الرئيسية / الشأن العراقي / سيّدة البلاد المنكوبة

سيّدة البلاد المنكوبة

بغداد .. هذا الاسم الذي دوّى عبر الأزمان، وكانت سيدة البلاد في العالم ـ كما وصفها البلدانيون القدامى ـ وكانت منارة للعلم ، وشمس حضارة ساطعة .. بغداد التي ملكت الدنيا قبل ألف عام ، وقصدها ملايين الناس من كل حدب وصوب ، وتّسمت بعدة أسماء ، ولكنها اشتهرت كونها ” مدينة السلام ” ، ولكن الحروب والانقسامات قضّت حياتها ، فكانت تصارع الموت مرات ومرات ، ثم تعود لتجدد حياتها . بغداد ، عنوان العراق ورمز تجلياته على الدنيا ، بكل ملاحمها ومدارسها .. أسواقها وعماراتها الفريدة ، قبابها ومناراتها الملونة ، نخيلها وافياؤها .. إنها اليوم تعاني الويلات والآلام .. بغداد التي تغنى بها الشعراء والمطربون ، وتسامى بها العشاق والحالمون ، وعشقها الأولون والآخرون .. تعيش اليوم كآبة الأوبئة ، وعهر التخلّف ، وبلادة النفايات في كل زواياها ! منذ أن نهضت قبل مائة سنة ، وهي تجمع ولا تفّرق ، تستجيب ولا تتحدّى ، تتعاون ولا تبخل ، تحب ولا تكره .. كانت تعاني من خصومها وأعدائها المنتشرين في كل حدب وصوب ، وفي الداخل والخارج ، أولئك الذين يريدون النيل منها مهما كانت الأثمان .. فهم يدركون إدراكا حقيقيا ، انه بسقوط بغداد ، ومحو إرادتها ، وتشويه هويتها ، وكسر أنفها .. فإنهم يؤدون غرضهم الذي قاتلوا بغداد من اجله مئات السنين !
لقد فقدت بغداد عذريتها قبل خمسين سنة ، مذ تهتك بها المتهتكون ، وتلاعب بمصيرها العسكريون ، واجتاحها الحمقى والحاقدون ، وتزعمها الفجرة والمستبدون ، واستباحها المتحزبون .. وبقيت تعاني من آثامهم .. وعاشت مأساة الحروب والقهر والجور وكل العذابات .. سكتت عصافيرها بعد أن كانت تغني ، وهجرها أهلوها ، وعاث بها الأشقياء وقطاع الطرق ، وكانت على حافات الدمار بعد أن عرفت شوارعها السحل ونصبت في ساحاتها المشانق .. ثم انسحقت أيام حروب الخليج المأساوية التي أرادوا منها أن تكون بوابة دم وحيدة للأمة العربية .. أو بوابة جبهة شرقية ، أو بوابة لهذا وذاك ! وحوصرت حتى بانت عظامها ، وعادت لتسحق ثانية ، وقصفت ودمّرت ، وغدت بأيدي العابثين والساقطين والمحتلين .. أحرقت مكتباتها ، وحطمت آثارها ، ودمّرت مؤسساتها .. وقضي على روحها ، من اجل تغيير نظام سياسي جائر ليس إلا ، والإتيان بنظام سياسي ( ديمقراطي ) .. ولكن لم يحدث إلا أن أبدل طاغية مجنون بحفنة من الفاسدين المارقين ، وألغيت سلطة عائلة واحدة ، لتحل محلها سلطة طوائف ، وتقهقهرت قوى عسكرية وأجهزة مخابراتية ، لتحّل بدلها قوى طائفية وميليشيات ومرتزقة .. هكذا أرادوا بغداد أن تكون !
أكثر من سبع سنوات مضت ، وبغداد تعيش أسوأ حالاتها .. وسيسجل التاريخ ما حلّ بها من دمار وتهجير وقسوة وفساد .. كومة أشخاص لم يعرفوا إدارة قطيع أغنام ، جعل الاميركان منهم زعماء مسكوا ببغداد وبكل العراق ، فلم ينفكوا عن السلطة ، فالقوة في أيديهم ، والنفوذ والمال تحت سيطرتهم ! إنهم لا تهمهم بغداد ، ولا كل العراق ، بقدر ما تهمهم مصالحهم وامتيازاتهم .. إنهم رهط لم يعرفوا شيئا عن عظمة بغداد ، ولا عن دورها الحضاري عبر التاريخ .. إنهم ينكرون تاريخها وعروبتها ، ويكرهون جغرافيتها ومركزيتها .. إنهم يمقتون رموزها الحضارية ، بل ويكرهون عظماءها كراهية عمياء .. ويجزعون من أسماء شعرائها وعلمائها وفقهائها وأدبائها ومؤرخيها ومتصوفيها .. إنهم يتهمونها بتهم البغي والفساد .. ويمقتونها عاصمة عراقية توحّد بلاد الرافدين ، فكيف يقبلونها نقطة إشعاع حضاري في المستقبل ؟ إذا كانوا لا يعترفون بها جنة على الأرض حيث الجمال ، ودجلة الخير ، ورومانسية العشاق ، وانفتاح المثقفين ، ومنتجات المبدعين ، وذاكرة الدنيا عن ألف ليلة وليلة .. وزهو الألوان، وليالي الشواطئ .. فكيف تريدهم ينتشلونها من محنتها اليوم ، وهم يتراقصون على ضياعها وانسحاق رسومها ؟؟ لم يرق لهم أبدا أن يتعايش الناس في بغداد مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم وألوانهم وأطيافهم وأعراقهم : عربا وغير عرب ، مسلمين ومسيحيين ويهود ، سنة وشيعة ، اكثريات وأقليات .. الخ لقد كان مجتمع بغداد صفحة حضارية رائعة للتعايش والمحبة والسلام ، ورمزا متساميا لحقوق الإنسان عبر مئات السنين ، فغدا الناس اليوم يتساقطون صرعى لأسباب دينية وطائفية وعرقية وجهوية وعشائرية وبوسائل إرهابية بشعة .. لماذا تفسخ المجتمع ؟ ومن كان وراء انقسامات بغداد وكل العراق ؟ من كان وراء تهجير العراقيين منذ عشرات السنين ؟ من كان وراء زرع الفتنة وإذكاء الأحقاد في العراق ؟ من كان وراء تآكل حياة بغداد يوما بعد آخر ؟
السؤال الآن : كيف تستعيد بغداد أنفاسها من جديد ؟ هل يستفيق الزعماء الجدد على ما يفعلوه بالعراق ؟ هل من وعي جديد بعظمة بغداد ؟ كيف تتخلص بغداد من كل آثار التحديات المريرة التي تواجهها ؟ كيف تهجع بغداد سياسيا وهي بيت داء السلطة .. كي تتحرر من قيود الآخرين ، وتتخلص من أحقاد الطائفيين والشوفينيين والإرهابيين والفاسدين .. لتعيش حياتها حرة ومنفتحة على العالمين ؟ كيف تتمكن من استعادة روحها الحضارية والثقافية والإبداعية وحتى الاجتماعية المسالمة وعلى أيدي أبنائها المدّمرين ؟ العالم يؤسس حكومات الكترونية في عواصمه ومدنه .. وسياسيو بغداد ومعمّموها ما زالوا يتصارعون على نيل السلطة وزرع المفاسد ! عواصم العالم ومدنه تتسابق بجمالياتها ونظافتها وأنظمتها وخدماتها وأنوارها وألوانها .. والعاصمة بغداد ، تتبدد ثرواتها المقدرة بمليارات الدولارات اليوم ، وهي لم تزل متخلفة ومنقسمة ومخطوفة وكئيبة ومظلمة ومسحوقة ومهدمة ومنغلقة ومخيفة ، لا تعرف إلا الدم والدخان والأحجار والازبال .. فمتى تشرق شمس بغداد من جديد ؟ متى ؟

نشرت في البيان الامارتية ، 25 مايو / آيار 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …