الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / كيف نفهم التاريخ الأميركي ؟

كيف نفهم التاريخ الأميركي ؟

لقد سجلت بعض ” الملاحظات ” التي ازعم أنها مهمة ، أثناء تدريسي لهذه المادة في إطار تاريخ العالم الحديث ، وكم وجدت أن الضرورة تقتضي في مجتمعاتنا التعّرف على التاريخ الأميركي ، والتعمّق في مجالاته ، وهو يغطي مساحة التاريخ الحديث منذ القرن السادس عشر حتى يومنا هذا ، ذلك ان كلا من القارتين الأميركيتين لا تمتلكان أي تاريخ للعصور الوسطى ، وعليه فان تاريخهما يكاد يكون امتدادا لتاريخ اوروبا الغربية . ولقد ازدادت الإصدارات الاكاديمية على امتداد العقدين الأخيرين ، التي توغلت ضمن مدارس واتجاهات مختلفة في الرواية الرسمية والتاريخ الشعبي للولايات المتحدة ، سواء ما يتعلق بالهنود الحمر ، أو طبيعة الحراك الاجتماعي والطبقات ، فوجدنا أنها تمتلك تاريخين متناقضين ، يتوجب الفصل فيهما بين ما هو رواية رسمية أو ذاكرة شعبية !
لقد برز بعض المؤرخين الأميركيين الذين لهم رؤاهم المتباينة ، ليقوموا بفضح نهج التاريخ الأميركي ، مستخدمين مباضع نقدية في حفرياتهم له ، لاستكشاف السياسات الأميركية التي مورست في القرن العشرين .. وثمة اضاءات لجوانب حقيقية من التفكير بسياسة القوة الأميركية التي اتبعت على امتداد حياة الإدارة الأميركية .. وربما نختلف مع بعض المؤرخين الأمريكيين في رؤيتهم للعالم ، ولكن دون شك فهم لهم نهجهم الواضح .. وقد نختلف معهم أيضا في عملية اختيارهم لوثائق دون أخرى ، لكنهم يتمتعون ، دون شك ، بالمصداقية والثقة والرؤية الواضحة . ربما صادفوا تعتيما وانزوى بعضهم بعيدا لبعض الوقت ، لكنهم زرعوا في طلبتهم وجيل كامل على امتداد ثلاثين سنة منذ انتهاء الحرب الثانية أفكارا غاية في الأهمية والوضوح ..
علينا أن ندرك أهمية معرفتنا العربية بالتاريخ الأميركي وموضوعاته ، شريطة عدم إسقاط الذات والطابع الشخصي على قراءته .. وان ندرك المناهج والأدوات المستخدمة في الحياة الأميركية كي نخاطبهم بنفس المنطق الذي يخاطبوننا به ، أو على الأقل ندرك الطريقة التي يفكرّون بها نحو مجتمعاتنا كلها ، فضلا عن كشف التشكيلات الجديدة في المجتمع الأميركي ، والتي تترجم فوضى الأفكار والاتجاهات التي تعج بها الساحة الأميركية ، سواء ما يخص المسلمين أو الصينيين أو الأفارقة أو المسيحيين الجدد .. الخ والموقف من الاسترقاق ، وفكر التعامل الجديد ، وفلسفة الاحتلال ، ومنطق الارتدادات( أو : الانسحاب )من أماكن حربية ، أو ساخنة ، أو التمرد والديمقراطية ، والإرهاب والفوضى الخلاقة ، فأميركا تمتلك مسلكين في التاريخ ، وليس تاريخا واحدا ، وهذان المسلكان تبلورا بين الانقسام والانسجام ، وبين الاكفهرار والنضوج ، فليس كل التاريخ الرسمي لأميركا له مسارات صائبة ، وليس كل تاريخها الاجتماعي على ما يرام ! لقد مرّت أميركا بفترات سياسية زاهية عدّت خلالها مثلا أعلى للعالم ، وخصوصا أيام الرئيس ولسن عند مطلع القرن العشرين ، عندما كانت تستلهم مبادئها الأولى في الحرية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب في الاستقلال وصنع الإرادة الوطنية ، ولكنها اتخذت لها مسارات متباينة اثر تفاقم الخطر الشيوعي ـ كما كانت تصفه ـ واندلاع الحرب الباردة ، اثر تقاعس أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
إن مشاريع الولايات المتحدة السياسية في العالم جعلتها عرضة للنقد الصارم من قبل شعوب العالم وأحراره ، وخصوصا بعد أن غدت السيدة الامبريالية الأولى في العالم لما قبل حرب فيتنام وما بعدها .. وكان عليها أن تسلك سلوكا معتدلا اثر سياسات الوفاق بينها وبين السوفييت من طرف وبينها وبين الصين من طرف آخر .. ولكنها مضت إلى حيث انتصرت على الاثنين اثر سقوط الأول وتغير الثاني ..وكان عليها التنّبه إلى سياساتها في الشرق الأوسط التي مالأت فيها علنا إسرائيل وخططها ، ولكن مضت إلى أن تعلن أنها ستجعل الشرق الأوسط واحة سلام وجنة أحلام ، فنقلته من بؤرة انقلابات أميركية إلى ساحة هزائم إزاء إسرائيل .. ثم أحرقته بالحروب الإقليمية مباركة التيارات المتشددة ، لكي تجد نفسها معه فريسة لما تسميه بـ ” الإرهاب ” ، وجاءت مشروعاتها في كل من أفغانستان عام 2002 والعراق عام 2003 لتدخلها طورا جديدا من التاريخ ..
إن التاريخ الشعبي لأميركا ، لا يمكن فصله البتة عن تاريخها الرسمي ، ذلك أن الاثنين قد تنوعا تنوعات واسعة ، فالشعب الأميركي يتركب من أصول وأعراق متباينة ، ولكن الثقافة الأميركية نفسها ترتبط ارتباطا عضويا بالتاريخ الرسمي الجديد ، فلا وجود لأي تاريخ شعبي أميركي بمعزل عن الإرادة السياسية التي تعبر عنها إعلاميات أميركية ، ولم يبق إلا أصوات نشاز من هنا وهناك تخالف كل ما هو سائد .. لقد كانت حركة السود تمتلك تاريخا من النضال مفعما بالآلام والحرمان نتيجة التهميش والإقصاء ، ولكن تحّللت تلك الحركة وذابت بعد مصرع زعيمها مارتن لوثر كنغ .. أما ما تبقى من بقايا الهنود الحمر ، فقلة ضئيلة في بحر من السكان المختلطين المهاجرين ، الذين يعبرون عن قوتهم في ظل كائن إمبراطوري شديد المراس ! وثمة تيارات سياسية معارضة لا تمّثل حقيقة الرأي العام ، منها تيارات لجاليات ولوبيات وأحزاب تنتمي إلى اليسار أو إلى هذا الطرف أو ذاك من المجتمع ، عقائديا وسياسيا وثقافيا .. إن مسار التاريخ الأميركي الحديث ، يحاكي الدولة في كل تطورها وسياساتها التي تتناقض هي نفسها من عهد لآخر ، ولكنها انتصرت بعد أن رسمت لها دستورا وخلقت منها آلة تعمل من تلقاء نفسها .. ولكن هذا لا يمنع من فضح ما يكمن في الشرائح الأخرى ، وخصوصا في المجتمع الذي اعتقد انه لا يمكن له أن يحيا أبدا دون هذه الدولة التي تطورت بشكل خارق على مدى مائتي سنة فقط من التاريخ الحديث .

نشرت في البيان الاماراتية ، 5 اكتوبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …