تزداد يوما بعد آخر منشورات امريكية سياسية استراتيجية متنوعة تتناول حياة العراق ومصيره .. لقد تحّول العراق من هدف اسقاط النظام السابق فيه عام 2003 الى تسويق الديمقراطية في 2004 الى الترويج للفيدرالية في 2005 .. واليوم يجري تشريع موضوع التقسيم للعام 2006 ، كما يعلمنا رصدنا لاغلب ما ينشر عن العراق في الولايات المتحدة والتي نجحت في اربع سنوات من فرض اجندتها دون ان تعلن البتة عن اهدافها الحقيقية في العراق ، ولكن يبدو واضحا انها انتصرت لنفسها في جعله بؤرة انقسامات متعفنة .. وانها وجدت فيه ملاذا من اجل تغيير المنطقة بعد ترويج بضاعتها ليس بالحروب المأساوية ، بل من خلال صناعة الفوضى الداخلية .. والمشكلة اننا قد انشغلنا بما يحدث في دواخلنا من مآس ومتاعب وصراعات بدل ان نعالج قواعد اللعبة التي اجد اماكنها في الخارج دوما منذ زمن مؤتمر فرساي عام 1919 م وحتى اليوم !
لقد بقي العالم منشغلا بالعراق ومصاعبه طوال الاعوام الثلاثة الماضية ، وهو يسير من سيئ الى أسوأ في ظل الفوضى والعبثية التي يعرف العالم كله من خلقها وساهم في اذكاء مبرراتها .. ونحن نعلم بأن المصالح الدولية تبنى على انسحاقات الاخرين ، فمهما ازدادت شراسة الحرب في العراق ، كلما نشهد التمزقات الداخلية تعصف به وتهدد مصيره الذي يستشرفه المحللون الامريكيون قبل وقوعه .. واخذوا اليوم يبشرون بشهادات ميلاد ثلاث دويلات كانتونية ( عراقية ) ، ستجعل من العراق مستقبلا ان يصبح لقما سائغة بافواه دولتين في المحيط لهما تاريخ عاصف مع العراق منذ مئات السنين !
هل يصدّق المرء ان العراق بتاريخه العريق وتكويناته الحضارية وتنوعاته الاجتماعية والثقافية يألو مصيره الى هذا المآل ؟ هل يصدّق العالم ان شعبا ضحى بالغالي والنفيس من دم ابنائه واغلى ثرواته لأجل وطنه وترابه وامته يتمزق بالشكل الذي هو عليه اليوم ؟ هل يمكن لأحدنا ان يصّدق ان مصير العراق يصبح حكرا على كتّاب مارقين ومحللّين جهلة لا يهمهم الا مصالحهم بعيدا عن المنطق ؟ هل نصّدق ان العراقيين الذين كانوا يحلمون بالحرية والديمقراطية والابداع كمشروع حضاري مؤثّر في العالم يغدو مصيرهم كالذي نراه اليوم ؟ هل نصّدق ان شعبا عانى طويلا من تمردات وانتفاضات وانقلابات وازمات وحصارات وحروب لخمسين سنة مضت .. لم يزل يعاني من حرب عاصفة صحراء لا نهاية لها ؟ هل نصدّق ان امتدادا عضويا لتراب ما بين النهرين دجلة والفرات .. ينادى اليوم بتقسيمه على اساس طائفي مقيت ؟ وهل يصدّق دعاة التقسيم من امريكيين وعراقيين ان التقسيم هو الحل الجذري لمصائب العراق ؟ انهم لا يعلمون بأن الحرب الاهلية ستبدأ من حيث انقسام العراق لا العكس !
كتب بيتر غاليبيرث في كتابه الجديد ( نهاية العراق ) الذي صدر قبل ايام قائلاً : ” العراق يوغسلافيا جديدة ، وينبغي ان يّتم تقسيمه كما تمّ ذلك في يوغسلافيا وان تصبح هناك ثلاث دويلات كردية في الشمال موالية لامريكا وشيعية في الجنوب موالية لايران وسنية عربية في الوسط تعمّها الفوضى … ” .. ان من اسوأ الامور ان يأتي كتّاب وساسة امريكان وغير امريكان ليكتبوا وينظروا في واقع هم بعيدون عنه كل البعد وخصوصا واقع كالعراق المزدحم بالتعقيدات والمشكلات والمخاطر ما لا يمكن تخّيله ..
ان التبشير بتأسيس هكذا دويلات سوف لا يقبلها المنطق ولا الجغرافية حتى وان قبلها العراقيون من دون ارادتهم الوطنية . واعتقد ان العراقيين انفسهم حتى وان اعتقدوا بهذا النهج الذي بدأ يطرحه الكتاب الامريكيون ، فهم الذين سيخسرون ، فالحرب ستستعر ليس سياسيا ، بل اجتماعيا وثقافيا ، اذ لا يعلم المرء حجم المصاهرات والتمازجات بين كافة الاطياف العراقية .. وان الانفصال وحق تقرير المصير على اساس طائفي سوف لا يحل المشكلات ، بل سيزيدها سعارا ! والسؤال الاخطر : ما مصير كانتونات العراق الطائفية في منطقة اقليمية كالشرق الاوسط تعج بالطوائف والملل والنحل الاجتماعية ؟
ويستطرد غاليبيرث مقارنا بين يوغوسلافيا السابقة والعراق قائلا : “لا يمكن اعتبار العراق الآن – كما كان الحال عليه في يوغوسلافيا – دولة موحدة تتفق مكوناتها على مصالح عليا وطنية وإنما مقسمة وكل طائفة فيها لها ولاء خارجي مع دولة ما، ولا تجتمع هذه المكونات السكانية، أو هذه الجماعات الطائفية على شيء، كما أنها ليست مستعدة للتعايش معاً تحت علم واحد”. ومرة اخرى أجيبه بغشاوة الرؤية في النظر للعراق بمنظار يوغسلافي سابق ، فالمكونات اليوغسلافية هي غير المكونات العراقية ، وموقع يوغسلافيا هو غير موقع العراق ، وانبثاق ما سمي بيوغسلافيا الجديدة هو غير تكوين العراق القديم ، وولاءات سكان يوغسلافيا الذين وحدتّهم الارادة الايديولوجية هي غير ولاءات سكان العراق الذين وحدتّهم الارادة الوطنية .. ولنا ان نقارن بين الثقافة العراقية بالوانها المتنوعة وبين الثقافات اليوغسلافية بمضامينها المختلفة .. لقد كان من الميوعة التاريخية ان تتجزأ يوغسلافيا بسرعة وتتلاءم شعوبها بمحددات وحدود وفي اقليم هدأت اوضاعه في شهور ، ولكن من الصعوبة التاريخية ان يتجزأ العراق الا بعد بحار من الدم والعبث بالمجتمع في مدنه وحواضره بين عشائره وقبائله لتقوم بينه وبين نفسه حدود دولية وفي اقليم يعج بالتناقضات والمخاوف والتوحش والاطماع !! ناهيكم عن ان يوغسلافيا لم تكن دولة غنية مليئة بالثروات حتى يطمع هذا وذاك باجزائها او بفيدرالياتها ؟ واخيرا أسأل كل العراقيين : هل دفع اليوغسلاف من حياتهم ودمائهم ما دفعتم انتم لعشرات السنين من دمائكم في سبيل وطن اسمه العراق ؟
البيان
16/8/2006
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …