الرئيسية / افكار / على ورق الورد.. الثقافة العربية تحتاج إلى غرفة إنعاش

على ورق الورد.. الثقافة العربية تحتاج إلى غرفة إنعاش


روعة الاستهلال والتكوين
ما جرى للثقافة العربية ، إنها حصيلة ما أنتجه تاريخ نهضوي حديث ، انطلق منذ قرنين بالضبط مع بدايات عهد محمد علي باشا ، كي تتحرك مجتمعاتنا قليلا ، وتنتفض على سكونياتها القاتلة .. إنها ـ باختصار ـ المعبّر عن واقعنا خطابا وفعلا ، وهي تتضمن مقول القول نصا وإبداعا ورسوما وأشكالا .. رؤى ومصورات وأفلاما ، ولما كانت ” اللغة ” هي الأداة الحقيقية للتلقي والفهم ، فلقد استقر المفهوم ، كما هو حال بقية الأمم الأخرى ، على أن مثل هذا التكوين يدعى منذ تلك اللحظة التاريخية بـ ” الثقافة العربية ” التي أشترك في صناعتها ومنتجاتها كل من أبدع فيها ، كي تغدو جزءا حيويا من مشروع نهضة ، وبأيدي متلقيها ومستهلكيها . إن الثقافة العربية ولدت في رحم النهضة الأولى ، ومرت بمراحل تاريخية على أيدي أجيال متعاقبة ، وكانت ” اللغة ” هي العمود الفقري للشراكة بين المجتمعات العربية التي كانت تعرف بعضها بعضا في ما سبق ، من خلال حركة الطلبة والعلماء والأدباء والسوق المشتركة والحج .. الخ .
اليوم ، بدأت الثقافة طورا جديدا مع ولادة أولى للمطابع والصحف والمنشورات في مصر .. ومع ولادة المسرح والفنون الحديثة والتي توجّت بالفن السابع ( = السينما ) . وولدت الثقافة السياسية ، لأول مرة ، وانطلاق الحياة الحزبية بمصر مع التجمعات ونمو التيارات الجديدة .. كان للنخبة المثقفة والنخبة السياسية دورهما معا في إثراء الفكر السياسي الحديث.. ومع ما كان من سلبيات للاحتلال البريطاني، إلا انه ساهم بالضد، خصوصا ، دفعه باتجاه تطور النزعة الوطنية .. إن الثقافة العربية إبان النصف الأول من القرن العشرين ، قد وصلت إلى أوج ذروتها ، وخصوصا ، في مصر التي أنجبت نخبا من المبدعين في كل المجالات .. وبقدر ما كانت مصر عهد ذاك قد ملكت ناصية الإبداعات في الأدب والرواية والشعر والموسيقى والمسرح والطرب والتمثيل والسينما والنقد والصحافة .. وصولا إلى التاريخ والآثار والقانون .. الخ فان مصر في وجهها الآخر كانت تعيش صراعا طبقيا مريرا ، وخصوصا في الريف المصري الذي كان يعاني من سطوة الطبقية والإقطاع ، بالرغم من أغنية مزيفة رددها الملايين على لسان المطرب الشاب عبد الوهاب وهو يتغنى بـ ” محلاها عيشة الفلاح ” !!

الثقافة العربية : من حديقة غّناء الى قيظ صحراء
استطيع القول أن الثقافة العربية اليوم ليست ميتة تماما ، بل أنها صحراء قاحلة الا ما ندر من واحات هنا أو هناك بعد أن كانت حدائق غناء مزدانة بأشجارها الوارفة ، وخضرتها اليانعة ، ومياهها الرقراقة .. لقد دمرتها الوحوش الكاسرة منذ خمسين سنة مضت. لقد وقعت الثقافة بكل ثقلها في مصر وكل البيئات العربية الأخرى ( باستثناء لبنان ) تحت سطوة السلطات السياسية وسياساتها الارتجالية التي أدارها أناس حمقى ، ومنهم ضباط وعساكر ، لم يتمتعوا بأي مشروعية حقيقية .. لقد نال من الثقافة العربية التي أنتجها عصر النهضة كل من الانقلابات العسكرية ، أو الأحزاب الفاشية ، أو القبليات الجاهلة .. بل ولوحق عصر النهضة ، نفسه ، بتحطيم الأساليب التربوية القوية ، وتغييب الفكر ، وابتذال الثقافة نفسها التي غدت مجرد مسمّيات وعناوين ملحقة بسياسة هذا النظام أو ذاك .. جعلوها تدور في فلكهم ، وهمشّوا مبدعيها ، وكبلوا ألسنتهم ، وسجنوا تفكيرهم .. وخلقوا بدائل هشة للعناصر المثقفة الحقيقية ..
لقد ابعدوا الثقافة عن الواقع بجعلها تخدم الأنظمة الحاكمة ، وإيديولوجيات الأحزاب السياسية ، بدل أن تبقى الثقافة ، حرة ومستنيرة في خدمة المجتمع . وبدل أن تتطور الثقافة ، وتخصّب كل مجالاتها الحيوية على أيدي محترفين أقوياء ، ومهرة حاذقين في الفكر ، وأساليب الحياة ، والتربية ، والأدب ، والفن ، والتشكيل ، وكل فولكلوريات المجتمع ، إلا أنها غدت مزيفة ومحتقنة ومحدودة وتمثّلها مجموعة هياكل لا تستقيم وطبيعة الحياة ولا البيئة ولا الواقع نفسه .. ونحن والعالم كله يعلم ، إن الثقافة أحد ابرز أدوات التعبير الحي عن الواقع المعاش بكل ايجابياته وسلبياته . نعم ، إن الثقافة الحقيقية هي أسلوب حياة ، وتعبير حيوي عن واقع بكل ما له وعليه . انه الأسلوب الذي إن تطور ، فسيكون له وجود وتأثير بكل هيئته في الثقافة الإنسانية .. لقد كانت بداياتنا الثقافية رائعة جدا على أيدي نسوتها ورجالاتها .. ولكنها غدت بفعل الهوس السياسي ، والشعارات الفارغة ثقافة مستلبة وهشة ومكبلة .. وكثيرا ما أصف العقل العربي ، مستنيرا ومبدعا ومنتجا في النصف الأول من القرن العشرين ، وقد غدا طبلا فارغا يقرع لسلطات زعيم جائر، أو يمجّد لهزيمة منكرة ، بل وأصبح كحصاة في علبة فارغة ، ليس لها إن حركتها إلا الصخب وصناعة الفوضى ! فمن ذا الذي يخرج العقل من هذه العلبة التي نجدها اليوم صدئة عتيقة ؟ ومن يطلقه من زنزانة مظلمة اعتقلوه فيها لأكثر من خمسة عقود من الزمن المشؤوم ؟

ثقافة مصر .. اليوم : بصيص الامل الموعود
لم يزل دور مصر واسعا وكبيرا من الناحية الثقافية ، إذ لا يمكن لأي عاقل أن ينكر هذا الدور الذي أجده بالرغم من كل ما حاق به من ظروف صعبة ، وتحديات قاسية .. لكنه الأقوى عربيا .. وانه يمّثل الثقل الحقيقي لمركزية مصر ليس الثقافية حسب ، بل الجغرافية لعالمين اثنين على جناحيها ، وهي بينهما ، حلقة وصل لا ينكرها احد .. إن دور مصر الحالي ثقافيا لا يقتصر على مجال واحد ، فان كانت الصحافة المصرية مستمرة منذ بداياتها الأولى في القرن التاسع عشر ، فان سوق الكتاب العربي هو الأقوى في مصر .. كما تشهد مصر احتدامات ثقافية من حين إلى آخر بسبب الصراعات السياسية التي أجد بأن لا معنى لها كونها لا تنطلق من أسس فكرية ووطنية حقيقية ، بل هي ايديولوجية وشعاراتية .. صحيح إن الفن المصري قد ضعف كثيرا مقارنة بما سبق ، وخصوصا ، الغناء والموسيقى ، فان الحركة التشكيلية والحركة الدرامية هي الأقوى ليس من ناحية النوع ، بل من ناحية الكم الذي لم يستطع العرب البقاء من دونها . إن الفلم المصري بالرغم من فترات ضعفه التي مر بها ، ولكن أجد أن مصر وحدها التي لم تزل تنتج الفلم عربيا .. كما أن سوق المسلسل التلفزيوني هو الذي يفرض نفسه على الساحة .. الأدب أيضا ليس كما كان ، بل أجد أن جيلا مصريا جديدا ، بل وعربيا ناشطا له قدرات متفوقة وطموحات عالية لولا كل النزق السياسي .. إن دور مصر الثقافي لم يزل محتفظا بريادته بالرغم من كل الظروف الصعبة المحيطة به .. وخصوصا الهجمات التي يتلقاها من أوساط مصرية منغلقة داخلية ، ومن تجاهل عربي خارجي سببه تباين سياسات دول ، أو انقطاع ، بلا أسباب حقيقية .

القومية العربية انتهكت العروبة الثقافية
إنني اشمئز جدا من البعض الذي يتنطع بتحجيم دور مصر والتهجم على الدور المصري من دون أي مبرر .. واشعر بالغثيان ، أيضا ، إن وجدت مصريا يشتم الثقافة العربية وهو بلا مرجعية أخرى يستند عليها . إن الثقافة السياسة العربية تحفل اليوم ، بمجموعة واسعة من التناقضات ، وخصوصا ، بعد فشل المشروع القومي في تحقيق ليس أهدافه فقط ، بل ما أصابنا من خلال تأثيراته وتداعياته من كوارث ونكبات وأصوليات متعصبة .. وكان ولم يزل لا يحاول تجديد نفسه ، ولا يعتذر من مجتمعاتنا عن أخطاء ارتكبها أساسا ضد الثقافة العربية . المشكلة عند الجميع اليوم تكمن في الخلط بين قيم العروبة الثقافية التي تجمعنا كلنا منذ القدم وبين مؤدلجات القومية العربية التي وصلتنا حديثا تأثرا بأوروبا .. وأصبحت العروبة ـ ويا للأسف الشديد ـ مدفنا لكل الموبقات لدى الناس .. وخصوصا ، عندما احتكر القوميون ” العروبة ” سياسيا ، لهم وحدهم ، وبأساليب فاشية من دون الاعتراف ببقية الثقافات المشتركة بين ظهرانينا . إنني أجد ، من الصعب جدا على أي عربي في هذا الوجود أن يعبر عن استياء سياسي بالتهجم على الثقافة العربية كلها .. ومن الجانب المقابل ، أجد أن البعض ممن يشاركنا العيش في مجتمعاتنا ، إنما يزيدون من هجمتهم على الثقافة العربية ، وعلى المجتمعات العربية الأخرى لأسباب لا تقدم ولا تؤخر من حركة تاريخ اجتماعي مثقل بشراكاته وتعايشاته ، وقد أمسى واقعنا العربي المرير اليوم مشحونا بتعصباته وانقساماته .. دعوني أناقش هذا الموضوع فكريا ونقديا في حلقة قادمة بحول الله .

مجلة روز اليوسف المصرية ، 18 ابريل / نيسان 2009 ، وينشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …