي وجود ، وقد شّوه بطريقته تاريخ خمس سنوات من العراق . غيّب الأحزاب ، وغيّب القوى السياسية ، وحركة الشارع والثقافة العراقية وحصرها بأسماء معينة لا تمثل جوهر الحياة الاجتماعية العراقية ، ولا إبداعات المثقفين العراقيين .. غيّب مؤسسات فاعلة في المجتمع عهد ذاك منها دار المعلمين العالية ، ومنها الفرق الفنية ، ومنها الصحافة المتنوعة ، ومنها الفن الغنائي العراقي ، ومنها التظاهرات الجماهيرية .. الخ . حصر حركة الضباط الأحرار برفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد حتى النهاية ، ولم يظهر عبد الكريم قاسم ولا عبد السلام عارف ، وهما اللذان قادا الحركة ضد النظام الملكي والانفجار فجر 14 تموز 1958 ! لقد ضيع المشاهدون ساعات من متابعاتهم مشاهد ليس هي الا مجرد سخافات لا معنى لها أبدا . وفي المشهد الذي نجد نوري السعيد وهو قبالة رفعت الحاج سري .. ينهره عن أي فعل عسكري قد يقومون به . أصحح بأن رفعت لم يجب سيده على ما قاله له ، ولم يكن اللقاء في ثكنة عسكرية وعلى الملأ ، بل استدعاه وقال له بعد أن ذكّره بأفضاله عليه حين توسّط له أن يقبل بالكلية العسكرية ببغداد بحكم صداقة نوري بوالده الحاج سري .. وعقّب قائلا له : يا رفعت إن نجحتم في مؤامرتكم ، فسوف يعلّق أحدكم للآخر المشانق !

خامسا : شخصية الملك فيصل الثاني
شخصية فيصل الثاني ، أجاد تمثيلها الممثل الشاب خليل فاضل ، ولكن لا ادري لماذا أبقى المخرج شعره طويلا ، فشعر الملك فيصل لم يكن هكذا أبدا ، كان يكتفي بشعر خفيف ، ولم يكن طويلا ، كما ظهر في المسلسل . كان فيصل الثاني شابا له شخصيته المتواضعة ، ولم يكن متهورا ولا مائعا ولا متكبرا .. لا مدخنا ولا مدمنا ، بل ولم يعرف الخمرة أبدا في حياته . كان متدفق الحيوية ، ينام مبكرا ويصحو مبكرا ، يمارس الرياضة واهتماماته الأخرى .. كان طيب القلب ، وصاحب نكتة ظريفة ، وسريع البديهة .. لكنه يكظم حزنا في صدره وأعماقه ، كما حدثتني عن ذلك مربيته البريطانية قبل سنوات طوال في بريطانيا ، وقد نشرت ما قالته لي في أكثر من مكان . مشكلة فيصل الثاني ، انه بقي خلال السنوات الخمس التي حكم فيها العراق ، حبيس القصر والبلاط ، صحيح انه كان يلتقي مع ضباط جيشه وبعض الشباب من الفنانين والمثقفين ، لكنه لم ينزل إلى الشارع ليختلط بالناس ، ولم ير الآمهم وأوجاعهم . صحيح أن خاله وخالته وجدّته كانوا يخافون عليه خوفا كبيرا ، إلا انه لم يستطع أن يفلت من زمام تلك القبضة التي راح ضحيتها ظلما وعدوانا .
كنت أتمنى على الأخ المخرج أن يطلب من البطل انشدادا أكثر ، وان يعلمه مخارج الحروف بشكل جيد ، وخصوصا ، عند لفظ كلمات عراقية ، مثل ( الباشا : بالباء المعجمة ) . كنت أتمنى أن يكون له دوره المشابه لدور البطل في مسلسل الملك فاروق الذي عرض قبل سنتين وأجاد الممثل تيم حسن فيه إجادة بالغة .. ذلك البطل الذي جسّد إلى حد كبير شخصية ملك مصر . وكان على البطل عندنا أن يكون أفضل مما كان، لو تمّرن على نص وبإخراج دقيق لأتى ببطولة أهم ، خصوصا وانه أجاد التمثيل .

سادسا : خلاف شكلي أم صراع لا اخلاقي ؟
نوري باشا والأمير عبد الاله كما ظهرا في المسلسل ، كونهما في صراع لم يكن بهذه الصورة أبدا . نعم حدث خلاف خفي بين الاثنين ، ولكن لم يتم التراشق بين الاثنين ، والأحرى لم يتطاول نوري على الأمير عبد الاله بالصورة التي أظهرها المسلسل . لقد ادمج المؤلف التتويج باختيار رئيس جديد للوزراء ، وان نوري باشا قد زعل زعلا شديدا جراء عدم استشارته لاختيار الدكتور فاضل الجمالي ! وقد أبقاه المؤلف في حالة نفور واستعداء جراء عدم استشارته ! إن الأمر ليس كما ظهر في المسلسل ، فلقد اعتلى فيصل الثاني العرش يوم 5 مايس / ايار 1953 ، وشكّل الوزارة مباشرة جميل المدفعي بعد يومين ، أي يوم 7 مايس 1953 واستمرت حتى 15 أيلول 1953 ، وقد اشترك فيها نوري السعيد وزيرا للدفاع وعلي محمود الشيخ علي ( احد أقطاب حركة 1941 ) وزيرا للعدل ، وخليل كنه ( وزيرا للمعارف ) ، والدكتور محمد حسن سلمان وزيرا للصحة .. فما الذي يدعو نوري السعيد كي يتكلم ويخاطب عبد الاله كما صورها المسلسل ؟ ثم شكّل الجمالي وزارتين بين 17 أيلول 1953 و 27 نيسان 1954 ، وأعقبه ارشد العمري بوزارة حتى 17 حزيران 1954 . كان الجمالي فيها وزيرا للخارجية والمعارف وكالة .. ولم يمتنع عن المشاركة في أي وزارة كما صوره المسلسل .. لم يمتنع احمد مختار بابان عن المشاركة بالوزارة كما صوره المسلسل ! حتى يشكّل نوري السعيد وزارته يوم 4 آب 1954 ويستمر بها حتى 17 كانون الأول 1955 . إن إلحاح الكاتب على هذا الخطأ ، قد أوقع المسلسل في أزمة تاريخ وحتى الحلقة 22 . ونعيد ونكرر بأن الخلاف بين الرجلين لم يتعد وجهة نظر ، ولم يصل ذلك إلى المستوى السخيف في أن يحتد نوري على عبد الاله ، ويقلل من شأنه ، ويخاطبه بصلافة ، ويتركه ويخرج ، أو يتعمد أهانته ، كما اظهر المسلسل .. هذا تزييف واضح لتاريخ الرجلين سواء أحببنا أم كرهنا .. سواء اتفقنا مع سياستهما أم اختلفنا ضدها وعارضناها . وأسأل الكاتب : أين هي وزارة ارشد العمري ، ولماذا لم يظهر هذا الرجل في أي لمحة ولا مشهد في المسلسل ؟ صحيح أن شخصية نوري السعيد قوية جدا ، ولكنها قد تنزل إلى مستوى الأطفال عندما يداعبهم ، وعندما تصعد إلى الأعلى تنسى كل مزاجها من اجل مصلحة معينة . نوري السعيد كانت مواقفه آنية ومزاجه يمشي ضمن اللحظة التي هو فيها ، وعندما تمضي تتشكل لحظة تاريخية أخرى . كان يحترم البيت الهاشمي كثيرا ، ولا يقلل من شأن أي فرد فيه .. بل وكان ما يقوله عبد الاله بالنسبة لنوري أوامر ، ولكن بعد استشارته . إن المشاهد التي وجدتها في المسلسل لا تعّبر عن حقيقة العلاقة الحميمة التي ربطت الرجلين احدهما بالآخر .

سابعا : المثقفون العراقيون
كنت أتمنى أن يعتني المسلسل بالمثقفين العراقيين إبان ذلك العهد ، بدل الذهاب مع تفاهات صبي ، أو مزاج مسوقجي القصر ، أو عبثية عمشة وغير ذلك . أين أولئك الذين زخر العراق بهم ؟ أين شهرتهم ؟ أين دور دار الإذاعة ؟ كم هو عدد الصحف في بغداد وحدها ؟ أين هي الأغاني والأسماء الكبيرة للمطربين ؟ أين هم التشكيليون ؟ أين ظاهرة التلفزيون لأول مرة في دول المنطقة ؟ أين الشوارع والفلكات الجميلة التي كانت ترش كل يوم من قبل أمانة العاصمة ؟ أين شارع طه والتنزه فيه في الأمسيات ؟ أين النوادي ؟ ونادي العلوية بشكل خاص ؟ أين هي باصات ليلاند الحمراء من ذوي الطابقين التي خصّت بها بغداد فقط بعد لندن ؟ دعوني أتوقف قليلا عند واحد من أشهر المثقفين والمبدعين العراقيين الذين ألحّ المسلسل على تواجده ، ولكن أين ؟ سكرانا في ملهى أو متبجحا في ميخانة تعج بالجواسيس .. انه غائب طعمه فرمان ! ولكن لا اعتقد ان هذا المثقف التقدمي قد ظهر على حقيقته عدة مرات في المسلسل ، فهو من مواليد 1927 وفي العام 1947 غادر إلى القاهرة لغرض الدراسة في كلية الاداب ، واندمج هناك في حياتها الأدبية ، ونشر في بعض مجلاتها ، ولما عاد إلى العراق بعد 3 سنوات وعدة أشهر ، أي في نهاية 1951 ، عمل في جريدة الأهالي للجادرجي . بدأ ينشر عراقيا ، لكنه لم يستقم مع الحياة العراقية والسياسية بشكل خاص ، فغادر العراق إلى بيروت ودمشق والقاهرة مرة أخرى عام 1954 وبقي هناك سنوات طوال ، إذ اصدر في القاهرة كتابه ” الحكم الأسود في العراق ” عام 1957 .. إن إبقاء المسلسل لوجود غائب طعمة فرمان مكررا عدة مرات ، وحتى نهاية المسلسل هو من اكبر الأخطاء التي ارتكبت ، إذ طالت الأخطاء حتى حياة المثقفين العراقيين الاصلاحيين والتقدميين .
ولا ادري لماذا إلحاح المسلسل على الفنان عطا صبري كونه الأقرب إلى فيصل الثاني ، علما بأن نخبة من الفنانين التشكيليين كانوا قريبين جدا من فيصل ، وخصوصا الفنان جواد سليم ـ كما تخبرنا أرملته لورنا ـ ، فضلا عن فنانين وموسيقيين ، كانوا يحلون في رحاب فيصل إبان الأمسيات البغدادية ، ويبادلونه الولاء والإعجاب والإطراء ولا ينعم عليهم جميعا ، الا بابتسامة خفيفة اشتهر بها ، مع عبارة : محبتنا للعراق وأهله ، كما حدثني الموسيقار العراقي فريد الله ويردي . أو حتى المثقف الفلسطيني الذي عشق العراق واستقر فيه أستاذا وأديبا ومترجما .. انه جبرا إبراهيم جبرا الذي حدثني منذ زمن طويل عن لغة فيصل الانكليزية المدهشة ، وكان فيصل يتابع أعمال جبرا الأدبية في مجلة أهل النفط التي تصدرها شركة نفط العراق .

ثامنا : عهد من خمس سنوات لم ينصف حتى اليوم
نعم انه تاريخ صعب للعراق والعراقيين في ظل عهد ملكي وقف على رأسه الملك فيصل الثاني ، وهو يتكون من خمس سنوات ، لكنه لم ينصف حتى اليوم ، لا من قبل خصومه وأعدائه الألداء ، ولا من قبل مناصريه ومؤيديه والباكين عليه حتى اليوم . والسبب أما أن يقع مؤرخه بين مخالب السياسيين من كلا الطرفين ، أو أن تطغى عليك العاطفة العراقية والمواقف السياسية بين يمين ويسار وما إلى ذلك من تجاذبات . إن أزمة كاتب هذا النص ، هي أزمة مثفف عراقي لا يعرف أين يضع قدمه حتى وان أراد تلميع عهد ، أو التصفيق لزعيم ، أو التسبيح لجماعة ، أو حزب ، أو تيار .. فما الذي يمكنني قوله وأنا اختتم الحلقة من هذه الرؤية النقدية والاعتراضات الاساسية؟
1/ لقد نسي الكاتب أو تناسى دور الطبقة العاملة والنقابات والإضرابات ( وخصوصا عمال النفط والطلبة ) وحراك الشارع السياسي والصحف وإغلاق المحال التجارية وانتشار النشرات السرية ومسألة الفقر والإقطاع والهجرة وقضايا السجناء وأين خطابات المعارضة في البرلمان ؟ وأين إذاعة صوت العرب ؟ وأين خطابات عبد الناصر ضد حلف بغداد ؟ أين زيارات عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا ؟ وفي المقابل حتى نكون منصفين أين منجزات مجلس الأعمار الكبرى ؟ أين دور العراق الإقليمي والدولي ؟ كيف كان المجتمع منشدا على نفسه ؟ كيف كانت قيمة العملة العراقية ؟ كم كان حجم المنجزات الثقافية ؟ إن مجرد تضمين ما يراه الخصم وما يراه الصديق داخل نصوص أو خطابات أو محادثات .. إن لم تفرد شواهد أو مشاهد لها ، فيكفي انك أديت واجبك إزاء التاريخ . وسواء كنت مع هذا أو اصطففت مع ذاك ، فالتاريخ يطالبك أن تفي بحقوق الناس بحلوها ومّرها ..
2/ إن عهد الملك فيصل الثاني من 4 نيسان 1953 ولغاية 14 تموز 1948 كان مليئا بالوقائع المريرة والأحمال الثقيلة التي رفعها كلها ملك شاب على كاهليه ، وكان حقا يتطلع نحو المستقبل ، ولكنه محاط برجال كبار السن ، وبصراعات اليمين واليسار، وتناقضات المجتمع الساخنة .. كان إرثا صعبا للغاية من الأخطاء والتجاوزات والاختلافات والصراعات والمشكلات التي كان يثيرها تصادم بين رجعيين وتقدميين كما أسموهم ، وبين أعيان قدماء وناس ومثقفين جدد ، وبين أبناء مدن وأبناء ريف زاحفين .. كان كل الصراع يثيره منتفعون ووصوليون وانتهازيون من طرف ، او يثيره مغامرون ومسحوقون وحاقدون من طرف آخر .. فكان أن دفع هذه الملك البرئ دمه وحياته ثمنا لمرحلة صعبة للغاية ومعه عائلته الصغيرة فجر 14 تموز 1958 ، ليأخذ العراق مسارا آخر في التاريخ .

انتهت الحلقة الثانية وتابع الحلقة الثالثة
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 4 اكتوبر 2010
www.sayyaraljamil.com


الحلقة (3)
تصويب تاريخ ظلمه أهله



مقدمة

لقد اضاع المؤلف كاتب النص كل المشاهدين بين خيالاته وأخطائه التاريخية التي لا يمكن ان تغفر له ابدا .. وسواء كان العراقيون مع ذلك التاريخ يوافقونه ويترحمون عليه ، ام كانوا من خصومه الالداء والشامتين به ، فهو تاريخهم شاءوا ام ابوا ، وعليهم ان يحافظوا على حقائقه ووقائعه كما كانت ، ولا يسمحوا لأي كان أن يشوّه ذلك التاريخ ويقلب حقائقه او يختلق من عنده ما لم يكن موجودا في الاصل . الاتيكيت الذي كان معمولا به ، وهو بسيط مع وجود الابهة الشكلية والاعراف التي لم تكن حصرا على القصر والبلاط ، بل كانت تلك هي اعراف عليا في مجتمع الاعيان وكبار القوم والشيوخ في العراق . والاعراف والتقاليد في العراق متنوعة قبل خمسين سنة وقبل ان تختلط القيم وتسود الفوضى وتهّشم كل المعاني .. كانت لشيوخ القبائل ورؤساء العشائر اعرافهم ، وكانت للاعيان والملاكين والباشوات والبيكات في المدن اعرافهم .. وكان للجلبية والاسطوات في السوق اعرافهم ! وكان للافندية والعلماء والادباء الكبار اعرافهم ! وكان للحرفيين والصناع اعرافهم ! وكان للطبقة الفقيرة ومن يمثلها اعرافها .. ولقد استجدت للبورجوازية الوطنية والمثقفين الجدد اعرافهم ايضا ابان عهد فيصل الثاني في الخمسينيات . كان على المؤلف ان لا يجازف بكتابة نص كهذا ، وهو يخلط هذا مع ذاك ، ويخرج لنا بخلطة مثيرة للسخرية . كتبت لي الاخت الفاضلة ميادة العسكري رسالة تقول فيها :
” لم اتمكن نفسيا من متابعة المسلسل بعد رؤية الحلقة الاولى والثانية وعرفت بان العمل سيكرر نفس اخطاء مسلسل الباشا الذي ظهرت فيه عمة والدي نعيمة العسكري كمسخ وظهر فيه جعفر العسكري جدي وكأنه ممسحة ارض تابعة لنوري السعيد ، وكلنا يعلم بان العكس كان صحيحا لحين استشهاد جعفر عام 1936 . سيدي لم اعاصر جدي ولا نوري ولم ار الملوك الا انني عشت في بيت كان يبكيهم كل يوم . جدتي هي اخت نوري وزوجة نوري هي عمة والدي وكانت تاتي الينا ونذهب اليها في لندن . وكذا الحال بالنسبة لزوجة صباح المرحومة عصمت . لذلك، اقول بكل ثقة ان الخانمات اللواتي التقيت بهن كن في غاية التواضع والشرف واحترام الذات . ولا اعتقد ان بيبيتي ( أي : جدتي ) نعيمة يمكن ان تقول لنوري (عيني ابو صباح عود سلملنا على الملك). اما عبد الاله فمن كلام والدتي وبنت الداغستاني وكلام ام الحارث زوجة المرحوم عبد المجيد محمود وغيرهم . كل ما رايناه في المسلسل كان مغالطات لا تغتفر . المهم ان نطلب من سعد طالما انه مهتم بتلك الحقبة ان ياتي بلجنة لكتابة هذا التاريخ بصورة صحيحة . احترامي لكم دائما ( انتهى نص الرسالة ) .


العائلة المالكة : الملكة نفيسة والاميرات
1/ ان الاميرة جليلة والتي كانت تعاني من مرض الكآبة ، لم تكن تلبس فستانا عاري الكتفين .. كانت جميع النسوة يلبسن الفساتين الطويلة باكمام طويلة ، وهن يلبسن العباءات اذا خرجن من القصر ، ولم تكن اية اميرة قد لبست اية قبعة كما اظهرهن المسلسل . ولقد حمّل النص مرض جليلة حتى جعلها اشبه بمخبولة ، ولم تكن هكذا ابدا ، اذ كانت محافظة على هيئتها وشخصيتها حتى مماتها رحمها الله . لقد اخذت جليلة جملة كبيرة من وقت المسلسل ، كان على المؤلف ان يوظف ذلك الوقت لتوضيح ما كان يجري في الشارع العراقي ..

2/ لم تكن الملكة نفيسة والدة عبد الاله تناديه ” يمه وين رايح ” بالعراقية ، اذ كانت لهجتها حجازية صرفة .. كما لم تنادي عليه بـ ” يا وليدي .. ” بالعراقية ابدا . او ان تعلّق على كلامه بـعبارة : ” على بختك يا عبد الاله ” . وكانت الملكة نفيسة وابنتها الملكة عالية وبقية الاميرات لا ينادين من يجتمع بهن من نسوة عراقيات الا بالقابهن او اسمائهن مردفة بالخاتون او الباجي او الست .. حتى اقرب المقربات اليهن . ولم تكن نسوة القصر يجلسن في حدائق القصر ابدا ، باستثناء الملكة عاليه رفقة زوجها الملك غازي ولمرة او مرتين ! لقد اتيت يا مؤلف النص بعبارات ووضعتها على السنة الملك او الامير او الاميرات وهم جميعا لا يتلفظون بها ، ومنها كلمات وعبارات شائعة اليوم ، مثلما قلت على لسان الاميرة بديعة ” عندي فضول قاتل ” ! ولم يكن عبد الاله يستخدم كلمات عادية ليخاطب فيصل بكلمة ( ولك ) ! ولم تستخدم الاميرة عابدية كلمة عادية هي الاخرى لتخاطب صديقتها بـ ( عابت ) ! ولا ادري هل كان الاخ كاتب النص مع الامير عبد الاله وهو يصرخ ويسب ويشتم خادمتهم رازقية ويصفها بالكلبة ، او يشتم طباخهم يلماز ويصفه بحيوان ؟ ان كل الذين سألتهم عن ذلك من المقربين للقصر ، نفوا ذلك نفيا قاطعا . وقالوا بأن أدبا خاصا كانت تتعامل به العائلة المالكة ، وصوتهم عندما يتحدثون منخفض جدا ، وهم متواضعون في ما بينهم ، او بينهم وبين من يعيش معهم او يزورهم في قصرهم البسيط .

3/ لقد وقفنا على خطأ اخر قبل ان تخبرني به السيدة الفاضلة تمارا الداغستاني ، ذلك ان والدتها مديحة الداغستاني تشتكي في المسلسل للأميرة عابديه بأنها لا تشاهد أبيها غازي الداغستاني كثيرا لأنه مشغول بالمهمات العسكرية ، وتتوسط أن يسمح له بان يقضي أوقات أكثر مع عائلته .. كاتب الفيلم لا يدري بان مديحة الداغستاني هي زوجة اللواء الركن غازي الداغستاني وليست ابنته وهي أم تمارا و تيمور وان مجرد جعلها في المسلسل ابنة غازي بدلا من زوجته يحاسب على ذلك حسابا عسيرا .

4/ ان الحياة الملكية في قصر الرحاب كانت بسيطة للغاية ، كما يعلمنا اغلب الذين دخوله ، واطلعوا عن كثب على الاسلوب والنظام هناك . صحيح هناك نظام للاكل والضيافة والاستقبال ، ولكن ليس كما وجدنا ذلك في المسلسل . كانت المائدة بسيطة على الفطور او الغداء او العشاء . لم تكن المائدة غنية بما لذّ وطاب من خرفان وقوازي كما عرضها المسلسل ، بل كانت ابسط مما يتخيله أي عراقي وهو في بيته ، او مقارنة بأي بيت من بيوتات بغداد . واريد ان اصحح للمخرج بأن الطلي هو الخروف الصغير في عمره وحجمه ، ( وليس كما جاء في الحلقة 13 ) بأن الطلي هو الكبش الذي يظهر مع المسوقجي سلمان ابو جعفر بقرنين كبيرين !

5/ وما الذي جعل كاتب النص يسترسل كثيرا مع قلة ادب ذلك اليتيم المسمى جعفر الذي تبنّته الاميرة عابدية من دار للايتام ليعيش في القصر ؟ تقول الرواية بأن ذلك اليتيم قد قتل رفقة العائلة المالكة فجر يوم 14 تموز 1958 ، وكان عمره قرابة 7 سنوات .. الا ان المسلسل اظهر لنا ذلك اليتيم جعفر منذ التتويج عام 1953 وعمره قرابة 8 سنوات ! بل ونسج المسلسل اقوالا ومضحكات وتجاوزات خارجة عن الاصول على لسان جعفر .. كونها حقائق . وهذا لم يحدث ابدا . لقد اخذ الطفل اليتيم جعفر حيزا كبيرا في المسلسل بتفاهاته اكثر مما اخذه الشعب العراقي . وزاد الاخ كاتب النص من عندياته بأن جعل ثمة علاقة بين اليتيم جعفر وتلك المسحوقة عمشة كي يتبادلا الذكرى بواسطة ابن المسواقجي جعفر !
6/ لم اقرأ يوما ان القصر الملكي في العراق ابان الخمسينيات قد ضمّ خادما مصريا او سفرجيا اسمر اللون ، كما بدا في المسلسل ، او وصيفات وخادمات باستثناء رازقية التي تربّت منذ صغرها على يد الملكة عالية ..

الملك فيصل الثاني
لا ادري من قال للمؤلف ان فيصل الثاني يمد يده ليقبلها الناس او المقربين اليه ؟ لا ادري من اين اخذ معلومة خاطئة تقول بأن الامير عبد الاله قد ركع امام الملك وقّبل يده ؟ لا ادري لماذا جعل المؤلف عبد الاله ليلة تتويج فيصل في حالة نفسية قاتلة وقد سكر كثيرا ، وتمادى بأن اخبر من قبل احدهم قائلا للوصي : راح تركع سمو الامير وتبوس ايد جلالته ! ؟ كل البوس الذي ظهر في المسلسل ليد الملك هو تزييف وعار عن الصحة ، فالملك فيصل الثاني كان يتقبّل انحناءة خفيفة ممن يقابله ، ولم يجري الناس اليه ليبوسوا يده ! نعم ، كان كبيرهم وصغيرهم ينحني امامه ، فمنهم من يكتفي بايماءة بسيطة ، ومنهم من يزيد من انحنائه .. من دون تقبيل يده !
من اجل الحاح كاتب النص على تواضع الملك فيصل الثاني ، فقد اختلق من عندياته انه قابل المسواقجي وابنه في القصر ، والّح النص على مماحكة من قبل المسواقجي وهو جالس مع الملك على كنبة واحدة ، وهو يلّح على ابنه الحاحا بأن يقول كلمة ” المعظم ” بعد كلمتي التفخيم ” جلالة الملك ” .. وزاد من ذلك ، بحيث بدا كل الحدث كاذبا لا اصل له من الصحة .. بل راح يجعل ابن المسوقجي يتجسس على القصر لحساب الشيوعيين ! وزاد من مفبركاته بحيث جعل ابن المسوقجي جعفر يسبح بمعية الملك فيصل الثاني في حوض السباحة بالقصر الملكي ، وكلنا يعرف بأن قصر الرحاب ليس فيه أي حوض للسباحة ! وحتى ان وجد ، فلا يمكن ان يحدث ذلك ابدا . ان الاكثر سخرية ان يقف الملك فيصل ليمنح المسوقجي وابنه وسامين ، أي يعلّق في رقبة كل واحد منهما وساما نظير ما قاموا به ايام الفيضان .. وكان الملك قبل دقائق من ذلك قد أمر بانهاء خدمات المسوقجي ، كونه تأخر عن القصر ، ولكن المسوقجي اخذ يشرح للملك دوره في اطعام الطعام لاهل الرصافة ، اذ تصّرف ببضاعة القصر الملكي ، وابقى الناس في القصر جياعا ! واذا كان كاتب النص قد جعل الناس المدنيين تهّب للدفاع عن الرصافة من الغرق ، الى جانب الجيش ، فان الحقيقة التي يعرفها الجميع ان الهّبة جاءت من الشرطة والجيش ، اذ نزلت القوات لكليهما الى حافات دجلة وهي تنقل الالاف المؤلفة من اكياس الرمل الى الحافات . كذلك بودي القول بأن ما عرض في القصر الملكي بحضور الملك مع العائلة المالكة ونوري السعيد على العشاء .. وما عرض من سخافة وتطفل الطفل جعفر وقوله ” نوري السعيد قندرة وصالح جبر قيطانه ” امام الجميع ، وظهور نوري متقبلا هذا الهراء هو اكذوبة ولا اساس لها من الصحة ابدا .. لم يسمح ان تطلق مثل هذه التعابير في القصر الملكي .. كنت اتمنى على الاخ الكاتب ان يكون اكثر حذاقة ومهارة في توظيف هذه الشتيمة في الشارع ، وليس في القصر الملكي ، وجعل هذا الطفل يتمادى كثيرا بلا اية مبررات ، بل ولا اساس لذلك من الصحة .

الملك ومشروع زواجه
1/ ابنة ملك المغرب
في مسألة زواج الملك ، تبدو الاخطاء تتابع لا حصر لها .. انني أسأل ولا ادري من اين اخذ الكاتب معلوماته عن مشروع فيصل لخطبة ابنة ملك المغرب محمد الخامس .. ولماذا صاغها بهذا الشكل ؟

2/ ابنة الشاه وليست اخت الشاه
ثمة خطأ تاريخي قاتل آخر ، ففي الحلقة 21 من المسلسل ، يقترح السيد محمد الصدر إن يتزوج الملك فيصل الثاني شقيقة شاه إيران ؟؟ ولا ادري من اين حصل السيد كاتب النص هذا الخبر ؟ ولماذا لم يتأكد منه ؟ ان للشاه محمد رضا بهلوي أربع شقيقات ، الأولى من زوجة أبيه الأولى مريم خان ، وكانت من تولد 1903 واثنتان من أم محمد رضا الأصلية تاج الملوك وهما الأميرة شمس تولد 1917 ، والأميرة إشرف تولد 1919 ، والرابعة هي الأميرة فاطمة تولد 1928 وهي أخت الشاة من زوجة أبيه عصمت دولت شاه وكلهن اكبر عمرا من الملك فيصل الثاني المولود عام 1935 ! والصحيح أن السيد محمد الصدر نصح الملك أن يتزوج من ابنة الشاه شاهيناز بهلوي المولودة عام 1940 وهي الابنة الوحيدة من زواج الشاه من الأميرة فوزية ابنة الملك فؤاد الأول ملك مصر و شقيقة الملك فاروق الاول ، والتي تطلقت من الشاه عام 1945 . لقد زار فيصل الثاني رفقة خاله عبد الاله ، ووفد مصغّر معه ايران عام 1957 بناء على دعوة من الشاه ، والتقى بالأميرة شاهيناز في حفلة إقامتها السفارة العراقية في طهران ولكن يبدو انه لم يحصل أي تقارب بينهما … واذا كان المسلسل قد عرض نوري السعيد يهلل لزيجة الملك السياسية ومصاهرته للبيت البهلوي ، فان الحقيقة لا يعرفها احد ، لماذا لم يتم الاتفاق بين البيتين على تلك المصاهرة التي لو تمّت لاستفاد منها البلدان كثيرا !

3/ الاميرة فاضلة
واظهر المسلسل خطيبة الملك فيصل الاميرة فاضلة ووالدتها ، وهما تتحدثان باللهجة المصرية ، علما بأنهما لم تكونا تجيدان العربية اصلا ، بل كانتا تتكلمان بالتركية والانكليزية والفرنسية . واخطأ المسلسل في توقيت خطوبة فيصل الثاني على الاميرة فاضلة ، اذ جعلها ابان ازمة قناة السويس عام 1956 ، في حين انها جاءت مع بدايات العام 1958 . لم تكن الاميرة فاضلة ـ كما صورها المسلسل ـ تهيم حبا بفيصل عام 1953 ‘ فهذه اكذوبة ، فهي من مواليد 1940 ، أي انها كانت طفلة صغيرة عام 1953 ولم تعرف من يكون فيصل ، ولكنها كانت برفقة عائلتها في العام 1954 عند زيارتها بغداد وتعرفت على فيصل من دون أي علاقة حب ، ولكن أعلن السيد علي جودت رئيس التشريفات الملكية خطوبة فيصل على فاضلة في نهاية العام 1957 عندما بلغت السابعة عشرة من العمر . ولا يعرف احد اين هي الان وبمن اقترنت .. وما الذي كان عليه رد فعلها عند سماعها بمصرع فيصل الثاني وابادة عائلته يوم 14 تموز 1958 !

الامير عبد الاله
ثمة اتيكيت خاص داخل القصر ، كنت اتمنى ان يدركه ويعرفه كاتب النص والمخرج قبل ان يجري تنفيذ العمل ، فالضابط لا يقف بجانب الامير او الملك تماما والمسافة شبر او شبرين .. بل ان هناك ثمة فسحة او مجال . وهل من المعقول ان يأمر الضابط العريف قائلا له : ” بلّغ سمو الامير نحن بالانتظار ” ! من يبلّغ من ؟ وهل يخاطب رئيس عرفاء عبد الاله ( باربعة خيوط يحملها على ساعده ، وقد جعله المسلسل عريفا ) قائلا له : باعتبارك في آخر يوم قائد عام للقوات المسلحة .. وان كلامك ذهب ! ومن اين اتيت يا كاتب النص بهذه الفرية عندما تسترسل لتجعل فيصل يلتفت مخاطبا قائد الحرس الملكي قائلا : هذا العريف قال كلمة ما لازم يقولها ؟ ! لقد اعلنتم في بداية كل حلقة ان الوقائع حقيقية في المسلسل والاماكن افتراضية ، فان المشاهد اعتقد او سيعتقد ان ما جاء به المسلسل حقائق لا كذب فيها ، في حين ان اغلب المشاهد وما جرى فيها من احاديث وعبارات وافعال وردود افعال .. هي كاذبة ولا اساس لها من الصحة !
هل كان عبد الاله سكيرا وبمثل الصورة التي رسمها هذا المسلسل ؟ الجواب : لا . كان يحتسي الخمرة من وقت لآخر ، ولكنه لم يبدو سكيرا في أي يوم من الايام . نعم ، كان عنيدا ومكابرا ، ولكنه لم يكن بذئ الكلام . ربما كان يعلن عن سخطه بجملة حادة او اثنتين ، ولكنه كان قليل الكلام ويستخدم مهذبه . لم يعلو صوته على فيصل ابدا ، وكان يخفي اوضاعه النفسية . لم يكن عصبي المزاج ولا ملحاحا ـ كما تعلمنا بذلك شهادات عراقية كانت معه ـ . وهنا أسأل كاتب النص : هل كنت تعيش في قصر الرحاب حتى تعرف ما الذي كان سائدا في دواخله ؟ حتى تأخذ راحتك في التوصيف . وفي حلقة اخرى ، يدّعي كاتب المسلسل ان عبد الاله قد طلب من العريف عاصم ان يأتيه بشراء قنينة ويسكي ( الحلقة 16 ) . وهل هناك من يبيع الويسكي قرب قصر الرحاب ؟ بل وزاد المسلسل من اخطائه عندما جعل عبد الاله يسكر مع العريف عاصم ! ولم يكن عبد الاله يلبس الزي العسكري الا نادرا وفي المناسبات العسكرية القليلة . فكيف جعله المسلسل سكيرا ويجلس على الارض . لقد كان للامير عبد الاله مكانا معينا في حديقة القصر يجلس فيه ، تظلله نخلة يعتز بها الامير ، والمكان يحتوي على كراسي للجلوس ، ومكان عبد الاله معروف وعلى جانب منه منضدة صغيرة .. ولا يقترب منه الحراس ، ولكن السيد فالح حنظل يذكر بأن الامير قد يفاجئ الحرس الملكي في الليل بزيارة ما ! ولقد شرح كل من الاستاذين عطا عبد الوهاب وعبد الغني الدلي جوانب اساسية من حياة الامير عبد الاله ، لا نجدها ابدا في المسلسل ، بالرغم من قوة اداء الفنان حكيم جاسم لدور عبد الاله الذي كثرت عنه الشائعات منذ العام 1941 عندما أمر باعدام الضباط الاربعة ومعهم المحامي يونس السبعاوي .. وتلك كانت الاسفين الذي دقه في نعشه ونعش العائلة المالكة كلها !

تابع الحلقة الرابعة والاخيرة
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 4 اكتوبر 2010
www.sayyaraljamil.com



الحلقة (4)
بعثرة عراقية لتاريخ سياسي



نوري السعيد والوزراء

هل كان وزراء وشخصيات ذلك العهد لم يعرفوا أسلوب المحادثة ولا المجالسة ولا الاتيكيت ؟ وسعيد قزاز وزير الداخلية الشهير لم يدرس في بريطانيا ، بل تدرج في المسلك الإداري من مدير ناحية إلى قائمقام إلى متصرف ثم اختير وزيرا للداخلية ، وكان عصبي المزاج وقوي الشخصية وعنيدا ، ولكنه متواضع جدا .. كان إداريا حازما ولم يكن سياسيا في يوم من الايام ، وقد كرهه الشيوعيون العراقيون بسبب مواقفه ازاءهم رفقة طاقمه الذي وقف على رأسه بهجت العطية وعبد الجبار فهمي وثلاثتهم اعدموا شنقا حتى الموت في سجن بغداد المركزي بعد محاكمتهم من قبل العقيد فاضل عباس المهداوي بعد قيام الجمهورية ، وقد وصفت لي الاستاذة زكية حقي اسلوب بهجت العطية انه كان ساديا في تعامله مع المعتقلين .. ولقد ظهر في المسلسل امام عبد الاله ينبهه الى قيام حركة مسلحة ضد نظام الحكم ، فصعق عبد الاله ورمى الاوراق بوجه بهجت العطية ، ولم يكن لمثل هذا التصرّف أي اساس من الصحة !
ومرة اخرى يخدعنا المسلسل بصراع شديد بين عبد الاله ونوري باشا ، وقد بدا الخلاف البسيط اكبر من حجمه بمسافات كبيرة .. كما أن المسلسل صوّر العلاقة بين نوري السعيد وصالح جبر ، وكأنها صراع شديد ، والأمر ليس كذلك . المعلوم ان الاثنين ليس في ميزان واحد كي يتقابلان من دون ان يسّلم احدهما على الآخر ! لم تحدث أي مشادة بين عبد الاله ونوري كما صورها المسلسل ( الحلقة 16 ) . ثمة نقطة أخرى تظهر في المسلسل عن نوري السعيد وعلاقته بخليل كنه ، وكأن نوري لا يعرف احد من ساسة العراق ، ولا يجتمع بأحد الا خليل كنه ؟ بل ويزيد المسلسل في ذلك بحيث يجعل نوري ينادي خليل كنه بـ ” خلاوي ” لعدة مرات ! وكأنهما جالسين في علاوي الحلة ! وأريد أن اذكر بأن خليل كنّه لم يكن قليل الاتكيت حتى يذكر عبد الاله باسمه من دون لقب وبحضوره ! أو أن خليل كنه يقول للملك : ” جلالة الملك ، عذروني من أي وساطة وّيا الباشا ” ! وتمادى المسلسل كثيرا في تشويه العلاقة بين نوري والأمير الى درجة استقبال نوري لعبد الاله بقلة أدب وحماقة وصلف في باريس ! ان نوري السعيد لا يمكن ان يزيّف تاريخه أو أن تمسخ شخصيته بهذه الطريقة من اجل التلميع . انه بالرغم من كل ما وصف به ، فهو رجل بغدادي يعرف مع من يتكلم ، ولم يكن يبال بنقد الآخرين له ، ولا بالمظاهرات ضده ، ولا بالنكات او السخرية عليه ، كونه يثق بنفسه وقدراته كثيرا ، انه لم يتكلم ابدا بمثل هذا التجريح مع عبد الاله .. لم يكن عنجهيا ، ولم يعيد ويكرر أفضاله على المملكة !
ولا ادري لماذا تكلم كاتب النص من عندياته مختلقا أشياء لا وجود لها ، وليس لها أي مجال من الصحة . نوري السعيد ليس كما ظهر في المسلسل مكابرا ومتوترا دائما ، والحقيقة انه كان صاحب نكته ومزحة ! ولم يكن احمد مختار بابان شابا ، بل رجل كبير السن .. كما ان صالح جبر لم يخاطب نوري السعيد بلا كياسة أو باسمه الصريح ، فلقد تدرج صالح جبر وظيفيا عندما كان نوري زعيما سياسيا .. هل أن كاتب النص متأكد أن فكرة مجلس الاعمار تعود للجمالي كما أورد ذلك على لسان الجمالي وهو يخاطب الملك ؟ وهل فكرة استصلاح الأراضي الأميرية للجمالي ايضا ؟ (كما جاء في الحلقة 14 ) ومن الفلتات الأخرى التي وردت في المسلسل قول الجمالي للملك : ” أي قرار ما يصير قانون في مجلس الوزراء اذا مو جلالتكم توقعّون عليه ” ( الحلقة 17) . إنني أسالكم بالله : هل هذا كلام عقلاء ؟ هل كان فيصل الثاني يتحكم في مجلس الوزراء ؟ هل كان يوقع على قرارات أم على إرادة ملكية ؟ هل القوانين يصدرها فيصل الثاني ام مجلس الوزراء ؟ ام يشرّعها مجلس الاعيان بعد أن يسنّها من مجلس النواب ، لتتم المصادقة والتوقيع عليها من الملك وتنشر في الجريدة الرسمية ؟ أسئلة أوجهها لكاتب النص . من طرف آخر ، ليس من الصواب كما جاء على لسان الملك قوله للدكتور الجمالي في المسلسل : ” قبل أن انتخبناكم رئيسا للوزراء ” ! ونقول : الملك لا ينتخب الأشخاص ، بل الأصح أن يقول المؤلف على لسان الملك : ” قبل ان كلفناكم او قبل تكليفنا لكم .. ” ! لقد وجدت المرحوم الجمالي الذي التقيته عدة مرات في عقد الثمانينيات المنصرم في بيته بمنطقة المنزه بتونس رفقة زوجته مسز ساره باول جمالي ـ رحمهما الله ـ ، وحدثني طويلا عن أوضاع الخمسينيات ، ومدح كثيرا بنوري وقوة علاقته به . اما شخصية تحسين قدري ، فقد بدت في المسلسل اقل من عمرها الذي كان في الخمسينيات ، وله قدر كبير من الهيبة كونه احد مرافقي الملك فيصل الأول العرب الأوائل الذين قدموا معه ، وكان يستشيره القصر في مسائل عدة .

الجادرجي ورموز الحركة الوطنية
ليس من الصواب ان يقول المؤلف على لسان الزعيم السياسي كامل الجادرجي وهو يصف عبد الاله : ” الدول البورجوازية تسانده .. ” . ان البورجوازية طبقة وليس دولة يا عزيزي كاتب النص ! وليس من الصواب ان تقول على لسان الجادرجي ايضا : ” انا لا املك سيارة .. انا استخدم مصلحة نقل الركاب ” . وهل قال الجادرجي كما ورد في المسلسل : ” نوري والجمالي كالحية والبطنج .. شلون راح يتوالمون ” ؟ من اين اتيت بهذه الاقوال ؟ وبعد ذلك كله ، منح المسلسل دور الريادة الوطنية لكامل الجادرجي مستصغرا زعماء سياسيين ، آخرين مثل حسين جميل ومحمد صديق شنشل من دون ان يبرز لنا دور محمد مهدي كبة او محمد حديد او اسماعيل الغانم وغيرهم من زعماء الحركة الوطنية المحسوبين على البرجوازية الوطنية .. نعم ، كان الجادرجي عدوا لدودا لنوري السعيد ، ولا ادري لماذا لم يتطرق المسلسل الى مذكرته التي تضمنت 15 شرطا للاصلاح السياسي ؟ لماذا لم يشر المسلسل الى انه حكما صدر عليه بالسجن ثلاث سنوات وقد نفذها ؟
ويبقى وجه الجادرجي هو الوحيد الذي يطّل علينا ، وقد قال في احد اجتماعاته بأن ” العراق مو مال ابو أحد ” ! ان اقتصاره على رمز او اثنين لا يكفي ابدا ، اذ غيّب رموز من الشيوعيين العراقيين الذين كانت لهم نشاطاتهم المهمة في الخمسينيات ، ناهيكم عن البعثيين الاوائل . واريد التأكيد هنا بأن محمد صديق شنشل لم يكن ضعيفا ولا مهزوزا امام الجادرجي ، كما صوره لنا المسلسل ! ولا ادري من اين اتى الكاتب الفاضل وهو يكتب على لسان الجاردجي قوله : ” استنكارنا المعاهدة بيننا وبين اميركا ” ! أي معاهدة هذه بين العراق واميركا في الزمن الذي يتحدث فيه الجادرجي ؟ لقد دخلت اميركا الى حلف بغداد متأخرة جدا ، بالرغم من انها المهندس الاول له منذ العام 1951 . واريد ان اصحح ما ورد في المسلسل ذلك ان معاهدة بورتسموث اعقبتها ما سمي بالوثبة عام 1948 وليس انتفاضة ـ كما ورد على لسان صالح جبر . وكنت اتمنى ان يقوم الاخ المخرج على تدريب بعض الإخوة الممثلين على الأداء اللفظي لبعض التسميات ، وان يشّدوا السنتهم وهم ينطقون بعض الأسماء والكلمات والألقاب .. اذ لا يكن من العقل ان تصبح بورتسموث بـ بورتزموث ! لقد وصل الأمر بالاخ كاتب النص ان يجعل الجادرجي يصيح برؤساء الاحزاب قائلا : ” ولكم شلون حجي هذا .. ” ّ! وهذا ما نفته السيدة اميمة شنشل نفيا قاطعا ، اذ كان الاحترام يسود بين كل أولئك الرجال بالرغم من اختلافات اتجاهاتهم السياسية العميقة . كتب لي الصديق الاستاذ يقظان كامل الجادرجي الرسالة التالية :

عزيزي الدكتور سيار
تحية واحتراما
لم اتابع المسلسل المقصود (الملك فيصل الثاني) إلا بعض الحلقات منه, أربع أو خمس, وكانت آخر الحلقات تقريبا وذلك لانشغالي بأمور أخرى. بالإضافة الى الأخطاء التاريخية والسياسية ومشاهد غير معروفة وغير حقيقية, فان المسلسل رأيته ضعيف جدا بل الذي كتب المسلسل لم يعطي الحقبة التاريخية تلك أهميتها وثقلها فضلا عن التحيز الواضح لصالح جهة على جهة أخرى. بالإضافة الى ذلك فمن الخمس الحلقات التي شاهدتها فاستطيع ان اقول 40% أو اكثر كان محورها “أبو حيدر (سلمان)” ممول مطبخ القصر؟؟ عندما نتكلم عن الفترة ما بين 52 الى 58 فهل كانت شخصية سلمان مهمة الى هذا الحد؟ .. وحسب علمي المشهد الذي يتدخل فيه الملك فيصل الثاني بين الوصي والوالد عاري من الصحة . وقد أكد ذلك لي الاخ نصير.
أما من الناحية الفنية فرديء جدا ورجال تلك الحقبة, إن كانوا الموالين أو المعارضين للحكم, لا يستحقون ذلك. إن اهتمامكم للرد على هذا المسلسل أراه ضروري لإظهار الحقائق خاصة للذين شاهدوا المسلسل من جيل ما بعد ال58 الذين حُرمت عليهم القراءة والمشاهدة..
مع تحياتي

الطبقة العراقية المسحوقة
ثمة اشارة واحدة على مدى ثلاثين حلقة من مسلسل آخر الملوك الى الصرايف اطراف بغداد والحياة التعيسة فيها ! اما الحركة التقدمية والشيوعيين ، فقد اختزلهم المؤلف بكل من الشاعر حسين مردان والروائي غائب طعمه فرمان .. واين مكانهما ؟ وما تصرفاتهما ؟ ليس لهما مكان الا الميخانة ، كي يشربوا خمرتهما فيها ! حزب شيوعي عراقي قديم ربما اختلفنا معه ، ولكن وجوده حقيقة ، ونضاله تاريخ ، ومعارضته قديمة .. ان يختزل كل هذا وذاك ضد العرش وضد النظام ليبرز ممثلا بشخصين اثنين لا يمثلان صورتهما الحقيقية ابدا ، فلا حسين مردان كان بهذه الصورة ، ولا غائب كان بتلك الشمرة ! وهل اختزلت النخبة المثقفة من الجيل الجديد بمثل هذين النموذجين الاثنين ؟ لقد وصلت دار المعلمين العالية الى اقصى شهرتها ببروز عمالقة في رواقاتها ابان الخمسينيات . اين هم ؟ لست شيوعيا ولا قوميا .. ولكن الحياة السياسية في عهد فيصل الثاني شغلتها الصراعات الايديولوجية والفكرية والسياسية بين الجيل الجديد وبين الجيل القديم .. بين النخبة البورجوازية الناشئة ، وبين الارستقراطية العراقية القديمة .. بين من كان يصفق للشرق والمعسكر الاشتراكي والشيوعي وبين من كان ضالع مع الغرب وهو لا ينفك عن البريطانيين والاميركان .. ان مشاهد عدة اظهرت نماذج مسحوقة من العراقيين مثل شلتاغ وعمشه في سكنهما الوضيع ومأكلهما وعلاقتهما .. تظهر كل التصنّع ، بل ووصل الامر الى استخدام ما ليس عراقيا ، اذ يبدو ان الاخ كاتب النص قد تأثر بالمجتمع السوري عندما يقول على لسان عمشه : ” طبخة محروك اصبعه .. اشوكت يحتركون ونخلّص ” ( الحلقة 17) . هذا توظيف في غير مكانه ، فالعراقيون لا يعرفون اكلة حراق اصبعو .. وليس هذا بحقيقي على الاطلاق !

كلية بغداد والفاذرية
يجب ان يعلم الكاتب الكريم ان كلية بغداد في العاصمة بغداد هي التي اسسها الاباء اليسوعيون الذين دعاهم اهل بغداد بالفاذرية . وان مدرسة كلية بغداد كانت للبنين فقط ، ولم يكن مسموحا للبنات الدراسة فيها . عندما جعلت ابنة جنان زوجة المسواقجي طالبة في كلية بغداد ! هل تحريت قليلا كي لا تقع بهذا الخطأ ؟ وما علاقة طباخ القصر التركي يلماز بكلية بغداد ، حيث جعل المؤلف مسواقجي القصر يتوّسط لدى يلماز كي يتدخل في كلية بغداد من اجل ابنة زوجته ؟ ما هذه الحكايات التافهة ؟ ان كلية بغداد (Baghdad College، تختصر إلى BC) وكانت منذ تأسست في منطقة الاعظمية ببغداد عام 1931 على ايدي الآباء اليسوعيين الاميركيين ، وقد غدت كلية بغداد مدرسة ثانوية متميزة للبنين ( وليس للبنات ) ، فغدت من اهم مدارس العراق لقوة نظامها التعليمي والتربوي ، وقد تخرج فيها العديد من المثقفين والمهنيين والمبدعين المعروفين الذين يتوزعون اليوم في شتات العالم . وقد خرج منها الاباء الفاذرية بايعاز من السلطات على العهد السابق لتبقى مدرسة عراقية يديرها عراقيون .

الاغاني والاسطوانات والراديو
بالنسبة لأغنية يا ظالمني لأم كلثوم والتي كانت تسمعها الأميرة عابدية بحكم صداقتها بأم كلثوم ، فقد كانت قد غنتها ام كلثوم نهاية عام 1954 ، فكيف جعلها كاتب النص في العام 1953 ؟ ولم يكتف كاتب النص بذلك ، بل راح يجعل الأميرة عابدية وصديقتها مديحة الداغستاني تسمعان أغنية ” لسه فاكر ” لأم كلثوم في العام 1954 او العام 1955 ، علما بأن هذه الاغنية التي كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى وقام بتلحينها الموسيقار رياض السنباطي ، قد غنتها ام كلثوم لأول مرة في حفل على مسرح حديقة الازبكية بالقاهرة يوم 7 ابريل / نيسان 1960 ، فكيف كانت الاميرة عابدية تسمعها في الخمسينيات ؟ وأسأل ايضا : اذا كانت اغنية ” أروح لمين ” لأم كلثوم ، وهي من كلمات الشاعر عبد المنعم السباعي والحان رياض السنباطي قد غنتها في نهاية العام 1958 ، فكيف كانت الاميرة عابدية تسمعها في العام 1954 ؟ كذلك لاحظت ان الاسطوانة الوحيدة التي كانت تعزف في كل الميخانات والمطاعم على طول المسلسل هي اغنية زهور حسين ( لولا الغرام ) ، وكأن ليس في الخمسينيات ببغداد الا مطربة واحدة اسمها زهور حسين ؟ ان وضع كرامفون قديم جدا في القصر الملكي لسماع الاسطوانات مثير للنقد ايضا ، فهذا الجهاز كان قد انتهى زمنه في الخمسينيات ، اذ حلّ بدله الاكرام ( الكاف تلفظ G) رفقة الراديو كبير الحجم ، فما هذا الخطأ الفني ايضا ؟ ومن متناقضات المسلسل انه يجمع الكرامفون القديم الذي كان قد انتهى زمنه ، وقد اظهره المسلسل لعدة مرات وآخرها في زفاف عبد الاله .. مع الراديو الترانستور الصغير الذي لم يخترع بعد ، فالترانسستور الذي اظهره المسلسل بيد المساعد المصري وقد وضعه على اذنه ليسمع قرار عبد الناصر في تأميم قناة السويس عام 1956 لم يكن له أي وجود .. ففي نهاية الخمسينيات اخترع الراديو الماسكت الكبير ذي البطارية الكبيرة ، وفي الستينيات اخترع الراديو الصغير الترانسستور !

فيضان بغداد
استطاع كاتب المسلسل ان يوّظف حدث فيضان بغداد عام 1954 من خلال ما فعله مسواقجي القصر لاغراض وطنية ، وكل ما قام به من اجل ان تنقسم بغداد بين كرخ ورصافة .. كذلك وظف حادثة الفيضان في القصر الملكي بخروج عبد الاله الى حدائقه تحت المطر الشديد وهو يخاطب السماء ان لا يكون هذا الحدث الجلل ( = الفيضان ) عقوبة لما كان قد اقترفه من ذنب ، وهو يتضرع الى الله ان يحمي فيصل .. وبالرغم من الاداء الممتاز للإخوة الممثلين العراقيين ، الا ان الفيضان لم ترافقه اية عواصف مطرية او رياح او رعود .. ففيضان دجلة في الربيع قد عرفه العراقيون منذ الازل ، وهو بتأثير ذوبان الثلوج سريعا ، وجريان دجلة السريع جدا .


الضباط الاحرار
19/ واخيرا اقول بأن ليس هناك منصب رئيس استخبارات الجيش في العراق .. ولم يكن هناك رتبة نقيب ( كما جاء في المسلسل عن النقيب ثابت يونس ) بل كان هناك رتبة عسكرية هي الرئيس .. وان صباح يوم 14 تموز لم تذاع المارشات العسكرية عبر الراديو ، بل بدأت الاذاعة بخطاب رقم (1) صادر عن القائد العام للقوات المسلحة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ، بصوت العقيد الركن عبد السلام عارف وقد تخلل ذلك نشيد الله اكبر ونشيد يا ويل عدو الله من ثورة الاحرار ولعدة ساعات مع توالي البيانات ، ودعوة عبد السلام الصارخة لجميع العراقيين الزحف على قصر الرحاب لاستئصال الخونة .. بعد ان قتل الملك وولي عهده وكل اعضاء العائلة المالكة ، فكان ان حدث ما حدث . ان قرارا قد اتخذ من قبل الثوار وعلى رأسهم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام عارف ومن رافقهما بقتل الملك وخاله عبد الاله وكل اعضاء العائلة المالكة رفقة نوري السعيد .. وان دفع التهمة الى عبد الستار العبوسي الذي نفّذ الامر مع سريته لا اساس له من الصحة ، اذ ان كلا من الزعيمين قاسم وعارف وقد حكا العراق لاحقا ، لم يصدر عنهما أي براءة بصدد الدماء الملكية التي سفحت فجر يوم 14 تموز 1958 في حديقة قصر الرحاب ، كما يشير الى ذلك العديد من الضباط والمسؤولين اللاحقين .

وأخيرا : ماذا اقول ؟
لقد ذهب الملك فيصل الثاني الذي حكم العراق خمس سنوات ، ضحية بسبب صراع خاله الامير ونوري السعيد واخطائهما .. بل ذهب ضحية اسباب لا حدود لها ، فهو ضحية للصراع الدولي والاييولوجي الذي تفاقم امره في الخمسينيات بين الشرق والغرب ، وهو ضحية الحرب العربية الباردة بين معسكر عبد الناصر والقومية العربية ومعسكر نوري السعيد والرجعية العربية ، كما اسموها ، وضحية الصراع الطبقي في العراقي بين الارستقراطية العراقية من الاعيان والاقطاع من طرف وبين البورجوازية الوطنية والطبقة المسحوقة من طرف آخر .. كنت اتمنى ان يكون المسلسل عنه اقوى بكثير مما اظهرته الشرقية هذا العام ، ولكن خاب أملنا فيها ايضا .
دعوني اقول ، سواء تقبلت قناة الشرقية رؤيتي النقدية لما قدمته من معلومات وتصويبات في دراسة تتألف من اربعة حلقات عن مسلسل تلفزيوني اسمه ” آخر الملوك ” .. ام انها ترفض ولا تقبل ذلك ، فان ذلك يؤشّر مدى دورها من اجل المصلحة العامة وتبرئة تاريخنا مما يرتكب ضده من اخطاء ! وسواء تقبل الاخ الكاتب ما رصدته على نصه من هنات وتصويبات أم لم يقبل مني ذلك ، فهو كاتب مسرحي عراقي اقدره وأثمّن امكاناته .. ولكن ما يهمنا جميعا هو مصلحة الحقيقة والتاريخ والناس والاجيال من بعدنا .. ناهيكم عن مخرج العمل الفنان القدير حسن حسني الذي له باعه في الاخراج المسرحي والتلفزيوني ، فضلا عن كل الفنانين العراقيين الاخرين الذين لا يمكن التقليل من شأنهم ابدا .
ان هذه ” الدراسة ” لا تخرج عن باب النقد التاريخي بلا اية دوافع سياسية ، او عوامل ايديولوجية .. متمنيا ان يفتح ما كان مسؤولا عن هذا العمل صدره رحبا لما كتبته على الرحب والسعة .. لكي نتعلم جميعا من هذه التجربة الثانية ، وكانت التجربة الاولى عن مسلسل الباشا نوري السعيد فاشلة هي الاخرى ، ولكن من دون ان يستفد احد من الأخطاء التي وقعت . انني اعترف بأن ظروف العمل خارج البلاد صعبة للغاية ، ولكن لابد ان نقول كلمتنا للتاريخ وخدمة للحقيقة التي لا يمكن ان يزعل منها احد ، فكتابة نص تلفزيوني عن الواقع شيئ ، ولكن عن التاريخ له مستلزمات اخرى ، وخصوصا ، في اعادة تاريخ مرئي مضى عليه اكثر من خمسين سنة !

انتهت

تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 4 اكتوبر 2010
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …