الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / ما معنى (الثقافة) يا وزير الثقافة ؟؟!!

ما معنى (الثقافة) يا وزير الثقافة ؟؟!!

وصلتني رسالة من قبل احد الاصدقاء المثقفين العراقيين تتضمن تقريرا يحتوي على تصريحات اطلقها وزير الثقافة العراقي المنتهية ولايته السيد نوري الراوي الذي كنت قد التقيت به مرة واحدة قبل اشهر عندما زار ابو ظبي ولكن لم يخرج حديثه عن عموميات ، اذ اكتشفت ان بينه وبين الثقافة بونا كبيرا .. وكنت اسمع حالة الشد والجذب ببغداد بين وزارته وبين المثقفين العراقيين الذين لم يجدوا في وزير ثقافة العراق مثقفا ، ولا ادري كيف وصل الرجل الى مثل هذا المنصب الذي اعتبره احد ابرز مناصب الحكومة العراقية ، فالرجل في مرجعيته ضابط شرطة .. وبالرغم من توازنه وهدوء طبعه ، الا انه لا يستقيم وشريحة المثقفين العراقيين الذين هم بأمس الحاجة الى رأس مثقل بالخبرات والتجارب وقوة التعامل وصلابة المنطق وسلامة الحجة والشخصية النافذة .. وان يكون مثقفا حقيقيا ليدرك قيمة المثقفين في البلاد .
ليعذرني الاخ الوزير المنتهية ولايته ، ان اتوقّف قليلا عند حوار أجرته معه جريدة ” البرلمان ” في بغداد يوم الاثنين 15آيار / مايو 2006، وعلى الصفحة الثامنة ” الثقافية ” ، وليتسع صدره في الذي ساقوله له وخصوصا في ذاك الذي طرحه وان أسأله : هل خانك التعبير وانت تطرح نظرتك الشمولية للمثقف الذي قلت بأنه : ” من يجمع كل الامور ، ويتكلم في كل المجالات ” .. المثقف يا اخي الوزير هو ذلك الانسان المبدع الذي يقدّم شيئا جديدا يبهر الناس كونه حذق ذلك الشيئ وتخصص به وتفنن فيه .. وكم كنت اود ان تحضر محاضرتي التي القيتها في الثامن من فبراير / شباط 2006 بمجلس العمل العراقي بابي ظبي يوم كنت تزورها حتى تتعرف على البنية الثقافية العراقية التي حللّتها ، وقد حضرها مشكورين اعضاء من وفدك عالي المستوى ممثلا بكل من الاستاذة الانسة ميسون الدملوجي والاستاذ كامل شّياع وهما من اعمدة وزارة الثقافة العراقية . الادعياء كثيرون ايها الوزير ، ولكن من يفرز المثقف الحقيقي عن المزيّف ؟ اعتقد ان اللجان والهيئات وفرق من المختصّين تفعل ذلك ، اذ لا يمكن للوزير ان يوّزع الاحكام على هواه خصوصا اذا كان قد اقحم نفسه في ميدان بعيد عنه كل البعد . لا يمكنك ان توزّع الاحكام وانت لا تملك رصيدا في ثقافة البلاد وعند المثقفين .
انك تتساءل : هل يجب أن يكون الوزير فناناً أو شاعراً أو مغنياً ليكون وزيراً ناجحاً؟ لا يمكنك ان تسأل هذا السؤال ، فالوزير صاحب منصب سياسي في حكومة . ولكن من البديهي ان من يقبل تسّلم حقيبة وزارية كهذه لابد ان يكون مثقفا وتشغله القضايا الثقافية .. ومن يتولّى حقيبة الثقافة ينبغي ان يكون واحدا من المثقفين البارزين ، ويتحتّم عليه ان يعيش هموم ثقافة بلده وانه من خلال مكانته يرعى طبقة المثقفين ويرسخ ثقافة قوية وابداعية في المجتمع ناهيكم عن دوره في ان ينقل ثقافة بلده وفولكلورياتها وقيمها وابداعات اصحابها الى كل الدنيا ! فهل تتوفر هكذا صفات في الاخ الوزير ، علما بأنني اعترف بأن التعامل مع طبقة المثقفين ( او : انصاف المثقفين ) العراقيين من أصعب المهام !
لقد توقفت قليلا عند تعريفك ” المثقف ” اذ قلت : ” أنا رؤيتي للشخص المثقف: هو الشخص المربي تربية عراقية عربية إسلامية. والثقافة تعني التربية والأخلاق والمحافظة على الهوية. فإذا ما خرج تعريف الثقافة عن ذلك أو بمعنى آخر اذا ما خرج الإنسان عن طوره، فقد خرج عن الثقافة ” . ما الذي تقصده هنا بهذا التعريف الذي لا يستقيم وقيمة الشخص المثقف ؟؟ اذا كان هذا تعريفك للمثقف ، فانني اعتقد جازما انك لم تقرأ كتابا واحدا في حياتك ، بل ولم تحفظ قصيدة شعر ، بل ولم تمتلك ناصية لغة اجنبية ، بل ولم تعرف تواريخ ثقافة العراق بطوله وعرضه . ان المثقف سيحمل تحصيل حاصل تربية عراقية ولكنها غير مشروطة ، فمجتمعك العراقي متنوع الثقافات ومتعدد الالوان ومبهرج الاشكال ومتباين القيم .. انها تحصيل حاصل في المثقف قد تكّون تكوينا تربويا .. ولكنه يتجاوز ما تريده بمراحل .. انه منتج ابداع في مجتمع يطمح ان يغّيره نحو الاحسن بتعبير او نص او شكل او علاقة او مهمة او مشروع .. الخ.. وسواء كان الابداع قد انبثق من رحم العراق ومجتمع العراق ، ام تأثّر بثقافات ومنتجات مجتمعات اخرى فهنا تكمن قيمته الحقيقية .
ولم تكتف بما اوردته ايها الوزير بما اوردته ، بل زدت في الطين بلة عنما قلت : ” وهناك من يعتقد أو يريد أن تكون الثقافة مستوردة من الخارج بعيدة عن عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية والدينية، لماذا نترك ثقافتنا ونركض وراء الثقافة الأجنبية ” . وهنا أسألك : هل نجحت يا اخي الوزير ان تقرأ كتابا معينا في معاني الثقافة ؟ وهل اطلّعت على مدارس الفن المعاصر ؟ وهل استمعت يوما الى اعمال الفرقة السيمفونية العراقية ؟ هل تعّرفت على المسرح الحديث ؟ هل عرفت مدى تأثر التشكيليين العمالقة العراقيين قبل خمسين سنة بالمدارس العالمية ؟ هل سمعت بدور المعماريين العراقيين ودورهم في العالم ؟ هل عرفت قيمة المثقفين العراقيين الكبار من المفكرين والكتّاب والعلماء الذين نهلوا من ثقافات عالمية ؟ ما هذا التفكير المتّردي الذي يريد من العراقيين ان يكتم انفاسهم ويوزعهم في شرانق واقفاص بتقاليدهم البالية وعاداتهم التي من العيب ان نتغنّى بها بعد اليوم ! ما الذي قدّمته عاداتك وتقاليدك البالية الى هذا العالم ؟ ما نفعها وما فائدتها ؟ لماذا تستورد كل شيئ في حياتك من هذا العالم ويختل توازنك عندما ننصحك بالاطلاع والاستفادة من ثقافات الاخرين وابداعات الشعوب ؟
لماذا تزج اخي الوزير بنفسك في الميدان لتتحدث عن ماضيك وعائلتك .. واذا لم تكن شاعرا او رساما فليس في ذلك عيب ابدا .. وسواء عاقر المثقف الخمرة وعاشر الغواني ام اطلق لحيته واصبح مريدا للمتصوفة او الاحزاب الدينية ، فلا يمكن تقييم ابداعه على هذا الاساس ، والا لما كنا نقرأ حتى يومنا هذا شعر ابو نؤاس ولا العباس بن الاحنف ولا ابن الفارض ولا تعرفنا على شعراء الصعاليك ولا اصحاب الادب الماجن .. ولما تذكرنا حسين مردان والجواهري وجان دمو والقائمة طويلة ؟ من قال لك يا وزيرنا بأن ” الثقافة أخلاق وقيم، لدينا ثقافة خصبة ثقافة القيم العربية الإسلامية ” ـ كما تقول ـ ؟؟ الثقافة هي تكوين وابداع .. هي قيم وفولكلوريات .. هي مأثورات وتقاليد .. هي منتجات وعلاقات .. هي اساليب حياة .. هي عالم غريب تجتمع فيه الوسائل والاساليب لتعبر عن اوضاع مجتمع او بيئة او أي منطقة في البلاد بكل سلبياتها وايجابياتها . انك ان قدّمت خدمة انسانية معينة فهذا يحسب له حسابه ، ولكن ليس من الناحية الثقافية .. اتمنى ان تستمع القول ولا يغيظك هذا الكلام بل تتبع احسنه ، ولننادي دوما ايها الاعزاء : ضعوا الانسان المناسب في المكان المناسب .
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ، 25 مايو 2006 .

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …