الرئيسية / فن وموسيقى / صباح فخري : فنان التقاليد الغنائية القديمة.. صوت رخيم في عصر الفوضى

صباح فخري : فنان التقاليد الغنائية القديمة.. صوت رخيم في عصر الفوضى

ابن حلب الشهباء :
ما يجمعني بهذه المدينة أكثر من سبب .. عشق قديم منذ الطفولة عندما كنا نمر بها نحن ابناء الموصل في طريقنا الى مصايف لبنان بالسيارة .. وموروث مشترك قوي وفعال بين مدينتين متشابهتين الى حد كبير في كل شيىء : الموصل الحدباء العراقية وحلب الشهباء السورية .. وعلاقات اجتماعية ومصاهرات عائلية ومعاملات تجارية وصداقات ثقافية وموروثات تاريخية لأن كلا من المدينتين كانت عاصمة للحمدانيين ، ثم كانت عاصمة للاتابكة الزنكيين ، فقد اسس عماد الدين زنكي حكمه في الموصل ، وانتقل ولده المجاهد نور الدين الى حلب .. وحدثني تاريخ العثمانيين ان مشاكل حلب ما كان يحلها الا ولاة الموصل الجليليون .. وان محنة الموصل عندما حاصرها نادرشاه حصاره الشديد واشتعال الحرب معه لم يقف مع الموصليين الا ابناء حلب وواليهم القازوقجي .. فالشراكة تبدو مصيرية لكل ذي عينين بعيدا عما فعلته العلاقات السياسية الخبيثة بدءا بمعاهدة سايكس بيكو وانتهاء بانشقاقات البعثيين في انظمة الحكم لكل من سوريا والعراق !
لقد تربى صباح فخري في بيئة حلب وهام بعشق موروثها منذ صغره ، وخصوصا ما تميزت به من اداء فن القدود الحلبية القريبة جدا من فن الموشحات .. لم يتثقف صباح فخري ثقافة عالية الا باداء فن القدود والموشحات .. وبعد ذلك قوته في اداء القصائد المغناة على اساس سليم من فن الطرب الاصيل . حكى لي قبل سنوات طوال عندما التقيت به في حلب وقبل ان يبدأ حفلته الشهرية واظن انها كانت في حديقة السبيل ـ ان لم اكن مخطئا ـ بأن بداياته الاولى كانت بسيطة جدا اذ كان يهوى تأدية ألاذان على الصلاة من فوق المنائر وكان يتميز بصوته الجهوري الذي فيه حلاوة وطلاوة مما جذب الناس اليه .. ثم دخل في مطلع شبابه في فرق المادحين والمنشدين ايام المناسبات الدينية ، وقد اكتشف انه قادر على تأدية الانغام العربية التي درسها وبدأ يحلق بصوته الرخيم في تأدية القدود .. فكانت البداية !
علاقات قديمة :
لم يكن صوت صباح فخري شائعا بعد ، ولم تكن الناس تعرف من هو صباح فخري عندما كنت استمع الى تسجيلات حفلاته التي كان يقيمها بانتظام في حلب خصوصا .. ولعل ثمة تسجيلات صوتية نادرة للعديد من حفلاته موجودة اليوم في الموصل . لقد كان على علاقة صداقة وثيقة بالست ماري (…. ) الحلبية التي كانت متزوجة بصيدلي شهير في مدينة الموصل . والست ماري هي التي خلقت هذه العلاقة المتميزة بيننا وبين الفنان القدير صباح فخري .
صحيح ، انه كان قد سحرنا بفاصل ” اسق العطاش ” ، ولكن ذلك جاء متأخرا ، فلقد سجل ذلك منذ زمن بعيد رفقة بعض الفنانين الحلبيين المعروفين ، امثال : سحر ومحمد خيري .. لقد كان اول المهتمين به في العراق هو الاستاذ حازم الشيخ علي وهو موظف موصلي قدير له اذن موسيقية وكان يقتني في داره مكتبة موسيقية رائعة تحتوي على امهات التسجيلات النادرة ومنها ما كان يقتنيه من اعمال صباح فخري .. ثم جاء اهتمامي بهذا الفنان منذ بدايات شبابي عند مطلع السبعينيات ومن خلال الست ماري . وفي مرة من المرات ، كنت في حلب ، احضر حفلا رائعا بدأه صباح فخري في التاسعة ليلا ولم ينته منه حتى الساعة السادسة فجرا .. غنّى فيه قصيدة جميلة جدا هي تشطير كان ناظمه جدي الشاعر والاديب المعروف علي الجميل 1889- 1928م المتوفى في حلب على اثر عملية جراحية . وكان جدي قد شّطر قصيدة السيد كاظم الازري .. ونشرها في حلب خلال احدى زياراته لها . لقد غنى صباح وعلى مدى ساعات صادحا تشطير تلك القصيدة التي مطلعها :
قالوا حبيبك محموم فقلت لهم اني امرؤ صادق لا اعرف الكذبا
استغفر الله عن ذنب شقيت به انا الذي كنت في حمائه سببا
قبلته ولهيب النار في كبدي علي اداوي بي الشوق الذي غلبا
ولم اكن في الهوى ابغي أذيته فاثرت فيه تلك النار فالتهبـــا
وفي سفرة فنية لصباح فخري الى العراق برفقة فرقته الصغيرة لاحياء حفلات مهرجانات الربيع في الموصل ، طلب مني بعض قصائد جدي علي الجميل ، فاطلعته على نسخة من ديوانه ، وقد نسخ بخط يده بعض القصائد منه ووعدني بغنائها ومنها تخميس رائع ، وهناك موشح على نسق التنزيلة الموصلية التي تغنى في حفلات الموصل ، وايضا قصيدة غزلية مطلعها :
طرقتك في الليل البهيم حبيبة عذراء تحكي البدر في الاشراق
ناشدتها وصل الحبيب فما درت أحبيب نجد ام حبيب عراق
الخ القصيدة
بعد حفل الغداء الذي اقمناه على شرف الضيف في واحد من الاماكن الساحرة ، أخذت صباح فخري في جولة معه بسيارتي يرافقنا الاستاذ حازم الشيخ علي في شوارع الموصل واماكنها التراثية والتاريخية ، وكانت الشوارع مليئة بمياه الامطار التي كانت قد تساقطت بغزارة في ذلك اليوم الربيعي الجميل .. وعند المساء ذهبنا الى مجلس الاستاذ الدكتور محمد صديق الجليلي العالم والمؤرخ الشهير الذي كان بانتظارنا ، فجلسنا عنده اكثر من ثلاث ساعات تجاذب الاثنان اطراف الحديث عن الغناء العربي والسيد الحمولي والملا عثمان الموصلي وتأثير هذا الاخير في كل من سيد درويش والسيد خليل القباني والموشحات الاندلسية والتنزيلات الموصلية والقدود الحلبية والطقطوقات المصرية .. وكان الاستاذ الجليلي له باعه الكبير في الفن واصوله والمقامات واصولها ويمتلك تسجيلات قديمة ونادرة في مكتبته الشخصية العامرة .. وقد سأله صباح فخري عن جملة من القضايا الموسيقية والغنائية والتراثية التي افاده بها الاستاذ الجليلي .. وحضر معنا ليلا الحفل الذي اقامه صباح فخري في نادي المحامين بالموصل .
نعم ، لم انس ابدا ذلك الحفل الساحر في قاعة نادي المحامين بالموصل وقد بدأته الفنانة مها الجابري بجملة من اغانيها مع الفنان دريد عواضه الذي سمعت بأنه كان زوج مها .. وبدأ صباح بعد ذلك وأطال في طربه وغناء قصائده واغنياته .. ولكن اختتم الحفل بمشكلة ويا للاسف الشديد ، اذ استفزه بعض الحضور كي يغني عن نظام الحكم السياسي واحمد حسن البكر ، ونحن نعرف مدى الخلاف العراقي ـ السوري منذ ذلك الوقت ، فنزل صباح عن المسرح واختفى في الكواليس فلحقوه الى هناك وهددوه فانصاع وعاد الى المسرح فغنى اغنية بدوية وعربية ” حنا قوم عرب ” واختتمها بسرعه وغاب وراء المسرح ، فلحقوا به ثانية واشهروا عليه السلاح ، ولكن كان هناك من فض النزاع من قوات الامن وغادر فجرا مع فرقته وكان في غاية التوتر والحزن ولكن من دون ان يعود ثانية الى العراق !
وكان ان توفيت زوجته الاولى ام محمد في بداية السبعينيات كما اخبرتني الست ماري ، فارسلت اليه رسالة تعزية مطولة وبمعيتها قصيدة مليئة بالعواطف الساخنة ، وقد وردني جوابا جميلا منه يشكرني على هذه الالتفاتة العميقة والمؤثرة ووعدني بغناء القصيدة ، ولكنه عاد فطلب مني القصيدة ثانية كونه اضاعها .. ولكنني كنت قد مزقت مسوداتها مع الاسف .
وبواسطتي ايضا ، تعرف الاستاذ الراحل حسن العمري على الفنان صباح فخري ، والاستاذ العمري فنان واديب وعازف ماهر ويعشق الطرب العربي ، وقد تكونت بين الاثنين صداقة رائعة دامت طويلا .. وغبت سنوات طوال بعيدا في الغرب وكنت استمع بين اونة واخرى الى بعض كاسيتات صباح فخري ، ولكن لم اكن اعرف اخباره ابدا .. وفي مرة من المرات كنت انزل في الكونتينينتال هوتيل في عمان بالاردن ، وسمعت ان صباح فخري يقيم في نفس الاوتيل ، فاتصلت بغرفته وتحدثت مع سكرتيره الذي قال بأن الاستاذ سيكون بعد ساعة في الاوتيل لأنه ذهب كي يتبضع بعض الهدايا .. انتظرته في البهو ، وبعد قليل دخل الرجل وقد تغيرت طلعته ويبدو الكبر على ملامحه بملابسه الصيفية ، وترافقه سيدة وقورة ومتحجبة .. بادرته سائلا : الا تعرفني يا استاذ صباح ؟ قال : يا اهلين ويا الف سهلين بالحلبية المفخمة . وقال انها زوجتي التي سلمت عليها ، وجلست معه لدقائق معدودة وقد فرحت جدا لأنه عرفني من اللحظة الاولى .. اعطاني عنوانه وارقام تلفوناته واصر علي ان ازوره في دمشق وتوادعنا ومضيت الى سبيلي بسرعة .
وفي الصيف الماضي زرت دمشق لمدة اربعة او خمسة ايام ، ولكن ما كان لدي الوقت ان اتصل بالفنان صباح فخري الذي يكفي ان اسمع اخباره واشاهد بعض حفلاته على التلفزيون .. وتعجبني جدا رقصاته على موسيقاه في المسرح وخصوصا عندما يغغني : ” خمرة الحب اسقنيها ” .. اتمنى ان القاه في مناسبة قادمة لاجدد زمانا كان بيننا منذ قرابة ثلاثين سنة ، ولنذكر معا ذكرى الراحلين جميعا وفي مقدمتهم الست مارى ..
ان صباح فخري هو الفنان الذي لا يحيد ابدا عن ثقافته التقليدية التي تربى عليها وبعض اوصافه التي حفظها على ظهر قلب .. كما انه يطالب دوما بالتجديد من دون معرفة تقاليده اولا وتقاليد الغناء العربي الذي لا يعرف الا الاصول وغناء القصائد ضمن سلم المقامات العربية .. وسيبدو صباح فخري اكثر اشعاعا في عصر لا تمثله الا الفوضى والزعيق باسم الفن الغنائي العربي .. نتمنى ان يبقى صوت هذا الفنان صداحا رخيما وان يأتي من يتعلم منه الكثير ، فهو مدرسة رائعة في فن الغناء العربي ابان القرن العشرين.

عن كتاب الدكتور سّيار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية

شاهد أيضاً

فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو

ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …