الرئيسية / مقالات / رحيل جرجيس فتح الله المحامي.. مثقف موصلي وسياسي عراقي متنوع الانتماءات… تشظيات الرعب من المقصلة العراقية !

رحيل جرجيس فتح الله المحامي.. مثقف موصلي وسياسي عراقي متنوع الانتماءات… تشظيات الرعب من المقصلة العراقية !

المقدمة: العراق يفارقه المبدعون
دعوني احدثكم اليوم عن شخصية عراقية معروفة ، ولكن لها امكانات من نوع نادر غادرنا قبل ايام بكل هدوء وهو يلتحق بقافلة من المثقفين العراقيين الحقيقيين الراحلين الذين سبقوه نحو اللا عودة .. لقد رحل جرجيس فتح الله عصر يوم الأحد المصادف 23 تموز2006 اثر نوبة قلبية ، وقد جرت في توديعه مراسيم لائقة بكنيسة عين كاوة ووري جثمانه الثرى بمقبرتها . عين كاوة : هذه البلدة الكلدانية الجميلة الواقعة على سفح جبل في الطريق بين المدينتين الجارتين الخالدتين : الموصل واربيل . لقد جمع الراحل في وصفته كل الانتماءات العراقية فهو عراقي مسيحي كلداني كاثوليكي تقدمي يساري شيوعي يؤمن بالحركة الانسانية ومثقف بشكل رصين بالعربية ومنتم بشكل قوي للاكراد وللقضية الكردية ومدافع عن الحركة الآثورية .. الخ
في نهاية كل شهر من الشهور الثلاثة المنصرمة افتقدنا على التوالي : الشاعر كمال سبتي في نهاية مايس / آيار ، والفنان عوني كروّمي في نهاية حزيران / يونيو ، وكل من الاديب جليل القيسي والمحامي جرجيس فتح الله في نهاية تموز / يوليو . وستبقى عجلة الموت تلف في دورتها ما تبّقى من مبدعين ومثقفين عراقيين لا يمكن للعراق ان يعوّضهم أبدا ، او أن يأتي بمثلهم لخمسين او اكثر من السنين .. مبدعون عاشوا زهرة حياتهم في النصف الثاني من القرن العشرين وعانوا كثيرا من قسوة النظم السياسية ومن تناقضات الحياة الاجتماعية العراقية التي وصفتها احدى الصديقات المثقفات العراقيات وهي تعيش اليوم في قلب بغداد قائلة : من سوء قدرنا اننا عشنا طويلا حياتنا جنبا الى جنب اناس ما كنا ندري اننا نتعامل مع وحوش ضارية لا يمكن ان نجد شبيها لها في هذا الوجود !

جرجيس فتح الله .. من يكون ؟؟
دعوني اكتب اليوم ذكرى شاهد الرؤية عن الاستاذ جرجيس فتح الله المحامي الذي رحل عّنا قبل ايام رحلة ابدية بعد ان عاش حياته المتنوعة محاميا قديرا وسياسيا مناضلا ومثقفا حقيقيا .. لقد جمع المهنة والسياسة والثقافة في آن واحد ، وهذا ما لم يتمتّع به غيره من السياسيين العراقيين الا النادر من الرجال .. كان لا يهّمه لما وراء الواقع ، اذ كان يؤمن من خلال تفكيره الماركسي بالواقع . وعليه ، فقد كان ملتصقا بهموم شعبه وتطلعاته التقدمية ومواقفه الوطنية .. وسواء اتفقنا ام اختلفنا معه سياسيا وايديولوجيا ، فان اسم جرجيس فتح الله سيبقى رمزا لتاريخ من المتاعب والالام والهجرة والاغتراب والعودة مع استبدال هوية ..
سواء تذكّره العراقيون ام تجاهلوه ، فان اسمه سيبقى ضوءا كاشفا فرش ارض الثقافة العربية بالاضواء الساطعة من خلال كتاباته ومقالات صحافته وترجماته وتحقيقاته ومؤلفاته بالعربية .. واعتقد ان ليس هناك حصرا معينا لكتبه ومؤلفاته وترجماته ومقالاته وكل ما تركه من موروث زاخر لا يعد ولا يحصى .. انني أتألم ان أرى مثقفا بحجم جرجيس فتح الله لا يلتفت اليه ابناء العراق لا في حياته ولا حتى في مماته .. ليمضي راحلا رحلة ابدية ليرى فيه بعض الناس فقيدا حقيقيا للثقافة العراقية الحديثة ، في حين يعتبره آخرون فقيدا لاقليم كردستان وحده .. ويتنّكر له آخرون .. فمن يعرف هذا الرجل معرفة حقيقية ويقرنه بغيره من المثقفين العاديين او الساذجين سيجد كم فقدت الثقافة العراقية برحيله الكثير .. هو ومن سيرحل معه من المتمّيزين الذين اعتقد جازما ان من الصعب على العراق ان ينجب امثالهم لخمسين سنة قادمة .

ابن الموصل .. ابن ام الربيعين
جرجيس فتح الله من جيل موصلي متمدن رصين تمّيز في كل من تربيته وتكوينه في فترة ما بين الحربين العظميين .. ليبدأ نشاطه الحقيقي بعد الحرب العالمية الثانية وهو ابن حقيقي للموصل المدينة التي تمّيزت منذ القدم بعراقة مدارسها وقوة ثقافتها .. انه ابن سكانها المسيحيين الكلدانيين القدماء ، يقال انه ولد في العام 1922 ( وربما في العام 1920 ) في مدينة الموصل ، درس في بداية امره بمدرسة الكنيسة الكلدانية للكاثوليك ثم أكمل دراستيه الابتدائية والثانوية فيها .. ونجح في تثقيف نفسه رفقة ابناء جيل رائع يعشق الكلمة والحرية والقراءة .. جيل كان يبحر في المكتبة العامة المركزية قرب ميدان المتصرفية وقرب حديقة الشهداء .. يبحر في كل الاتجاهات الفكرية والسياسية وخصوصا في ثلاثينيات القرن العشرين ، وهو العقد الزمني الذي عجّ العراق بكل التجديدات والتيارات ، وكما قلت في كتابات اخرى ان الثلاثينيات العراقية قد افرزت اتجاهين حملا التضاد لبعضهما الاخر : اتجاه وطني عراقي واتجاه قومي عربي .
ولما كانت كلية الحقوق العراقية تعد في ذلك الوقت من اهم كليات العراق ، فكان ان انخرط فقيدنا فيها في العام 1939 وقد تخّرج بعد اربع سنوات ليزاول مهنة المحاماة في الموصل فكان زميلا لوالدي ـ رحمه الله ـ وصديقا له اذ كانت ثمة مجموعة من المثقفين الموصليين في الاربعينيات تجمعهم اواصر المهنة والثقافة بعيدا عن أي دين او مذهب او طائفة او سياسة .. ضمّت المجموعة : مجيب سليم حسون وكوكب علي الجميل وسالم جلميران وسالم الديوه جي وجرجيس فتح الله وجرجيس سرسم وعبد الله الشبخون وعبد القادر العبيدي وفيصل الحافظ ومحمد طاهر النقشبندي والبير قسطو وغيرهم .

الماركسي .. الموصلي

لابد ان ندرك بأن الموصل شهدت اثر الحرب العالمية الاولى ولادة اولى الافكار التجديدية والنهضوية على ايدي مثقفين ومبدعين وادباء نهضويين تميزوا بافكارهم الحرة واستنارتهم المضيئة .. نذكر منهم : الصحافي داود صليوا والدكتور داود الجلبي والدكتور فاروق الدملوجي والمصلح علي الجميل وخير الدين العمري وسليم حسون وتوفيق السمعاني وعبد الله فائق المحامي وثابت عبد النور والمؤرخ صديق الدملوجي والدكتور استراجيان والدكتور جميل دلالي والقس سليمان صائغ وروفائيل بطي وغيرهم مما اتاح ولادة بيئة ثقافية احتضنت تيارات وتبلورت تجديدات .. وعليه ، بقدر ما وجدت الافكار الماركسية نفسها في مدينة الموصل منذ زمن بعيد بتأثير ولادة نخبة مثقفة تجديدية بعيد الحرب العالمية الاولى والتأثر مباشرة بثورة اكتوبر الاشتراكية عام 1917 ، فقد كان هناك تيار المحافظين يشتد ويقوى حتى ولد الصراع بين القوميين والشيوعيين ليصل الى حالة الاحتقان التاريخي مما مهّد لكي يصطدم كل من التيارين ببعضهما في حركة الشواف عام 1959 ، فحدث ما حدث .
لقد بدا جرجيس فتح الله مهموما بالعراق منذ ان بدأ يتبلور وعيه الاول .. وقد شغل تفكيره اليسار السياسي منذ مطلع شبابه وقد صقله بالقراءات التي لا تحصى عن الماركسية وقد تأّثر لأول مرة بافكار من سبقه من المثقفين الموصليين اليساريين الاوائل امثال : يحي قاف وذو النون أيوب وكامل قزانجي المحامي وغيرهم .. لقد انخرط الرجل في العمل السياسي في نفس الوقت الذي كان فيه يكتب ويترجم ، اذ يقال انه لم يضّيع من وقته أي دقيقة من دون ان يستثمرها في امر ما .. انضّم في خمسينيات القرن الماضي الى حزب الشعب اولا الذي كان بقيادة الاستاذ عزيز شريف .. وكان فتح الله معجبا جدا بأفكار هذا السياسي البغدادي الشهير الذي بنى صداقة قوية معه .

انشطته السياسية الموصلية والتحول الى الثورة البارتية
وفي الموصل ، كان ينشر مقالاته في العديد من الصحف والمجلات التي زخرت بها مدينة الموصل والتي كانت تعج بتيارات سياسية متنوعة وخصوصا التيار الوطني الليبرالي والتيار القومي العروبي والتيار اليساري الماركسي .. وثمة تيار اسلامي يعّبر عنه مجموعة من الاسلاميين .. ترأس جرجيس فتح الله تحرير صحيفة (الروافد ) وكتب افتتاحياتها ، ثم أصدر جريدة (الرائد ) وكتب ادبياتها السياسية . لقد تعّرض للمساءلات العديدة حول مواقفه السياسية وكتاباته الراديكالية ابان العهد الملكي ، ولكن من دون أي أذية .. ويبدو ان الرجل قد اختار الحزب البارتي (= الحزب الديمقراطي الكردستاني ) ليعّبر من خلاله عن افكاره ومواقفه بعيدا عن افتراقات الحزب الشيوعي العراقي .. ويبدو انه وجد حقيقته في التعبير السياسي لدى ثورة الاكراد من اجل حقوقهم القومية مجالا له كي يعارض الانظمة السياسية التي حكمت العراق منذ العام 1958.
لقد اصدر بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 جريدة (الحقيقة – راستي ) باللغتين الكردية والعربية ليشرف هو بنفسه على قسمها العربي ، واشرف على القسم الكردي المثقف الكردي الراحل انورمائي ، ولقد عرفت ( الحقيقة ـ راستي ) بدفاعاتها عن القضية الكردية في العراق ومطالب الاكراد القومية والتعريف بكل كردستان العراق ، وهذا ما عارضته الحكومات السابقة بدءا بحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي اعتبر الوحدة الوطنية ركيزة مقدسة للجمهورية العراقية التي اسسّها عام 1958 . لقد تعّرض الرجل لمضايقات عدة وتوقيفات عدة واحيل الى المحاكم العرفية ومحاكم أمن الدولة لمرات عدة .
اعتقل بعد انقلاب 8 شباط / فبراير عام 1963 من قبل البعثيين وحكم عليه بالأعدام ، ولكن لم ينّفذ به الحكم ، وبقي طوال خمس سنوات ينتظر تنفيذ الحكم الذي تأجل ـ كما يقال ـ بسبب اصرار القيادة الكردية على الأفراج عنه ، اذ افرج عنه في العام 1968 ، ومنذ تلك اللحظة التاريخية كان تفكيره وموقفه واهتمامه ومصيره قد وضعه مع الاكراد الذين وقفوا معه وقفة مشّرفة ، فبدأ العمل في صحيفة التآخي ببغداد ، ويبدو ان سنوات السجن وانتظار المشنقة لم تكن مثبطة لعزيمته ولا مؤثرة في نفسه اذ كان يتواصل مع الثقافة .. ترجم كتابين مهمين هما (مهد البشرية) و(رحلة الى رجال شجعان ) معّززا مكانته عند الاكراد العراقيين الذين وجدوا فيه عراقيا مخلصا لهم يساندهم في حمل مشعل قضيتهم القومية لا مطالبهم السياسية فقط . ونقف على كتاب آخر عنوانه ” زيارة للماضي القريب ” يوّثق فيه الحركة الكردية ..

ظاهرة مثيرة للتساؤلات
ان استقالة جرجيس فتح الله من حزب الشعب وانضمامه الى الحزب الديمقراطي الكردستاني ( = البارتي ) يعد ظاهرة محّرمة في عرف العراقيين وقت ذاك ، فالسياسات العراقية حتى وهي تتعامل مع البارتيين تعتبر ولاءهم للعراق ضعيفا من دون ان تجد في الاخرين مثيلا ! وهكذا ، بقي جرجيس فتح الله وفيا للحركة الكردية ولزعيمها الملا مصطفى البارزاني على مستويين اثنين : المستوى الثقافي ويتمّثل بما قدّمه من نتاجات مترجمة او تأليفه للكتب التي تعنى بالقضية الكردية واشرافه على العديد من البرامج الثقافية وتدريسه لمواد في معهد الكوادر .ويتمّثل المستوى السياسي بما قدمه من جهد في مؤسسات الحزب البارتي ومطبوعاته واشرافه على العديد من البرامج الثقافية وتدريسه لمواد في معهد الكوادر.
لقد شارك جرجيس فتح الله في المؤتمر الثامن للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي عقد عام 1970 واصبح عضو احتياط في اللجنة المركزية للحزب . وانهمك الرجل سنة1974 في اعداد مشروع الحكم الذاتي والفيدرالية لتقديمه الى الحكومة المركزية ، الا ان المشروع لم ير النور بسبب اندلاع الصراع مجددا. وبعد الانتكاسة المريرة في العام 1975 اثر توقيع صدام حسين معاهدة الجزائر مع شاه ايران محمد رضا بهلوي ، غادر فتح الله العراق متوجها الى ايران ، ومن ثم وصل الى السويد وبقي فيها ردحا من السنين ، تنّقل في بلدان اوربية عدة لحين عودته الى كردستان العراق في العام 2000 ليواصل نشاطه الثقافي والأدبي فاصدرعدة كتب اتحف بها المكتبة العراقية والعربية. لقد كنت اسمع عن جرجيس فتح الله من البعض وهم يستغربون تحّوله الى مناضل يعّبر عن الاماني القومية للاكراد .. فلا استغرب ابدا ، اذ ان من ورائها جملة من التأثيرات البيئية والجغرافية فضلا عن ردود الفعل التي عاناها الرجل من قسوة النظم الانقلابية العراقية جعله ينتمي الى من منحه الامان ، بل وخلّصه من حبل المشنقة !

بعض آثاره من مؤلفاته وترجماته :
واذا كان البعض ينكر على جرجيس فتح الله مواقفه السياسية ، فلا اجد مبررا ابدا نكران جهوده الثقافية الواضحة والمهمة ، اذ كان لنتاجه الثقافي الغزير دوره في رفد الثقافة العربية بكل جديد .. ومن مؤلفات وترجمات جرجيس فتح الله اسجل ما كنت قد اطلعت عليه او قرأته او اقتنيته ، فمؤلفاته لا تعد ولا تحصى من بين ابرز مترجماته كتاب تاريخ الموسيقي العربية حتى القرن الثالث عشر تأليف المستشرق جورج فارمر وكتاب تراث الاسلام ( بمجلدين ) للمستشرق الشهير توماس ارنولد ، وكتاب كرد وترك وعرب لمؤلفه سي. جي. ادموندز وكتاب الحياة في شرق كردستان لمؤلفه وليام أي . ويكرام وادكار ويكرام وكتاب زيارة للماضي القريب وكتاب مهد البشرية : الحياة في شرق كردستان وكتاب رجال ووقائع في الميزان ( حوارات اجريت معه ) وكتاب العراق في عهد قاسم ( تاريخ سياسي 1958- 1963) لمؤلفه اوريل دان ، وكتاب كارمن ( اوبرا ) وكتاب رواية يوم اخر لمحكوم بالموت لفيكتور هيجو .. ومن مؤلفاته اذكر : مباحث آشورية : تاريخ ما اهمله التاريخ وكتاب العراق في عهد قاسم : آراء وخواطر 1958-1988 وكتاب : يقظة الكرد وكتاب : مغامرة الكويت : الوجه والخلفية ، وكتاب نظرات في القومية العربية مدّا وجزرا حتى العام 1970 تاريخا وتحليلا ، وكتاب أضواء على القضية الآشورية ( مذابح آب 1933 نموذجا ) . ومن تحقيقاته : مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيد الله النهري .. وغيرها كثير مما لا يحصى ولا يعد ، وكنت قد اطلعت منذ سنوات طوال على كتبه الاولى وعليها اهداءاته الجميلة الى والدي صديقه القديم .

قيمته كمثقف عضوي : الايمان بالانسان بلا تفرقة !!
لقد ارتبطت ثقافة جرجيس فتح الله بتفكيره السياسي .. ولقد عّبرت كل من ثقافته ومعلوماته الى جانب رأيه وموقفه السياسي عن هموم العراقيين وأمانيهم وآمالهم لابد لي ان اقول بأن هذا المثقف الراحل لم يدرس اللغة الانكليزية في أي معهد متخصص بها ، بل درسها مع نفسه واجاد العمل بها اجادة تامة .. اذكر انني كنت ارجع دوما الى كتاب تراث الاسلام الذي ترجمه فتح الله بمجلدين اثنين وكانت ترجمته محكمة جدا وهي تتفوق جدا على الترجمة العربية الاخرى للكتاب والتي قام بها مختصون لهم حرفيتهم .. لقد وجدته مؤرخا محقّقا للنص ومدققّا لما يتضّمنه من اجل ابراز الحقيقة .. كان الراحل يدقّق في ما يكتبه وما يقدّمه للناس .. وبالرغم من بعض الهفوات في ترجمة او بحث الا انه كان مثقفا من نوعية جامعة وشمولية ، فهو محترف للقانون وواحد من المحامين المهرة الناجحين ، وهو مثقف عالي الثقافة اذ يستطيع ان يبحر مع سامعيه او المشاركين معه في بحر واسع من المعلومات والاحداث والشخوص .. ولكن لا يمكن ان تقرن كتاباته بما يكتبه المؤرخون من الاكاديميين العراقيين المعروفين الذين تميّز كل واحدا منهم بمنهجه في الكتابة التاريخية .. وهو سياسي من نوع خاص له ثوابته وقناعاته وافكاره التي يتفانى في الدفاع عنها .. انني كما وجدته لا يكترث لا لدينه ولا لتاريخه ولا لارضه ولا للاشياء الصغيرة او الكبيرة .. انه يؤمن بالانسان بلا تفرقة !

ذكريات شاهد الرؤية
لم اكن اعرفه وانا طفل يافع في الخمسينيات عندما يلتقي هذا الرجل بوالدي اذ كانت تربطهما عرى صداقة حميمة . ولكنني اقول انني التقيت بالفقيد جرجيس فتح الله المحامي مرة واحدة في حياتي والتي كانت في لندن في العام 1981 على ما اظن ، وكان ذلك عن طريق الصدفة اذ وقف امامي فجأة وكان بمعطف طويل وراح يتكلم عن ذكرياته الاولى مع اصدقائه وزملائه ورفاقه في الموصل .. وبدا لي انه كان يحمل حّبا عميقا لها اذ أخذ يتغّزل بها وبشوارعها وحدائقها وثانويتها المركزية .. ازقتها وكنائسها العتيقة .. لم اسجّل ما دار من حديث بيني وبينه ولكن بدا لي ان تاريخه السياسي ويساريته ، او بالاحرى شيوعيته قد سّببت له في العراق جملة من المآسي والتي عانى منها ومن تبعاتها ، واذكر انه قال لي عندما سألته عن سبب اخفاق الشيوعية في العراق .. لم يعلّل الامر لاسباب خارجية او عربية او دينية ، بل قال : لقد ارتكب الشيوعيون في العراق اخطاء كبيرة انعكست ضدهم منذ العهد الملكي وحتى اليوم ، مستطردا : اقول هذا لا لأنزه البعثيين من الاخطاء ، ولكن الشيوعيين في العراق كان ينبغي ان يكونوا اكثر نضوجا من غيرهم .. كان يتألم من ذكرى عذاباته التي عانى منها اثر انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ..
يكتب الصديق عبد المنعم الاعسم ذكرياته مع الراحل فتح الله فيقول : ” فحين التقيته، لأول مرة، في معتقل معسكر ابو غريب، بعد اسبوع من انقلاب شباط الاسود 1963 عرفت الى اي مدى امعن خصوم جرجيس فتح الله السياسيين في الاساءة اليه، والتعدي على اسمه، والتجاوزعلى موشور نبالته.. فقد كان مرهفا، بسيطا، مسالما، حساسا، شديد العطف، ساهما، واطئ الصوت، عميق الثقافة والتأمل والمبادرة والاجتهاد والاستشراف ” .
ويتابع الاخ الاعسم ما يتذكره عن فتح الله ليقول : ” كانت القاعة رقم 2 من المعسكر قد ضمتني مع جرجيس فتح الله، وشاءت الصدف ان نكون على متكأ واحد، وكان يخصنا، نحن الشبيبة المعتقلين، المذعورين مما نراه، بالاهتمام والرعاية وتطييب الخاطر، فيما كان الضباط الانقلابيون ينظمون للنزلاء، كل ليلة، حفلات التعذيب والاهانات والتنكيل والتشفي، وقد كانت حصة جرجيس فتح الله من تلك الحفلات كبيرة ومضنية وثقيلة، وفي احدى الليالي ابلغوه ان حكما بالاعدام صدر عليه، وسينفذ فيه يوم غد، لينقذف جميع المعتقلين الى دوامة كابوس مرعب طوال تلك الليلة، وفي الصباح اقتادوه الى جهة مجهولة، لنتحول الى كابوس آخر من الانباء والشائعات عن الطريقة التي استشهد بها جرجيس فتح الله، ثم علمنا انه حي في مكان ما، وان ثمة ما يشبه الفرج انقذ حياته ” .

الكلمة الاخيرة
اقول ، سيكتب المؤرخون في المستقبل قائلين : ان العراق في القرن العشرين قد ازدهر بنخب رائعة من المثقفين السياسيين الحقيقيين الذين ضيعتهم الانظمة السياسية اولا ، ولم يعرف مجتمعهم العراقي بطوله وعرضه قدرهم ولم يثمّن ادوارهم ولا افكارهم ولا انشطتهم ثانيا ، واليوم تستلب التواريخ الوطنية وسير انتلجينسيا العراق لتوزع عليها الاحكام الطائفية والانقسامية بشكل مثير للتقزز ثالثا .. سيكتب المؤرخون مستقبلا وبكل حيادية : ان نخبة من المثقفين الشيوعيين واليساريين العراقيين كانوا اكثر ثقافة واغزر معلومات واوسع تفكيرا واثبت منهجا من غيرهم ، ولكن دفعوا ثمن اخطاء السياسيين منهم والعسكريين وكانوا ثمن ثورة لم تستقم واوضاع العراق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .. كان هؤلاء في واد والعراق والعراقيين في واد آخر .. لقد اراد جرجيس فتح الله ان يعيش ، فتنوعت انتماءاته السياسية والايديولوجية بحكم تنوع العراقيين في القرن العشرين ، وسيبقى اسم جرجيس فتح الله المثقف الذي لولا الاحتماء بالاخوة الاكراد لاصبح طعاما للمقصلة العراقية التي لم ترحم احدا من العراقيين ابدا منذ عشرات السنين !

( فصلة مستلة من كتاب الدكتور سّيار الجميل : زعماء ومثقفون .. ذاكرة مؤرخ ، نشر على حلقات وسينشر في كتاب بمجلدين لاحقا ) .

www.sayyaraljamil.com

ايلاف
5-6/8/2006

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …